الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميليه: منقذ أم "مجنون"؟

Axel Rangel Garcia
Axel Rangel Garcia

الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميليه: منقذ أم "مجنون"؟

ردا على صحافي أميركي سأله كيف يفسر شعبيته المفاجئة، أجاب الرئيس الأرجنتيني الجديد خافيير ميليه (Javier Milei) من دون تعقيد: "من وجهة نظري، هناك سببان، واحد له علاقة بسيرتي الشخصية، والآخر له علاقة بالميل الطبيعي للتمرد".

بالنسبة للسبب الأول، يتابع ميليه: "شعبيتي لها علاقة بخلفية سيرتي، فقد كنت حارس مرمى وأيضا مطربا في فرقة روك آند رول، وفي الوقت ذاته أنا اقتصادي. أعتقد أن هذه التوليفة جعلت مني منتوجا تلفزيونيا جذابا".

وبالنسبة للسبب الثاني، يسترسل ميليه: "تعيش الأرجنتين منذ أكثر من مئة سنة في نظام يتبنى الأفكار الاشتراكية. من هنا، الميل الطبيعي هو التمرد عليها وتبني الأفكار الليبرالية، والتمرد ميل طبيعي لدى الشباب، وقد وجدوا فيّ شخضا يحدثهم عن الليبرالية وينتفض ضد الوضع القائم".

من هو خافيير ميليه وهل ينجح هذا الرئيس غريب الأطوار الملقب بـ"لوكو"، أي المجنون، بإخراج الأرجنتين من أزمتها المزمنة؟

السخط لجلب الأضواء

ولد خافيير ميليه عام 1970 في عائلة من الطبقة الوسطى تقطن في منطقة باليرمو في بوينس أيريس، وهي منطقة سكنية مشهورة بخضارها وبنشاطاتها الترفيهية. يملك والده شركة نقل خاص وأمه سيدة منزل. لأسباب غامضة، البعض ينسبها إلى تعنيفه من قبل والده خلال طفولته، قطع كل علاقاته مع والديه خلال أكثر من عقد ولم يتصالح معهما إلا قبل أشهر قليلة من انتخابه رئيسا. له أخت تصغره بسنتين اسمها كارين (Karine)، وتلعب دورا حاسما في تنظيم حياته وتوازنه العاطفي. يقول عنها إنها "رئيسته وإن علاقته بها مثل علاقة النبي موسى بشقيقه وحامل رسالته هارون، فهي موسى وأنا مجرد مذيع لرسالتها".

القاسم المشترك في كل تصرفات ميليه هو السخط والإثارة والاستفزاز لجلب الأضواء عليه

في الواقع، كارين مديرة حملته الانتخابية وقد عينها مديرة مكتبه في رئاسة الجمهورية. وهي تتقاسم  دور "السيدة الأولى" مع قرينته، الممثلة والمطربة المتخصصة بتقليد الشخصيات الفنية والسياسية، فاطمة فلوريز (Fatima Flores). وأسوة بـ90 من المئة الشعب الأرجنتيني، ميليه من عائلة كاثوليكية ولكنه اعتنق في السنوات الأخيرة تيارا دينيا يدعى "شهود نوح". أعضاؤه من غير اليهود الذين يمارسون التعاليم التوراتية، وكان يقول إنه يريد أن يكون أول رئيس يهودي في الأرجنتين. لم يخف إعجابه بدولة إسرائيل وقال إنه يريد نقل السفارة الأرجنتينية إلى القدس (مقرّ القنصلية الأرجنتينية في مدينة هرتسليا الإسرائيلية).

AFP
ميليه والرئيسة السابقة كريستينا كيرشنير بعد ادائه اليمين الدستورية في10 ديسمبر

قبل الحملة الانتخابية، كان يهاجم البابا الأرجنتيني فرنسيس بعنف، معتبرا إياه "شيوعيا وممثلا لإبليس على الأرض"، وخلال الحملة الانتخابية خفّض لهجته ضدّه، وقد هنأه البابا بعد فوزه فيما دعاه ميليه لزيارة البلد. القاسم المشترك في كل تصرفات ميليه هو السخط والإثارة والاستفزاز لجلب الأضواء عليه. يقال إن "لوكو" الطالب الصغير كان يتصرف على هذا النحو في فترات الاستراحة لإثارة اهتمام زملائه الصغار والتفلت من مضايقاتهم، وأن حارس المرمى– الماهر- كان يقوم بحركات غريبة على الملعب لاستقطاب اهتمام الجمهور. أما المطرب فكان يقلد ميك جاغر برقصاته المثيرة... في كل نشاطاته، كان يلقب بـ"لوكو" (المجنون)، وهو عنوان الكتاب الذي صدر أخيرا ويروي سيرة حياته.

