معرض الرياض الدولي للكتاب 2023: عرس ثقافي ووجهة عالمية

فعاليات متنوّعة ترفد سوق تداول الكتب

واس
واس
أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب

معرض الرياض الدولي للكتاب 2023: عرس ثقافي ووجهة عالمية

الرياض، جابر محمد مدخلي: على مدار عشرة أيام كان الكتاب هو محور الاهتمام، داخل أورقة أهم معرض عربي من نوعه، معرض الرياض الدولي للكتاب 2023، الذي أوصد أبوابه بعدما ظل فضاء مفتوحا لتداول الكتب والإصدارات، بجديدها وقديمها، والبرامج والندوات التي جاءت في هذا العام مطابقة تماما لشعار المعرض "وجهة مُلهمة" الذي أطلقته وزارة الثقافة ممثلة في هيئة الأدب والنشر والترجمة التي نظمت هذا الحدث الثقافي الكبير.

ترى أستاذة الأدب والنقد بجامعة الأميرة نورة نوال السويلم أن الكتاب "ما زال وسيبقى وسيلتنا للحصول على المعرفة، والجسر الذي نعبر منه إلى الثقافات ويصلنا بالحضارات الإنسانية، وتزداد أهميته بوصفه رافدا ثقافيا يعزّز التواصل والتلاقح الثقافي بين الأمم، ومعارض الكتب العالمية فرصة كبرى لتسويق المعارف والفنون، ولا ينكر أحد جدواها وقيمتها في خدمة المجتمعات، وهذا أحد أسباب صمودها واستمرارها لعقود حيث أنها لم تفقد وهجها وفاعليتها. ومع كل ما ينافس الكتاب من القنوات المعرفية المتعدّدة، بين مسموعة ومرئية، إلا أنه يظلّ واجهة حضارية وشاهدا على القيمة العليا للمعرفة والثقافة. ومعرض الرياض الدولي للكتاب تظاهرة ثقافية كبرى تجسد أهمية الكتب، ونعدّه الحدث الثقافي الكبير الذي ننتظره بشوق ولهفة في كل عام".

تضيف السويلم: "يشكّل هذا المعرض واحدا من أهم معارض الكتب العربية الأكثر حضورا والأعلى نسبة مبيعات وهذا مؤشر يكشّف عن شغف السعوديين بالقراءة، ويؤكد معنى أنه "واجهة ملهمة". وبعيدا من لغة الأرقام، نلحظ احتفالية وحفاوة بالكتاب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، من مظاهرها التعريف بالإصدارات الجديدة، وتبادل القراء قوائم الكتب المعدّة للشراء، واستعراض الكتب المهداة والمبيعة، والبرامج الثقافية والفعاليات المصاحبة للمعرض، والجوائز السنوية، وفي مقام البهجة باستقبال المعرض يتردّد ويكثر وصفه بالعرس الثقافي، وهو بحق وصف دقيق يترجم الجهود المبذولة لإنجاح هذه المناسبة.

التواصل مع العالم

بدورها، تؤكّد الدكتورة نورة القحطاني أستاذة الأدب والنقد الحديث بجامعة الملك سعود أن "الكتب هي المصدر الأول للمعرفة ولغذاء العقل وطريق التقدّم للمجتمعات، وهي التي نروي من خلالها قصصنا ونحتفل بمنجزاتنا ونتذكر ماضينا ونستمتع بواقعنا ونتخيل مستقبلنا. إن اهتمامنا بمعارض الكتب كجزء أساسي من الثقافة يمنحنا فرصة رؤية العالم من خلال عيون الآخرين، فبالإضافة إلى قيمتها المعرفية والثقافية الجوهرية، فإن هذه المعارض تقدّم فوائد اجتماعية واقتصادية مهمة، وتعمل على تحسين مصادر المعرفة، ورفع الوعي بأهمية الكتاب والقراءة للانفتاح على ثقافات الشعوب، مما يشجّع قيم التسامح، ويعمل على تحسين جودة الحياة ويزيد الرفاهية العامة للأفراد والمجتمعات".

