فرنسا 2023... سنة النكسات "الماكرونية" بامتياز

إخفاقات الحكومة على الصعيد الداخلي

AFP
AFP
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وخلفه شاشة تعرض مشهدا لمتظاهرين من "السترات الصفراء" اثناء مقابلة تلفزيونية في 15 ديسمبر 2021

فرنسا 2023... سنة النكسات "الماكرونية" بامتياز

ينطوي عام 2023 في فرنسا على حدثين لافتين وهما إقرار قانون جديد للهجرة مطابق لنهج يميني متشدد، واستكمال انسحاب القوات الفرنسية من النيجر وإغلاق السفارة الفرنسية في نيامي. ويضاف ذلك إلى سلسلة نكسات تعرض لها طوال هذا العام الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان يراهن على سنة مميزة في ولايته الثانية، خاصة أن ولايته الأولى (2017-2022) لم يبق منها عمليا إلا ذكريات أزمتي السترات الصفراء، و"كوفيد-19". والأدهى استمرار تراجع شعبية الرئيس الفرنسي وتلازم ذلك مع وهن نفوذ فرنسا العالمي، مما يدلل على انعكاسات الاضطراب السياسي الفرنسي في أكثر من مكان.

وفي يناير/كانون الثاني 2023، كان لدى إيمانويل ماكرون ثلاث أولويات في برنامجه: إصلاح أنظمة التقاعد، وإقرار قانون جديد للهجرة، وتعزيز صورة فرنسا على المستوى الدولي. ومن الواضح أنه لم يتمكن من تحقيق أي إنجاز ملموس أو أي نقلة نوعية في هذه المجالات.

ترسيخ وتعميق التصدع الفرنسي

ومما لا شك فيه أن إخفاقات الحكومة على الصعيد الداخلي تعود بنسبة كبيرة منها لعدم تمتع الرئيس إيمانويل ماكرون بأكثرية مطلقة في الجمعية الوطنية، مما تطلب تمرير الكثير من القوانين وفق الفقرة الثالتة من المادة 49 من الدستور عبر طرح الثقة كوسيلة استثنائية لإقرار القوانين.

من المفارقات أن الحكومة التي حرصت طويلا على الحوار مع الحزب اليميني التقليدي (الجمهوريون)، عادت ووقعت في الفخ لأن القانون الجديد مستوحى بالفعل من أدبيات ووثائق اليمين المتطرف

راهن فريق الرئيس ماكرون على أن إصلاح أنظمة التقاعد، يشكل حجر الزاوية في أي إصلاح اقتصادي. لكن التركيز على زيادة سن الإحالة إلى التقاعد من أجل تحقيق توازن أفضل لعائدات صناديق التقاعد، لم يأخذ بعين الاعتبار ضرورة الجمع بين المنطقين الاقتصادي والإنساني. ولهذا لاقى هذا الإصلاح الكثير من الاعتراضات داخل البرلمان وخارجه، وشهدت البلاد موجة احتجاجات واسعة تخللها الكثير من العنف، وانتهى الأمر بصعوبة فائقة مع انضمام بعض اليمين التقليدي إلى جانب الأكثرية الرئاسية. بيد أن اضطرار رئيسة الحكومة إليزابيث بورن للجوء إلى التدبير الاستثنائي في التصويت على المشروع جعل هذا الإصلاح مبتورا. وكان من الواضح أن تركيز ماكرون معركته السياسية والبرلمانية على موضوع العمر، قاد إلى توحيد قطاعات واسعة من الرأي العام ضد إصلاحاته. 

ولم يكن الوضع أفضل بالنسبة لقانون الهجرة المثير للجدل الذي أقره البرلمان الفرنسي في التاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول بصورة نهائية، بعد أشهر طويلة من النقاش المحتدم.

في التسلسل الزمني، منيت حكومة إليزابيث بورن ووزير الداخلية غيرالد دارمانان بهزيمة في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول إثر فشل تمرير المشروع الأولي المتوازن جراء تصويت مشترك ضده من قبل كل المعارضات اليمينية واليسارية في الحادي عشر من ديسمبر/كانون الأول. وقاد ذلك إلى خضوع غالبية الأكثرية الرئاسية للتوجه اليميني المتشدد، إذ إن النص الذي تم اعتماده بعد التوصل إليه بعناء من قبل اللجنة المشتركة بين مجلسي الشيوخ والنواب، لا يخالف فقط توازن المشروع الأولي الذي تم الدفاع عنه لأكثر من سنة من قبل الحكومة، إذ إنه يحتوي على إجراءات تتعارض مع المبادئ الجمهورية الأساسية مثل الحقوق الاجتماعية المتساوية وحقوق الأرض.