 

كوكتيل الاقتصاد والشتيمة والكلاب

 

درس ميليه الاقتصاد وعلّم هذه المادة في جامعات عدة. اعتمد مبادئ ما يسمى "المدرسة النمساوية"، وهي مدرسة اقتصادية برزت في نهاية القرن التاسع عشر تشكك في اعتماد العلوم الدقيقة في العالم الاقتصادي لأنها  تعتبر هذا الأخير قائما فقط على قرارات نابعة من الفردية الذاتية، ما يميزها عن تيارات الاقتصاد الكلاسيكي وكذلك عن الاقتصاد الكينيزي. ينتمي بفكره إلى المبدأ "الليبرتاري" (libertarian) وهي فلسفة سياسية نشأت في الولايات المتحدة تزاوج بين ليبرالية مطلقة تمارس ضمن اقتصاد متحرر من القوانين مع دولة الحد الأدنى أو حتى غياب الدولة.

برز ميليه على الساحة العامة منذ عقد تقريبا كمعلق تلفزيوني اقتصادي بشعره المنكوش وبسترته الجلدية، وتميز أسلوبه الغاضب برفع الصوت ومقاطعة الصحافيين وافتعال المشاكل مع الضيوف الآخرين

الغاية هي الوصول إلى مجتمع قائم على حرية الاختيار عند كل فرد. يصف ميليه نفسه بأنه "فوضوي رأسمالي" فيما يحتار أساتذة العلوم السياسية بين من يصنفه بالمحافظ الليبرالي الصاخب ومن يرى فيه الشعبوي اليميني المتطرف. مجتمعيا، يتبنى ميليه أطروحات صارت دارجة في صفوف اليمين المتطرف في القارة الأميركية مثل التشكيك في الاحتباس الحراري ومعارضة الإجهاض والدفاع عن حق اقتناء الأسلحة لدى العامة. باسم مبدأ الحرية، تكلم حتى عن تحرير تجارة الأعضاء، قبل أن يتراجع عن ذلك. يَتّهم بالشيوعية كل من لا يوافقه الرأي، ولا يُخفي أن أول بطاقات تهنئة تلقاها بعد انتخابه وصلته من الرئيسين السابقين، الأميركي دونالد ترمب، والبرازيلي جايير بولسونارو، وأن حفل تنصيبه الشهر الفائت جمع أهم تجمع لرموز اليمين المتطرف في القارتين الأميركية والأوروبية.

في الحقيقة، برز ميليه على الساحة العامة منذ عقد تقريبا كمعلق تلفزيوني اقتصادي بشعره المنكوش وبسترته الجلدية، وتميز أسلوبه الغاضب برفع الصوت ومقاطعة الصحافيين وافتعال المشاكل مع الضيوف الآخرين، واللجوء إلى الشتيمة إزاء الطبقة السياسية، ما أثار بداية الاستغراب ثم الاهتمام وصولا إلى تشكيل قاعدة من المريدين، جعلته ضيفا دائما على الشاشات والإذاعات.

من هنا، صار لديه برامجه الخاصة، وأشهرها "مهدّم الخرافات" أو "منبر حر"، وصولا إلى المشاركة في مسرحيات فكاهية تدور حول شخصه، "عيادة ميليه". وفي كل هذه النشاطات، وأيضا في مهرجاناته السياسية لا يتردد في الغناء معتمدا على صوته الرخيم وعلى تدبيلة عينيه الزرقاوين. وأغرب ما في جعبته هو حديثه عن كلبه "كونان" المتوفي عام 2017 والذي لا يزال يستشيره بواسطة وسيط، وقد استنسخه أربع نسخ (في شركة أميركية دفع لها خمسين ألف دولار)، وأعطى لكل نسخة اسما اقتصاديا مشهور!

 

الأسد يصارع الطبقة بالمنشار الكهربائي

 

معتمدا على نجوميته الإعلامية، قرر خوض العراك السياسي خلال جائحة "كوفيد-19" حيث اعترض– دائما باسم الحرية الفردية- على حملات التلقيح وعلى تدابير العزل الاجتماعي، ودعا إلى مظاهرات ضمت بضع مئات. عام 2021، شكل ائتلافا سياسيا عنوانه "الحرية تتقدم"، مكونا من حزبه "أنصار الحرية" (Partido Libertario) ومجموعات صغيرة عدة. كما ترشح مع آخرين من "الحرية تتقدم" إلى الانتخابات البرلمانية، وقد فاز هذا الائتلاف بمقعدين في العاصمة، واحد لميليه والآخر لنائبته الحالية في الرئاسة، فيكتوريا فيلارويل (Victoria Villaruel)، المقربة من أوساط الدكتاتورية العسكرية البغيضة التي حكمت الأرجنتين في السبعينات والثمانينات.