بالإضافة إلى قيمتها المعرفية والثقافية الجوهرية، فإن هذه المعارض تقدّم فوائد اجتماعية واقتصادية مهمة، وتعمل على تحسين مصادر المعرفة، ورفع الوعي بأهمية الكتاب والقراءة للانفتاح على ثقافات الشعوب

لا تفصل القحطاني الاهتمام الذي يحظى به معرض الرياض للكتاب برؤية 2030 "التي وضعت الثقافة ضمن اهتماماتها، فبدأت وزارة الثقافة بالعمل على تحقيق ذلك بإطلاق مبادرات متنوّعة تشمل إقامة معارض الكتب ومهرجانات القراءة والاهتمام بالكتاب والنشر والترجمة، مما يوحي بصياغة هوية ثقافية متميزة للسعودية تنطلق من الاعتزاز بالتراث وتعزيز الإحساس بقيمة المعرفة لدى المواطن من جهة، وتمدّ جسور التواصل مع العالم والثقافات الأخرى من خلال قنوات ثقافية متنوعة من أهمها معرض الكتاب الذي يوفر فرصا للتسلية والترفيه والتعلم وتبادل الخبرات مع الآخرين، من جهة أخرى. هذه الفوائد هي جوهر الثقافة، والاهتمام سنويا بإقامة معرض الرياض الدولي للكتاب يعيد رسم الصورة الذهنية للسعودية في العالمين العربي والغربي كنوع من القوة الناعمة ذات التأثير الإيجابي على تعزيز مكانتها إقليميا ودوليا".

 

إثراء الحراك الثقافي

يعتبر الإعلامي جهاد أبو هاشم أن "بعض معارض الكتاب سفينة، وبعضها بحر، وبعضها الآخر منارة، ومعرض الرياض الدولي للكتاب هو السفينة والبحر والمنارة، فيه يلتقي الأدب الأدب، ولا يمكن أن ننسى دوره المؤثّر في إثراء الحراك الثقافي وتعزيز مستقبل صناعة النشر".

حول خصوصية معرض الرياض الدولي للكتاب، يقول أبو هاشم: "جلت عددا من معارض الكتاب في عواصم عربية عدة، ومعرض الرياض هو أكثرها تكاملا، من حيث التنوع في البرنامج الثقافي الذي يحظى به زوار المعرض، واستقطابه أشهر الكُتّاب سعوديا وعربيا وحتى عالميا، متيحا للقارئ لقاء كاتبه المفضل، وكذلك العدد الكبير لدور النشر المشاركة التي تحمل في جعبتها أكثر من مليون عنوان، فضلا عن تصميم المعرض الأنيق، وغيرها من التفاصيل التي تجعل زيارته رحلة معرفية مثمرة".

واس
أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب

من عوامل نجاح معرض الرياض، بحسب أبو هاشم، أنه "ينجح كلّ مرة، في أن يرسخ حقيقة أننا أمة تقرأ، مفنّدا الأقاويل المضادة لذلك، فمبيعات المعرض وعدد زواره والزحام شبه اليومي، كل هذا يشهد أننا لسنا أمة لا تقرأ، بل إننا شغوفون بالقراءة، وإن كانت قلة لا تقرأ تتصدر الدراسات والاستطلاعات".

حول الجانب التفاعلي في معرض الرياض، يقول: "لا أظن أن هناك أمتع من التجوال في معرض الكتاب، وتصفح العناوين، والبحث عن الدهشة، وأجمل اللحظات حينما تنجح في مهمتك، ولا كلمات في القواميس يمكن أن تصف لحظات مصادفتك الأصدقاء أو أشهر الروائيين والشعراء والأدباء في المسرح أو أروقة المعرض، لتشهد قصصا ومواقف تجمعك بهم هنا وهناك، فتصبح زيارة معرض الرياض على مدى السنين مجموعة من الذكريات الثمينة والقصص التي تستحق أن تروى".

ويختم: "حينما سئل المفكر الفرنسي تودوروف ذات مرة لماذا يحب الأدب؟ أجاب 'لأنه يساعدني على العيش'، ولعل هذا أصدق ما يمكن أن يُقال عن الكتاب، نعم، إنه يساعدنا على العيش".

