الشعارات السياسية في منطقة رمادية بملاعب كرة القدم

في عدم الاتساق في تطبيق لوائح "فيفا" بشأن تسييس كرة القدم

AP
AP
ملعب "الأول بارك" قبل إلغاء مباراة كأس السوبر بين غلطة سراي وفنربخشه بالرياض، الجمعة 29 ديسمبر 2023

الشعارات السياسية في منطقة رمادية بملاعب كرة القدم

قليلة هي المواقف التي اتفق عليها قطبا إسطنبول "غلطة سراي"، و"فنربخشة"، في تاريخهما الذي يمتد لأكثر من قرن، والحافل بشتى أنواع الخلافات على أرض الملعب وخارجه.

العداوة التي وصلت أحيانا إلى حد العنف أنتجت بعض اللحظات الأيقونية في تاريخ المنافسة بين الجيران في كرة القدم، لعل من أبرزها تلك التي زرع فيها مدرب "غلطة سراي" جرايم سونيس علم ناديه في منتصف ملعب منافسه اللدود في النهائي الأشهر في تاريخ كأس تركيا عام 1996، قبل أن يفلت بمعجزة من فتك جماهير "فنربخشة" به ليتحول بهذا الفعل إلى أسطورة في تاريخ "غلطة سراي"، رغم أنه قضى موسما واحدا مع الفريق.

في الرياض قبل أيام قليلة كان من المفترض أن ينقل الناديان المنافسة الكبيرة بينهما إلى السعودية لخوض مباراة كأس السوبر التركي. ولكن بدلا من أن نشاهد حلقة أخرى من "الديربي العابر للقارات" كما يطلق عليه بين "غلطة سراي"، الممثل للشطر الأوروبي من إسطنبول، و"فنربخشة" فخر الطرف الآسيوي من المدينة نفسها، اتفق الفريقان في سابقة نادرة على عدم الذهاب إلى الملعب، وأطلت السياسة وشعاراتها لتطفئ أنوار ملعب "الأول بارك" دون أن تقام المباراة. بينما أشعلت الجدل من جديد حول ما يمكن أن يدخل الملعب مع الجمهور واللاعبين من شعارات سياسية وما يجب أن يبقى خارج حدود الكرة.

إصرار الفريقين على ارتداء قمصان تحمل صور مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك وبعض أقواله هو الذي أدى إلى إلغاء المباراة، بعد أن خالف ذلك الإصرار الاتفاق المسبق بين المنظمين والناديين واتحاد الكرة التركي. لكن هذا الجدل الذي وحد الفريقين في موقفهما لم يكن سوى انعكاسا لواقع متوتر بشكل بات معتادا مؤخرا في كرة القدم التركية، يغذيه مؤخرا مد قومي متصاعد ليس مستغربا أن تظهر آثاره في لعبة بتلك الجماهيرية.

اقرأ أيضا: مارادونا 1986... الفتى الذي علّمنا السحر

الاحتفالات بمئوية الجمهورية التركية دفعت الفريقين إلى المطالبة- قبل السفر إلى الرياض- بتغيير محل إقامة المباراة، إما إلى الملعب الأولمبي في إسطنبول الذي يحمل اسم أتاتورك، وإما إلى ملعب 19 مايو/أيار في مدينة سامسون، حيث بدأت شرارة ما يعرف بـ"حرب الاستقلال" التي انتهت بإعلان الجمهورية. وخلف تلك الاقتراحات يبرز اسم علي كوتش، سليل أغنى العائلات التركية ورئيس نادي "فنربخشة"، الرجل الذي حل قبل سنوات خلفا لعزيز يلدريم في رئاسة النادي رغم دعم صريح للأخير قدمه رئيس الدولة رجب طيب أردوغان، المعروف بتشجيعه للفريق الأصفر والأزرق.

انتماء أردوغان لـ"فنربخشة" لم يمنع جماهير النادي من الهتاف ضد الحكومة في ملعب النادي بعد كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا مطلع العام الماضي، مثلما لم يمنع كوتش من تعزيز علاقة وثيقة تجمع عائلته بحزب الشعب الجمهوري المعارض والذي يعتبر نفسه الوريث الشرعي للأتاتوركية العلمانية.

جددت حادثة غلطة سراي وفنربخشة التساؤلات حول مدى التقاطع الذي لا يمكن تفاديه أحيانا بين كرة القدم والشعارات السياسية.

ولم يكن غريبا أن تلقى توجهات على كوتش خلال أزمة كأس السوبر صدى في أوساط "غلطة سراي"، نادي الشطر الأوروبي من إسطنبول الأقرب للأفكار الأتاتوركية، والذي خرج بالأساس من رحم مدرسة ثانوية هدفت لتكوين فريق "يمكنه اللعب مثل البريطانيين والفوز على الأجانب"، بحسب كلمات مؤسس النادي علي سامي ين، الذي ربما لم يتخيل أن يصبح فريقه بطلا أوروبيا على حساب البريطانيين يوما ما، إلا أن ذلك حدث بالفعل عندما فاز "غلطة سراي" بكأس الاتحاد الأوروبي عام 2000 متفوقا على آرسنال الإنجليزي في النهائي، وهو لقب تركيا الوحيد قاريا حتى اليوم.

اقرأ أيضا: "لولا فسحة الملعب": لماذا نعشق كرة القدم؟

الخلفية المسيسة التي أتى بها الفريقان إلى الرياض فرضت نفسها في النهاية على محاولات اتحاد الكرة التركي اللحاق بركب بطولات أخرى تقام في الرياض منذ سنوات دون أزمات تذكر وبحضور جماهيري قوي مثل السوبر الإيطالي والإسباني. وأكد المأزق الذي تعيشه اللعبة في البلاد بعد أن تم إيقاف الدوري المحلي في وقت سابق من ديسمبر/كانون الأول عندما وجه أحد رؤساء الأندية لكمة أسقطت حكم إحدى مباريات فريقه بالدوري المحلي أرضا. لكنها أيضا جددت التساؤلات حول مدى التقاطع الذي لا يمكن تفاديه أحيانا بين كرة القدم والشعارات السياسية.