تأهل ميليه للدورة الثانية ولكن أتت النتيجة أقل مما كان يتوقع فيما تقدم عليه البيروني سيرجيو ماسا بحوالي 6 نقاط مئوية. لذلك عقد، بين ليلة وضحاها، صفقة مع جزء من المعارضة التقليدية الليبرالية

في المهرجانات، كان ميليه يبدأ خطاباته قائلا: "لست آتيا لقيادة النعاج بل لإيقاذ الأسود". علم الائتلاف أصفر وفي وسطه أسد من المفترض أن تذكر لبدته بشعر ميليه الوفير. يريد "لوكو" أن "يفترس" الطبقة السياسية بمجملها واخترع لذلك بطلا خرافيا يرتدي ألوان حزبه على شاكلة سوبرمان وسماه "أن-كاب"، والتسمية تلخيص لـ"فوضوي- رأسمالي". كما لا يخفي كرهه لأكبر شخصيتين سياسيتين عرفتهما الساحة السياسية الأرجنتينية، الراديكالي خوان إيريغوين (Irigoyen)  و"العدلوي" خوان بيرون (Peron)، والمرتبط اسمهما ببناء الدولة الأرجنتينية وبحقوق الطبقات الشعبية. وقد تداول حزبهما السلطة منذ أكثر من مئة سنة تقريبا من دون انقطاع، إلا في فترات الدكتاتوريات العسكرية. 

AFP
ميليه ومنشاره الآلي اثناء حملته الانتخابية في العاصمة بوينس ايريس في 25 سبتمبر

في الحملة الانتخابية الأخيرة، اعتمد ميليه على صورة المنشار الكهربائي الذي كان يلوح به للتدليل على رغبته في استئصال المصرف المركزي وفي تقليص حجم الدولة والنفقات العامة. في الدورة الأولى، احتدمت المعركة بين ميليه ومنافسيه، وزير الاقتصاد مرشح الحركة البيرونية سيرجيو ماسا (Sergio Massa)، ووزيرة الداخلية السابقة باتريسيا بولريش (Patricia Bullrich) مرشحة المعارضة التقليدية باسم الراديكاليين والمحافظين. وجود ميليه كمنافس حقيقي غيّر في قانون اللعبة التقليدية، وأسلوبه كال لمنافسيه تهما وشتائم لم تكن متداولة من قبل، وعرف الرجل كيف يرسمل على الأزمة الاقتصادية المزمنة منذ أن كان منافساه– كل على حدة– في السلطة. وهكذا انتزع من جمهور المعسكرين (بخاصة الرجال)، من جهة الطبقات الوسطى التي تقترع عادة ضد البيرونية ومن جهة أخرى شريحة وازنة من ناخبي البيرونية الفقراء، إضافة إلى اعتماده على قاعدة صلبة من الناخبين الشباب الذين لم يعرفوا الدكتاتورية العسكرية التي سقطت قبل أربعين عاما، والذين تجندوا لمساندته ولتعميم أفكاره على وسائل التواصل الاجتماعي. 
تأهل ميليه للدورة الثانية ولكن أتت النتيجة أقل مما كان يتوقع فيما تقدم عليه البيروني سيرجيو ماسا بحوالي 6 نقاط مئوية. لذلك عقد، بين ليلة وضحاها، صفقة مع جزء من المعارضة التقليدية الليبرالية بمبادرة من الرئيس السابق المحافظ موريسيو ماكري (Mauricio Macri) ومرشحته بولريش: من جهة، ضمن لهما ولأصدقائهما حصة وافية في النظام الجديد، بينما رأيا هما فيه– بالرغم من تحفظهما على شخصيته- فرصة فريدة لتسديد ضربة قاسية للبيرونية لن تتكرر في المستقبل القريب. 
أما القسم الآخر من المعارضة- خصوصا الراديكاليين– ففضلوا البقاء على الحياد. وعندما فتحت الصناديق، تبين أن رهان ماكري كان ناجحا إذ تقدم ميليه في 20 ولاية من أصل الولايات الـ24 وحصل على أكثر من 55 في المئة من الأصوات، وهي أعلى نسبة يحصل عليها رئيس منذ عودة الديمقراطية، متخطيا رقم الرئيسة البيرونية كريستينا كيرشنير (Cristina Kirchner)  التي كانت قد نالت أكثر من 54 في المئة من الأصوات (من الدورة الأولى) في ولايتها الثانية عام 2011. وصار خافيير ميليه بكلماته "أول رئيس ليبرتاري في التاريخ".  