 

حاضرة عصرية

حول الأهمية والقيمة التي يقدمها معرض الكتاب، تقول أستاذة الأدب والنقد المشارك بجامعة الأميرة نورة سهام صالح العبودي: "لا شكَّ أنَّ التدوين واختراع الكتاب كان لحظة فارقة في تاريخ التطور البشري، إذ استطاع الإنسان نقل أفكاره – عبر التدوين – خارج عقله، ليحقِّق فعل التشارك المُخصِب. ولعلَّ هذا ما يجعل الولاء للكتاب ميثاقا ضمنيّا للأداة التي منحت الإنسان امتياز حيازة المعرفة وتبادلها وتوريثها".
وتضيف العبودي: "الرياض حاضرة من حواضر العصر، وبوابة المستقبل، والمدينة التي طرقت باب المستحيل قبل الممكن بيدين غير كليلتين تحتفل بالفكر عبر ملايين الصفحات الساكنة/المتحرِّكة/المحرِّكة تحت ظلال معرضها الدولي للكتاب، إنَّها الثقافة يُحتفى بها، والعقل يُمنح وسائل ترقِّيه، والروح تتسامى في إشراق إنسانيٍّ مدَّته عشرة أيَّام... هل يمكن أن يبلغ مديح الكتب حدَّ الكفاية؟ قطعا لا. فكلُّ معنيٍّ بشأن الفكر يعي أنَّ جزءا منتقلا من آخرين هو الذي سمح له بالحيازة والاكتشاف والتوسُّع والتأهُّل للحضور المُغني في الحياة الفكريَّة لأيِّ شعب، وهذا الميراث الثمين من المعرفة الإنسانيَّة هو مطمع العقل الحيِّ. فالإنسان هو ثروة البلاد، وهو ما قرَّرته الدولة في المملكة رؤية وفعلا. عقله هو موضع الأمل، وعِقال التمكين، وأداة الصيرورة إلى المنتهى المأمول. ودون كتاب وقراءة، دون استكشاف ومدارَسة لن يبلغ عقلٌ مقام التفكُّر المُغني، والنقد المُصلِح، والإنتاج صانع التحوُّل لخير الوطن والإنسانيَّة".

واس
أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب

تصدّر المشهد الثقافي

يعتبر الشاعر والروائي الدكتور شتيوي الغيثي أن معرض الرياض الدولي للكتاب "أهم تظاهرة ثقافية سعودية، وقد يكون هذا الكلام مكررا ولا جديد فيه، لكن في الحقيقة أنه هكذا على الرغم من كونه قد مرّ عليه العديد من السنوات ولا يزال يتصدّر المشهد الثقافي العربي، سواء على مستوى بيع الكتب ورواجها، أو على مستوى حرص المؤلف العربي على أن يكون كتابه ضمن المعرض أو حتى حرص دور النشر على المشاركة وعدم تفويته، إضافة إلى البرامج الثقافية المصاحبة التي هي حالة ثقافية تحتاج إلى قراءة فاحصة في تحولات المشهد الثقافي السعودي وقابليته إلى التجديد والتجدد".

معرض الرياض الدولي للكتاب هو السفينة والبحر والمنارة، فيه يلتقي الأدب الأدب، ولا يمكن أن ننسى دوره المؤثّر في إثراء الحراك الثقافي وتعزيز مستقبل صناعة النشر

ويواصل الغيثي: "من جهة أخرى صار الكتاب السعودي كتابا مقروءا والمؤلف السعودي يحظى بالكثير من الاحترام سواء على المستوى الإبداعي أو المستوى النقدي أو حتى الفكري والفلسفي، فضلا عن دور النشر السعودية والخليجية التي زاحمت بقوة الدور الأخرى بجودتها وقيمتها، وهذا ما جعل معرض الرياض يحظى بهذا الاهتمام الكبير نشرا ومتابعة وتسويقا وتأليفا وأنشطة ثقافية وفنية واستضافات من دول أخرى ولا سيما سلطنة عمان التي كانت هذا العام ضيف الشرف لدى المعرض، ونحن نعلم القيمة الثقافية لما يمتلكه الشعب العماني الذي أعطى هذا المعرض سمة خليجية خالصة ومحفزة للكثير من الاستضافات الخليجية والعربية الأخرى".

 

