الأرجنتين من أزمة البيزو إلى نقمة الدولار

وعود الرئيس الجديد خافيير ميلي بالدولرة دونها تحديات وأكلاف اقتصادية باهظة

رويترز
رويترز
ورقة نقدية من فئة 100 دولار طبع عليها وجه الرئيس الأرجنتيني المنتخب خافيير ميلي خلال حملته الانتخابية قبل انتخابات الإعادة التي فاز بها في 19 نوفمبر/تشرين الثاني

الأرجنتين من أزمة البيزو إلى نقمة الدولار

الانتخابات الرئاسية الأرجنتينية الأخيرة اقتصادية بامتياز، إذ جرت بين وزير الاقتصاد، سيرجيو ماسا، الذي يعتبر "سوبر وزير" (Superministro) لجمعه ثلاث وزارات مستقلة، الاقتصاد والتنمية الانتاجية والزراعة، وبين استاذ الاقتصاد، خافيير ميلي، صاحب الشخصية المتألقة والحضور الإعلامي المميز بنشر الفكر اليميني التحرري والشعبوي، والداعي الى تقليص حجم الحكومة والقطاع العام وانفاقاتهما بشكل كبير واعتماد السوق الحر كاملا. وقد أوضح توجهاته في مؤلفاته العديدة التي تظهر تأثره بالنزعة الرأسمالية التحررية للاقتصادي الأميركي، موراي روثبارد، وللمدرسة الاقتصادية النمسوية.

أتى فوز ميلي كاسحا بنسبة 55 في المئة من الأصوات الناخبة وبأكثر من 11 في المئة من أصوات المقترعين لمنافسه ماسا، في إشارة واضحة الى رغبة الارجنتينيين بالتغيير نتيجة فشل السياسات المعتمدة وفقدان الصدقية لدى مسؤوليهم، حيث تشير توقعات المصرف المركزي بلوغ معدل التضخم في نهاية هذه السنة 185 في المئة، وأن يعيش أرجنتيني واحد تقريباً من كل اثنين تحت خط الفقر، أي بأقل من 1,9 دولار في اليوم.

وكان "إل لوكو" (الرجل المجنون) كما يسميه انصاره، يشاهَد في الاجتماعات العامة رافعا صورة كبيرة لورقة من فئة الـ 100 دولار أميركي تعبيرا عن اعتماده العملة الأميركية شعارا لحملته الرئاسية، التي تضمنت على رأس الأولويات، إلغاء الطبقة السياسية التي يصفها بالفاسدة، وإغلاق المصرف المركزي، واستبدال عملة البيزو بالدولار وتشجيع التعامل بالعملات المشفرة.

المصرف المركزي في دائرة الاتهام

جاءت تصريحاته عن المصرف المركزي في أجواء الذكرى المئوية الأولى للمؤتمر النقدي الدولي الذي انعقد في بروكسيل عام 1920، وأُعلِنت فيه رسميا، وللمرة الأولى، ضرورة إنشاء مصرف مركزي في كل دولة إن لم يكن موجودا فيها بعد، بهدف توفير التمويل لإعمار ما دمرته الحرب العالمية الأولى، بعدما تبين أن الذهب المتوافر لا يكفي لهذه العملية.

AFP
خافيير ميلي الشخصية "الشعبوية" يمكن أن تولد "التوترات"، كما يقول الخبراء. وهو خبير اقتصادي ليبرالي (53 عاماً)، كرر في حملته الانتخابية بما يشبه تعويذة مفادها أن حلفاءه الرئيسيين في السياسة الخارجية الولايات المتحدة واسرائيل

لكن تقاعس المصرف الفيدرالي الأميركي (FED)، الذي سبق تأسيسه نهاية عام 1913 انعقاد مؤتمر بروكسيل، دفع بالنائب لويس توماس ماك فادن إلى إطلاق أول هجوم لاذع على الأخير في جلسة عقدها مجلس النواب في 10 يونيو/حزيران 1932 لتقييم أدائه قبل اندلاع أزمة 1929 وأثناءها وبعدها، متهما إياه "بأنه من أكثر المؤسسات فسادا في العالم" ووصفه "بالمؤسسة الشيطانية التي أفقرت الشعب الأميركي ودمرته، وأفلست نفسها، وأفلست حكومة الولايات المتحدة"، وقد فعلت ذلك "من خلال الثغر الموجودة في القانون الذي تعمل بموجبه ومن خلال سوء إدارة القيمين على المصرف وممارساتهم الفاسدة".

أما بالنسبة الى الاقتصادي الشهير، ميلتون فريدمان، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، فقد كان موقفه الأولي متحفظا، إذ قال "إن شؤون النقد أمور جد خطيرة لكي تترك للمصارف المركزية فقط". وتدارك لاحقا محملا البنك الفيديرالي "المسؤولية إلى حد كبير عن أزمة عام 1929 بخفضه المعروض النقدي بمقدار الثلث بين عامي 1929 و1933". وانتهى بتسجيل إخفاق المصارف المركزية في تحقيق الاستقرار النقدي الذي هو في صلب مهماتها "بزيادة معروضها من النقد بشكل أسرع من نمو الانتاج، مما ساهم في ظهور الفقاعات في أسعار العقارات والأصول والأوراق المالية" على النحو الذي أفضت إليه آخر الأزمات الثلاث: فقاعة الإنترنت عام 2001 وفقاعة العقارات عام 2008، وأزمة كوفيد عام 2020".