مصير ميليه في سباق مع الوقت


أبعد من خزعبلاته وأيضا من شطارته، مصير ميليه مرهون الآن بما سيحدث في الوضع الاقتصادي. يراهن على تضعضع خصومه (الحركة البيرونية تلقت ضربة قوية ما يمنعها من أن تبادر إلى معارضته، مع أنها باقية، أول أقلية في مجلسي النواب والشيوخ)، ولكنه أخذ يسرع من خطواته لفرض أمر واقع جديد في سباقه مع الوقت؛ استبدل المنشار الكهربائي بقلم الحبر، وأخذ يغرق البلد في بحر من المراسيم والقوانين والحبل على الجرار لإرساء أسس "ثورته" التي سيصعب العودة عنها إذا سلكت، وقوامها تقليص حجم الدولة قدر الإمكان وخصخصة كل ما يمكن خصخصته وتحرير القطاعات والأنشطة من القوانين والقواعد. 
إنه يدري تماما أنه لم ينتخب بسبب برنامجه الاقتصادي بل بسبب صرخة الغضب التي ولدتها الأزمة الاقتصادية في بلد وصلت نسبة التضخم فسه خلال آخر 12 شهرا إلى 160 في المئة، ونسبة من يعيش تحت خط الفقر إلى 40 في المئة، وتحت خط الفقر المدقع إلى 10 في المئة. الأزمة أولا، وصورته كنقيض عن الطبقة الحاكمة برمتها، وتعبيره عن "طفح الكيل" في المجتمع، هذا ما جعل كل هذا الجمهور غير المتجانس يقترع له ويوصله إلى السلطة. 
تمر الأرجنتين بأزمة عميقة من دون أدنى شك– عناصرها كالعادة في هذا البلد، التضخم وعجز ميزان المدفوعات والمديونية الخارجية-  ولكنها ليست بالضرورة الأسوأ في تاريخها، كما يردد ميليه من دون انقطاع ليفتح الطريق أمام مشاريعه التغييرية. وهنا بيت القصيد: ميليه اليوم– مسلحا بفوزه الكاسح- هو اللاعب الأقوى على الساحة، فيستبق الآتي بالقول إنه بسبب الإرث الكارثي الذي استلمه، لا مجال للتدرج ولا علاج إلا بالصدمة، كما يصارح الشعب وينذره بأن حالة الجميع ستسوء قبل أن تتحسن؛ فالعوائق على طريقه ليست بسيطة: الدستور الذي يحد من حركته، السلطة التشريعية حيث ليس لديه إلا 10 في المئة من النواب و15 في المئة من الشيوخ، ولكنه يراهن على حلفائه الجدد وعلى من يجذبه بريق السلطة لتشكيل أكثرية جديدة، إضافة إلى حكام ولايات قد يحتاجون إلى السلطة المركزية. 
أيضا من هذه العوائق، السلطة القضائية التي ستبت بالطعون المقدمة أمامها حول عدم دستورية عدد من مشاريعه وقوانينه، والنقابات التي دعت إلى إضراب عام في 24 الشهر الجاري، وقد بدأ يضيّق على حرية التظاهر. يهدد ميليه الذي طالب بصلاحيات استثنائية للتشريع حتى نهاية ولايته، باللجوء إلى الاستفتاء الشعبي إن وقف أحد من هؤلاء في طريقه. ولكن كلما مرّ الوقت، سيُنسَب إليه ما يُنسَب اليوم إلى أسلافه؛ إذا زاد التضخم وتدهورت ظروف حياة الطبقات الوسطى والفقراء  بدلا من أن تتحسن، وإذا شعر الرأي العام أن ميليه صار يراعي جزءا من الطبقة السياسية بعد أن تحالف معها، أو أن هناك طبقة من الأغنياء أخذت تستفيد من الظروف الجديدة فيما الآخرون يدفعون الفاتورة لوحدهم. 
قد ينقلب المزاج الشعبي مجددا، وهناك بوادر مبكرة ومقلقة في هذا الاتجاه. الصورة مبهمة اليوم لأن كل ما يحدث هو خارج المعهود، ولكن الأشهر المقبلة كفيلة بحسم ما إذا كان المجهول الذي اختارته الأرجنتين سيقودها إلى الهاوية أو سينتشلها منها.

font change

مقالات ذات صلة