AFP
زوار معرض الرياض الدولي للكتاب

استراتيجية تنموية

ترى الكاتبة والأكاديمية الدكتورة منى العتيبي أن الكتاب "وسيلة تعليمية وتثقيفية رئيسة في بناء المجتمعات، لأنه يقوم بأدوار جسيمة وعديدة، أهمها نقل المعرفة والمعلومات من جيل إلى جيل عبر مجموعة من الأفكار والمفاهيم والأبحاث التي تساهم في إثراء المعرفة وتطوير المجتمعات. كما يمكن للكتب أن تعرّض الأفراد لثقافات وآفاق جديدة وتوسّع دائرة معرفتهم بالعالم والتاريخ والأدب والفن والثقافة بشكل عام. من أجل هذا فإن الأوطان التي تهتم بتنميتها تعلي قيمة الكتب وأهمية إقامة المعارض وتخصص من موازنتها الغالي والنفيس كي ترعى مثل هذه المعارض وهذا بالضبط ما تفعله المملكة العربية السعودية في حرصها على أن يكون الكتاب جزءا من أدوات استراتيجية تنميتها المستدامة ومن أهداف تحقيق رؤيتها المستقبلية وقد جاء معرض الرياض للكتاب هذا العام 2023 في محراب جامعة الملك سعود تثمينا لقيمة العلم والمعرفة وتعزيزا لدور القراءة، إذ تعدّ قراءة الكتب وتواصل المعرفة اليوم وسيلة فعّالة لتعزيز التفاهم الثقافي والتسامح والتنوع بين الشعوب والإنسانيّة كافة".

تختم: "ما يميز معرض الرياض للكتاب هو ما يضمه من تشكيلة كبيرة ومتنوعة من الكتب في مختلف المجالات والتخصصات. كما أتاح المعرض هذا العام للقراء السعوديين والزوار فرصة الوصول إلى مصادر معرفية متنوعة وتلبية اهتماماتهم واحتياجاتهم القرائية، وتميز معرض الرياض للكتاب هذا العام بتفاعل الناشرين والمؤلفين ومشاركتهم ويعدّ هذا الأمر فرصة للقراء للتفاعل المباشر مع الناشرين والمؤلفين والتحدّث معهم وطرح الأسئلة، والحصول على توقيعات الكتب مما يعزز هذا التواصل الشخصي بين القراء وصنّاع الكتب والناشرين الثقافة القرائية ويعطي الفرصة للقراء لاكتشاف الأفكار والأعمال الجديدة والمؤلفين المحليين والعالميين. كما حظي المعرض هذا العام بالفعاليات والورش الثقافية ومحاضرات التي ناقشت موضوعات علمية وثقافية حيّة تستهدف الأفراد والمجتمعات".

واس
من أجواء معرض الرياض الدولي للكتاب

منافذ التواصل

الكاتب والناشر معتز قطينة يعدّ الحديث عن أهمية الكتاب ضربا من البداهة، "لكنه ليس كذلك في زمن التواصل الاجتماعي، والصخب الذي تحمله مقاطع الفيديو المحمّلة بالدوبامين والمتع اللحظية العابرة، في مقارنة غير عادلة أمام الكتاب وفعل القراءة بوصفها متعة مشروطة بمهارة الصبر والجلَد، إلى جانب كون الكتب مادة معرفية ومصدرا من مصادر التعلم غير المباشر، وهذا أيضا موضع منافسة مع المصادر المعرفية التي تختلف أشكالها عبر الإنترنت، سواء من خلال الفيديو أو البودكاست أو منصات البث الرقمي، وهو ما يقلّص بالضرورة مساحة استخدام الكتب، والوقت المخصص لها، كذلك الكتب الإلكترونية والصوتية التي تنافس لتبتلع حصة من سوق الكتاب التقليدي الورقي، وهو ما يقودنا إلى الحديث عن أهمية معارض الكتب، بصفتها أحد أهم منافذ التواصل المباشر مع القارئ، إذ تتعدّد المناشط والفعاليات المصاحبة للمعرض، وهو ما يحفز القارئ على الحضور مشاركا، ومقيّما، وباحثا، وشريكا في عملية صناعة الكتاب، لا في شرائه فقط.
ومن هذا المنطلق، شهد معرض الرياض للكتاب في دورته هذه تنوعا هائلا، سواء على مستوى الدور المشاركة، أو الفعاليات والأنشطة المصاحبة للمعرض، إيمانا من إدارته بأهمية ربط الكتاب بمختلف الفنون الأخرى التي حضرت في البرنامج المصاحب، سواء الموسيقى، أو المسرح، أو النقاشات وورش العمل، والطرح الجاد الذي اتسمت به الجلسات الحوارية على هامش المعرض".