Shutterstock
مظاهرة "للسترات الصفراء" في ساحة الجمهورية في باريس احتجاجا على ارتفاع اكلاف المعيشة في 8 ديسمبر 2018

ومن المفارقات أن الحكومة التي حرصت طويلا على الحوار مع الحزب اليميني التقليدي (الجمهوريون)، عادت ووقعت في الفخ لأن القانون الجديد مستوحى بالفعل من أدبيات ووثائق اليمين المتطرف، ولم تتردد مارين لوبان باعتباره نصرا آيديولوجيا. ولهذا حاول الرئيس إيمانويل ماكرون تبرير الاستدارة اليمينية من إحالة النص المعتمد إلى المجلس الدستوري عله يصحح بعض مواده. 

AFP
متظاهرون ينددون بقانون الهجرة الجديد الذي صدر في 10 ديسمبر

أدى هذا الاضطراب في المشهد السياسي إلى مزيد من التصدع ووصل الانقسام إلى داخل أكثرية الرئيس إيمانويل ماكرون، واستقالة بعض الوزراء، وترافق ذلك مع اتهام اليسار لسيد الإليزيه بتقديم تنازلات غير مقبولة لليمين المتطرف.

هكذا بدا قانون الهجرة وكأنه يمثل قطيعة سياسية وأخلاقية مع تاريخ فرنسا التي كانت تفاخر بأنها بلد اللجوء وحقوق الإنسان المستندة إلى قيم الحرية والمساواة والإخاء. 

وكما في الداخل كان دور فرنسا الخارجي على المحك عام 2023.

 

اهتزاز الصورة الدولية لفرنسا 

 

للتذكير وفق دستور الجمهورية الخامسة، يصنف مجال السياسة الخارجية والدفاع، من الميادين الحصرية في صلاحيات رئيس الجمهورية؛ ولهذا كان انسحاب فرنسا من الساحل الأفريقي، والارتباك في مقاربة حدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحرب غزة، حلقات من سلسلة النكسات الماكرونية ومن إشارات تراجع الدور الفرنسي حول العالم.

تدلل نكسات فرنسا في 2023 على احتمال اجتماع كل نقاط الضعف في الولاية الثانية لماكرون، إذ يقترن الضعف التدريجي لسلطة رئيس الجمهورية مع الضعف السياسي لحكومته وأكثريته النيابية

وكان من المنتظر أن يمثل الصراع الروسي- الأوكراني فرصة مناسبة لفرنسا كي يسمع صوتها، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون الذي سعى للتمايز عشية اندلاع الحرب في فبراير/شباط 2022، عاد وذهب بعيدا في الحلف الغربي ضد روسيا، دون أن يخدم ذلك بالضرورة موقع فرنسا التي حرصت في عز أيام الحرب الباردة (1960-1990) على هامش معقول من الاستقلالية وما سمي الاستثناء الفرنسي.

AFP
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون اثناء زيارته لقوة فرنسية في قاعدة الامير حسن الجوية في الاردن في 23 ديسمبر

وفي القارة السمراء خصوصا في غربها ومنطقة الساحل، كان عام 2023 عسيرا لفرنسا مع اضطرارها إلى سحب قواتها من بوركينا فاسو، والنيجر، ومما لا شك فيه أن كسوف الدور الفرنسي هو نتاج تراكم تاريخي، ولا يتحمل عهد الرئيس إيمانويل ماكرون كل المسؤولية عنه. بيد أن تحكم الإليزيه في إدارة الملف الأفريقي وعدم الاستدراك في اللحظة المناسبة أسهما في المزيد من تهميش الدور الفرنسي. 

أما بالنسبة لحدث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وحرب غزة، فقد اتسم الموقف الفرنسي بالتخبط وعدم الفعالية. وإذا كانت المواقف الأولية المندفعة في الاصطفاف مع إسرائيل قد أثارت غضب المتعاطفين مع الفلسطينيين في فرنسا وغيرها، سرعان ما أصبحت المواقف الفرنسية المؤيدة لوقف إطلاق النار محور انتقاد الفريق الموالي لإسرائيل، وبدت فرنسا كأنها لا ترضي أي طرف وتخسر إمكانية لعب الدور الوسيط. 

تدلل نكسات فرنسا في 2023 على احتمال اجتماع كل نقاط الضعف في الولاية الثانية لماكرون، إذ يقترن الضعف التدريجي لسلطة رئيس الجمهورية مع الضعف السياسي لحكومته وأكثريته النيابية. وفي الوقت نفسه تفقد الماكرونية جوهرها وأسسها الوسطية. ويطرح بقوة التساؤل عن كيفية إكمال الرئيس ولايته وسط أكثرية ضائعة وتخبط سياسي مقلق.

font change

مقالات ذات صلة