التقاطع بين كرة القدم والشعارات السياسية

وبينما تبدو اللوائح واضحة على الورق ضد رفع الشعارات السياسية في الملاعب، تماما كتلك التي استند إليها اتحاد جدة السعودي الذي غادر مباراته مع سباهان الإيراني في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، متأكدا من فوزه بنقاط المباراة دون لعب، بقرار الاتحاد الآسيوي، في ظل وجود تمثال في مدخل الملعب لقائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي قتلته الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات، يظهر تعامل الهيئات الدولية المنظمة لكرة القدم مع بعض القضايا السياسية فشلا في التوصل إلى سلسلة من المواقف المتسقة.

الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) وهو الجهة التي تصدر اللوائح ذات الصلة أظهر ارتباكا واضحا، أولا عندما استبعد روسيا من عالم كرة القدم على خلفية غزوها لأوكرانيا، وثانيا عندما بدأ لاحقا في تخفيف الحظر على الفرق الروسية دون أن يتغير الواقع الذي فرض على أثره ذلك الحظر. كل هذا حدث بينما لا يزال رئيس الفيفا جياني إنفانتينو محتفظا بوسام الصداقة الذي حصل عليه من الرئيس بوتين شخصيا بعد مونديال ناجح نظمته روسيا عام 2018.

AP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يصافح رئيس الفيفا جياني إنفانتينو خلال حفل توزيع الجوائز في الكرملين في موسكو في 23 مايو 2019

العلاقة الملتبسة بين الشعارات السياسية وكرة القدم لم يكن ينقصها سوى مواقع التواصل الاجتماعي لتزيد من ذلك الالتباس. فمنشور مؤيد للفلسطينيين على "إنستغرام" أنهى مسيرة اللاعب الهولندي أنور الغازي في الكرة الألمانية بعد أنْ فصله نادي ماينز عندما رفض التراجع عما كتبه.

القرار جاء للمفارقة بعد أقل من عام من احتجاج لاعبي منتخب ألمانيا تحديدا بإشارة تكميم الأفواه في مونديال 2022 احتجاجا على منع الفيفا ارتداء شارة لدعم المثليين خلال مباريات البطولة. وعبارة "من النهر إلى البحر" التي تدوي في شوارع لندن كل سبت منذ اندلاع حرب غزة خلال المسيرات المؤيدة للفلسطينيين دفعت الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم لإرسال تعميم يطالب فيه اللاعبين بعدم استخدامها على حساباتهم الشخصية، بعد أن خلص إلى أنها "تعتبر مسيئة لكثيرين" على خلفية ردود الفعل تجاه تغريدة للاعب ليستر سيتي حمزة تشودري احتوت على هذه العبارة.

الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) وهو الجهة التي تصدر اللوائح ذات الصلة أظهر ارتباكا واضحا، أولا عندما استبعد روسيا من عالم كرة القدم على خلفية غزوها لأوكرانيا.

وقد قرر الاتحاد نفسه التحرر من عبء إضاءة قوس ملعب "ويمبلي" لأي قضية سياسية أو اجتماعية مستقبلا، بعد أن أثار تجاهله للمطالب بإضاءة القوس الشهير بألوان العلم الإسرائيلي بعد هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول انتقادات من داخل الحكومة البريطانية وقيادات المجتمع اليهودي.

منطقة رمادية

المنطقة الرمادية التي تتسع يوما بعد الآخر في إشكالية كرة القدم وشعارات السياسة، لا تساعد في تضييقها حقيقة أن عددا لا يستهان به من الكيانات الكروية يحمل في مجرد وجوده بالأساس رسالة سياسية.

أشهر هؤلاء لا يمكن أن يكون سوى نادي برشلونة الذي يرفع مشجعوه علنا شعار "كتالونيا ليست إسبانية" بينما يرتدي لاعبو النادي ألوان علم الإقليم المطالب بالانفصال عن التاج الإسباني.

ودون البعد السياسي- والطائفي أحيانا- لم يكن لديربي اسكتلندا بين رينجرز وسيلتك أن يحتفظ بتلك التنافسية حتى مع تراجع قيمة الفريقين في الهرم الرأسمالي لكرة القدم البريطانية.

اقرأ أيضا: كرة القدم السعودية... "إستراتيجيا التحول" التي أذهلت العالم

Reuters
الفريق الأول لنادي برشلونة - 25 نوفمبر 2023

لكن الأسئلة حول جدوى التمسك بهذه الشعارات كما فعل كبيرا الكرة التركية قبل مباراة الرياض قد تصطدم بمعطيات الواقع الكروي الجديد الذي تتسابق فيه الأندية بحثا عن قواعد جماهيرية جديدة تضمن لها المال الذي يضمن لها أن لا تتحول تلك الأندية إلى ذكرى جميلة تحت وطأة الديون وعدم القدرة على مواكبة سباق التعاقد مع المواهب. 

وفي هذا السباق لن يكون هناك مجال لتغريدة مثل التي أطلقها "داريل موري" مدير فريق هيوستن روكيتس دعما لمتظاهري هونغ كونغ قبل سنوات. والتي كلفت الرجل منصبه بعد أن تسبب في عاصفة دبلوماسية مع الصين كلفت دوري كرة السلة الأميركي خسائر بمئات الملايين من الدولارات.

font change

مقالات ذات صلة