 معارض الكتب، أحد أهم منافذ التواصل المباشر مع القارئ، إذ تتعدّد المناشط والفعاليات وهو ما يحفز القارئ على الحضور مشاركا ومقيّما وباحثا وشريكا في عملية صناعة الكتاب، لا في شرائه فقط

تتطرق الرئيسة التنفيذية لدار الحوار السورية الناشرة الأستاذة لمى عبود في حديثها عن الكتاب ونشاط النشر: بعد اختراع الكتابة كان لا بدّ من أن توجد البشرية آلية لنقل إنتاجها الفكري بين مكان وآخر وبين زمن وآخر في عملية تراكم بها وجودها الواعي فجاء الكتاب بأشكاله وصيغه المتعدّدة منذ بدء التدوين وسيطا بين عقل الفرد الفضوليّ وما أنتجه الوعي الجمعي للبشرية. وبتطوّر العلوم الإنسانية والأدبية وتقدّمها، تنوعت الكتب وتنوعت معها متعة قراءتها فأنت تقرأ لتتعلم أو تقرأ لتتثقف أو تقرأ لتعزّز خيالك أو حتى تقرأ لتشفى وتهرب متأمّلا في عوالم تسليك عن واقع لا سلوى به. وككل القراء، للقارئ السعودي طابع خاص توجهه ثقافته المجتمعية وتؤثر به التغيرات الحاصلة. وهذا ما نلمسه نحن كناشرين خلال لقائنا بهم ضمن فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب في كل عام، والتي نحاول أن نلبي خلالها ذائقته الفكرية والمعرفية وهي فعلا فرصة للتواصل مع القارئ السعودي بشكل خاص والخليجي بشكل عام فمعرض الرياض يعتبر أيضا وجهة للسياحة الثقافية في الخليج. وأما ما يخص أنشطة النشر فلربما تعد الترجمة إلى العربية من أول الأنشطة التي نهتم بها، فالترجمة جسر ينقل المعرفة بين الأفراد والجماعات".

 

مسقط والرياض... إبداع ثقافي متجاوز  

واس
وزير الثقافة السعودي ونظيره العُماني يزوران معرض الرياض الدولي للكتاب ويحضران حفل الأوركسترا العُمانية

الرياض، محمد جميل أحمد: بين مسقط والرياض الكثير من التفاعل الثقافي الذي يزداد وضوحا اليوم في الحراك الأدبي عبر خصوصية تنوّع كلّ منهما وحضوره. وتأتي استضافة معرض الرياض الدولي للكتاب الثقافة العمانية كضيف شرف لهذا العام 2023، ليشكّل هذا الموعد مناسبة قوية للقاء بين الثقافتين العمانية والسعودية.

وقد عكس اختيار ضيوف الثقافة العمانية معرفة وتقديرا من قبل هيئة الأدب والنشر والترجمة المنظمة لمعرض الكتاب، لهوية الإبداع العماني ووجوهه الحقيقية، فالوجوه الثقافية التي شاركت في المعرض، من روائيين وشعراء وباحثين وفنانين، كانت بالفعل تعبيرا حقيقيا عن مشاركة أبرز رموز الثقافة العمانية.

وفي سبيل التعرف على ردود فعل مثقفين عمانيين وسعوديين حيال هذا الاحتفاء الثقافي الكبير من طرف المملكة وخصوصا في ما يتصل برصد ملامح تفاعل ثقافي حميم بين أكبر مجتمعين في الخليج تميزا بتناظر حضاري تاريخي فريد، تحدّثت المجلة مع الروائي والباحث العماني محمد الشحري، والقاص السعودي هاني الحجي، إلى جانب الناقد السعودي كاظم الخليفة.

 

مشتركات ثقافية

 بداية يقول محمد الشحري: "تحكمنا مشتركات ثقافية وعناصر في الجغرافيا والتاريخ والعلاقات الإنسانية، وتلك مقوّمات قوية لأواصر إبداع واعد في المستقبل. لقد كانت استضافة الثقافة العمانية في معرض الكتاب فرصة حقيقية للقاء طال انتظاره بين ثقافتين كبيرتين في الخليج. فمركزية المملكة اليوم وما يعكسه حراكها  الثقافي والاقتصادي يمثل عمقا خليجيا وعربيا مهما لنا في عمان، لذلك فإن استثمار تلك المقومات لتمتين وجوه من العلاقات المتعددة في أكثر من صعيد هو من أبرز علامات التحديث والنهضة الثقافية في البلدين اليوم".

 

سيستمر التواصل الثقافي بين الأشقاء في المملكة والسلطنة على عدة أوجه، منها العمل على المشتركات الثقافية الإنسانية وإدراجها كملفات مشتركة في مواقع التراث الثقافي العالمي لمنظمة اليونسكو، ناهيك عن التبادل المستمر في العلاقات الثقافية سواء في مجال التعليم أو المجالات الأدبية والفنية

 ويستطرد الشحري قائلا: "لابد من القول إن حضور السلطنة كضيف شرف في معرض الرياض للكتاب سيفتح أبوابا كثيرة من وجوه الثقافة العمانية أمام المواطن السعودي فقد قدّم الضيوف العمانيون صورة جميلة عن التنوّع الثقافي العماني، ويمكن رصد ذلك الانطباع من خلال الحسابات الشخصية لرواد وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية، وبلا شك سيستمر التواصل الثقافي بين الأشقاء في المملكة والسلطنة على عدة أوجه، منها العمل على المشتركات الثقافية الإنسانية وإدراجها كملفات مشتركة في مواقع التراث الثقافي العالمي لمنظمة اليونسكو، ناهيك عن التبادل المستمر في العلاقات الثقافية سواء في مجال التعليم أو المجالات الأدبية والفنية".

 

تفاعل

من ناحيته يقول الناقد والقاص السعودي كاظم الخليفة: "تأتي استضافة سلطنة عمان كضيف شرف لمعرض الرياض الدولي للكتاب تكريما واحتفاء بثقافة العمانيين من قبل أشقائهم في السعودية، فقد رأينا من خلال زيارة المعرض والفعاليات المشتركة التي أقيمت بين الأدباء في البلدين تفاعلا كبيرا، ورغبة في استمرار مثل هذه الفعاليات والأنشطة سواء لجهة التنظيم المؤسس للعلاقات الثقافية بين البلدين أو  من قبل الأدباء. لهذا تأتي هذه الاحتفالية مشتركة من جهة، ولتعزيز مبادرات أدبية مستقبلية كشفت عن بعضها برامج الفعاليات المصاحبة للمعرض من جهة أخرى. فتقدّم الإنسان الخليجي على كافة المستويات، الثقافية والمادية، وكذلك مقدار التشابهات في البنى الفكرية والأدبية، هو الخلاصة التي يمكن استنتاجها بعد الاطلاع على تلك الفعاليات والتي تؤكد تقارب البيئتين والفضاءات الثقافية والمعرفية بينهما".

AFP
زوار ينظرون إلى مخطوطة توراة من القرن السادس عشر معروضة في معرض الرياض الدولي للكتاب في الرياض في 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

أما القاص السعودي هاني الحجي فيعتبر أن "ثمة روابط تاريخية وتراثية عميقة وذات جذور حضارية مشتركة بين السعودية وعمان، وهي روابط امتدّت لتشتمل على علاقات قوية بين الشعبين منذ الدولة السعودية الأولى وحتى الوقت الحاضر. وفي سياق التأسيس لمشاريع ثقافية تأتي هذه الاستضافة استهدافا لوضع رؤية مشتركة لتعميق ورفع مستوى تكامل الثقافتين في مجالات كثيرة. فالثقافتان العمانية والسعودية تتسمان بكل ما يمكنه أن يعكس سياسات ثقافية تخترق معنى الثقافة العام لإطلاق طاقات مبدعي الشعبين في جوانب كثيرة ثقافية وتراثية وسياحية واقتصادية، وذلك دليل على حكمة وعقلانية لطالما عرف بهما البلدان".

 

حكمة واحترام

وحيال اختبار علاقات التناظر الحضاري في مشاريع مستقبلية بين البلدين يقول محمد الشحري: "لم يكن ما بين البلدين وليدا للصدفة، فقد أسهمت المملكة في بداية السبعينات من القرن الماضي بتعاون تنموي انعكس في بدايات تشكل عُمان الحديثة. وظلت علاقات الحكمة واحترام الاختلاف بين البلدين نموذجا لثبات العلاقات الدبلوماسية والثقافية المتبادلة. واليوم في ظل عهدين جديدين في كل من عمان والمملكة، تنفتح إمكانات التحديث على علاقات بينية واعدة بالكثير من ممكنات التطوّر والاندماج في مشاريع ثقافية متعدّدة. فالثقافة في ظل التصور الجديد الذي تختبر به السعودية وجوها مختلفة لإبداع مضفور في رؤى لتشبيك اقتصادي متفاعل، يجد صدى مماثلا في سلطنة عمان قيادة وشعبا. وفي تقديري أن إنجاز منفذ الربع الخالي كطريق صحراوي بين البلدين هو عمل ثقافي في الصميم لأن ذلك الطريق يسمح بتنقل حركة الأشقاء بين البلدين بكل سهولة ويسر".

وعن ذلك المعنى، يؤكّد الناقد السعودي كاظم خليفة جهود هيئة الأدب والنشر والترجمة في احتفائها بالثقافة العمانية أنه "ليس من أهداف هيئة الأدب السعودية، عند اختيارها لسلطنة عمان الشقيقة ضيف شرف لمعرض كتاب الرياض 2023 أن تُقرب القريب، وليس هو بالتالي مبدءا لعمل تجسيري ثقافي فحسب، وإنما هو إبراز لحالة فريدة من التقاربات والتشابهات في مشهديهما، لناحية التسارع الكبير في الاهتمام والمنجز، إن كان على مستوى الشعر والرواية، أم على كافة أنواع الفنون والآداب. فالزخم الثقافي والأدبي المنظم الحاصل في كلتا المؤسستين الثقافيتين، أدّى إلى حصد العديد من الجوائز الأدبية ونتج عنه جودة في مخرجات المواد الأدبية، وبهذا تعزّز الشعور بصحة الهدف وسلامة المسعى لدى البلدين".

 

نجاحات

وحيال ما حقّقه الأدبان السعودي والعماني من نجاحات على مستوى الفن الروائي والأدب عموما يقول الروائي العماني محمد الشحري: "اعتقد أن تلك النجاحات تتصل بما يتميز به البلدان كأكبر مجتمعين في الخليج توفرا على تنوع ثقافي جميل وثري، فالبلدان يطلان على الخليج ولهما عمقهما في الجزيرة العربية، كما يشرف البلدان على أكثر من منفذ مائي، إلى جانب انفتاح كل من السلطنة والمملكة على ثقافات مجاورة للجزيرة العربية، وكذلك لوجود غنى ثقافي تاريخي وحركة نشر ورغبة في التعريف والتعبير عن الذات والمحيط، هذه العوامل في تقديري ساهمت في بروز الأدبين العماني والسعودي وتميزهما في الخليج والعالم العربي وحصد العديد من الجوائز".

التعاون الثنائي الثقافي المشترك بين عمان والمملكة سيعطي مساحة كبيرة للعمل على هدم مقولة ما يسمى بلدان المركز والأطراف، ويكسر حواجز البناء الوهمية السابقة حيال مثل هذه السردية، فلم تعد هناك اليوم مثل هذه الحدود إلا في سياق التوثيق التاريخي

ويرجع القاص هاني الحجي طرفا من ذلك إلى السياسات الثقافية لمجلس التعاون الخليجي ودورها الريادي في التهيئة لذلك: "إن العمل الثقافي المشترك بين السعودية وسلطنة عمان يرتكز على الأهداف الواردة في خطة التنمية الثقافية بدول مجلس التعاون التي أقرّها المجلس الأعلى في دورته الثامنة (الرياض ، ديسمبر/ كانون الأول 1987)، ومن بعدها على الاستراتيجية الثقافية التي اعتمدها المجلس الأعلى في دورته التاسعة والعشرين (مسقط، ديسمبر/ كانون الأول 2008) كبديل عن الخطة التي تضمّنت عددا من الأهداف ظهرت انعكاساتها ليس فقط على البلدين بل على كافة دول مجلس التعاون الخليجي، مثل تطوير البنى الفكرية المستندة على الثقافة كعطاء تنموي حضاري، وتعزيز الوحدة الثقافية، ودور المرأة، ومؤسسات المجتمع المدني في أطوار تلك الاستراتيجية التي اشتملت على استمرار فعاليات لنشاطات دورية مشتركة بين عمان والمملكة في  مجالات الفنون التشكيلية والخط العربي، والثقافة العامة، الإبداع الأدبي، وثقافة الطفل، والعمل الثقافي والمسرحي والفلكلور والسياحة والآثار والمتاحف والتراث الشعبي. وكانت تلك النجاحات المزدهرة للأدب العماني والسعودي من ثمار السياسات الثقافية لمجلس التعاون الخليجي، مما دفع بالأدبين إلى إحراز مواقع متقدّمة على خارطة الإبداع العربي تمثل في تلك الجوائز التي حصدها مبدعون في البلدين على صعيد الشعر والقصة والرواية وجميع الفنون، فهناك روائيون سعوديون وعمانيون حصلوا على جوائز البوكر العربية (على سبيل المثال عبده خال ورجاء عالم، من السعودية وزهران القاسمي وجوخه الحارثي من عمان) وفي البلدين تنظم مؤسسات ثقافية وطنية جوائز كبرى على المستوى العربي لدعم الحراك الأدبي مثل جائزة الملك فيصل وجائزة السلطان قابوس وجائزة الملك عبدالله للترجمة. هذا التطور الثقافي هو الذي منح البلدين تلك النجاحات الثقافية المتقدّمة على مستوى بلدان الخليج".

أما الناقد السعودي كاظم الخليفة فيختبر ذلك النجاح من خلال الشعر بين بعض الشعراء المتميزين في البلدين بقوله: "في الشعر بشكل عام، وعندما نتمثله باعتباره التعبير الأمثل عن مجمل نظراتنا للذات وللعالم المحيط بمكوناته وأشيائه، يمكننا جلب نماذج لنصوص تتشابه في مفهومها لدي شعراء الطرفين. فنص 'مجازات عبور المعنى' للشاعرة العمانية وأميرة الشعراء للموسم الماضي عائشة السيفي، كمثال، هو المقابل في تناظر معناه لنص أمير الشعراء السعودي للموسم السادس حيدر العبد الله "ترجل يا حصان".

عائشة وحيدر كلاهما قدم رؤية حديثة عن مفهوم الشعر؛ عندما ينهض باستحقاقات المرحلة ويجيب عن أسئلة الكائن وتطلعاته بنظرة معاصرة.  فحيدر يرى ضرورة التحرر من قيود التراث بما يتناسب وظرفه الثقافي، ودون الاتكاء على تراث أسلافه من الشعراء. أما عائشة في استشرافها للشعر ومن خلال وصاياها لوليدها، تعبر في نصها عن تطلعها لجيل شاب يواصل مسيرة الشعر برؤيته الخاصة النابعة من استيعابه لثقافة عصره وقضاياه الفكرية، وكدلك عدم استنساخ أي تجارب سابقة، وأيضا الذهاب بالتجريب إلى أقصى مدى تتيحه اللغة بالتعبير الشعري.    

واس
وزير الثقافة السعودي ونظيره العُماني يزوران معرض الرياض الدولي للكتاب ويحضران حفل الأوركسترا العُمانية

     أما على مستوى السرد، فيمكن تقريب التشابهات والدلالة عليها من خلال روايات وقصص تسرد هموم الإنسان الخليجي وصراعات البقاء والاستحواذ، والتطلعات الفكرية والروحية؛ سواء حكايته في عصرنا هذا، أم البعيد نسبيا، ويمكن جلب العديد من الاستشهادات لولا ضيق المساحة. لكن بالرجوع إلى منجزات الكثيرين من الروائيين والقصاص المبدعين في الجانبين السعودي والعماني وحصدهم للجوائز المهمة والاعتراف بمنجزهم، نجد بغيتنا".

 

تجاوز سردية المركز والأطراف

وأخيرا حيال تجاوز الثقافة الخليجية سردية المركز والأطراف عربيا بفعل حراك ثقافي متميز يقول الروائي العماني محمد الشحري: "الشاهد على ذلك أن المملكة العربية السعودية اليوم أصبحت مركزا للإعلام الثقافي ممولة له وبالتالي تجاوزت مقولة الأطراف منذ بروز القنوات الفضائية المملوكة لرجال أعمال وإعلام سعوديين، وكذلك تزايد الحركة النشر والتأليف في المملكة وعُمان وحصول الكتاب العُمانيين والسعوديين على جوائز أدبية مرموقة، كل هذه العوامل تجاوزت مقولة الهامش والمركز، بالإضافة إلى أن القرية الكونية فرضت شروطها على العالم ولم يُعد هناك مركز وهامش، بل العبرة بمن يترك أثرا يبقى في الذاكرة والوجدان وينتزع اعتراف الآخر به".

في ما يرى القاص السعودي هاني الحجي أن "التعاون الثنائي الثقافي المشترك بين عمان والمملكة سيعطي مساحة كبيرة للعمل على هدم مقولة ما يسمى بلدان المركز والأطراف، ويكسر حواجز البناء الوهمية السابقة حيال مثل هذه السردية، فلم تعد هناك اليوم مثل هذه الحدود إلا في سياق التوثيق التاريخي".

font change

مقالات ذات صلة