يري خافيير ميلي إن مسؤولية المصرف المركزي الارجنتيني جلية للعيان من خلال إخفاقه في احتواء التضخم المتفلت والحفاظ على سعر صرف البيزو، مما يتطلب ليس فتح مضبطة اتهام في حق المصرف فحسب، بل اتخاذ قرار سريع بإغلاق أبوابه

تزايد التركيز على الاخفاقات المتتالية للمصارف المركزية في تحقيق ما انتدبت للقيام به من احتواء للتضخم والحفاظ على الاستقرار المالي بطريقة شفافة، الأمر الذي دعا الاقتصادي باري أيشنغرين الى الإعلان أن هذه المصارف باتت الآن موضع شبهة و"في قفص الاتهام" عند حدوث أية أزمة ذات انعكاس مالي، للتحري عن مسؤوليتها عن هذه الازمة. وهو أمر تجاوزه الرئيس ميلي بالقول إن مسؤولية المصرف المركزي جلية للعيان في حالة بلاده من خلال إخفاقه في احتواء التضخم المتفلت وفي الحفاظ على سعر صرف البيزو، مما يتطلب ليس فتح مضبطة اتهام في حق المصرف فحسب، بل اتخاذ قرار سريع "بأخذ المنشار" وإغلاق أبوابه.

الحقيقة أن تعبير "إغلاق أبواب المصرف المركزي" ليس جديدا، فقد سبق أن استخدمه الاقتصادي الفرنسي موريس ألليه حامل جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 1988، في معرض استنكاره لرضوخ المصرف المركزي على الدوام لطلبات حكومته الاقتراضية، إذ تساءل أليس من الأجدى في هذه الحالة إغلاق أبواب هذا المصرف ونقل عملياته الى دائرة الإصدار في وزارة المالية؟ مشككا في منافع الحالة الاحتكارية التي يتمتع بها المصرف المركزي في ظل غياب الرقابة التشريعية على إدارته التي تتعامل مع حق من حقوق الإنسان، هو استقرار النقد، من دون مساءلة وتقديم حساب عن قرارات يصدرها دون شرح مسهب لها للجمهور، كما هي الحال مع الأسباب الموجبة التي ترفق عادة بالقوانين.

مكاسب الدولرة كعملة بديلة؟

يستدعي إغلاق أبواب المصرف المركزي الأرجنتيني التفكير في عملة بديلة للبيزو، والخطة المعلنة للرئيس المنتخب ميلي لاعتماد الدولرة بصورة رسمية ونهائية وكاملة، لا بصورة فعلية ومتدرجة وجزئية، في استعادة لمشروع الرئيس كارلوس منعم لعام 1999، الأمر الذي أدى إلى حشد الأرجنتينيين حوله أملا بتكريس استخدامهم الفوري للدولار الأميركي في معاملاتهم وكوحدة حسابية ومخزن للقيمة، مما ينسيهم مآسيهم الماضية مع البيزو.

وتجذب الدولرة عادة، بمفهومها الواسع (Xénomonétisation) الذي يشمل استخدام دولة ما أيا من العملات الأجنبية القوية كالجنيه الإسترليني واليورو والفرنك السويسري، وليس الدولار فقط، الدول والكيانات الصغيرة مع استثناء الإكوادور والسلفادور وغواتيمالا من أميركا الجنوبية التي اعتمدت الدولار عملة رسمية لها. واتخاذ الأرجنتين التي تمتلك 265 مليار دولار نقدا، وفي حسابات لدى المصارف الأجنبية، وهو أكبر مخزون من الدولارات خارج الولايات المتحدة، قرارا رسميا باعتماد الدولار عملة رسمية لها، من شأنه أن يغير مشهد القارة الأميركية برمته لجهة تعزيز الدولرة فيها. كما سيؤثر سلبا بلا شك على المنحى الذي تقوده مجموعة "بريكس بلاس" لتقليص هيمنة الدولار عالميا باعتبار أن الأرجنتين كانت من بين ست دول دُعيت، وبدعم من الرئيس البرازيلي، الى الانضمام الى المجموعة خلال القمة الأخيرة التي انعقدت في جنوب أفريقيا، وها هي الآن على وشك اتخاذ القرار بالانتقال في اتجاه معاكس يعزز هيمنة الدولار. 

AP
الرئيس المنتخب خافيير ميلي، مع شقيقته كارينا (الى اليمين) ونائبته فيكتوريا فيلارويل

يطمح الرئيس المنتخب ميلي الى تحقيق مكاسب متنوعة من دولرة اقتصاد بلاده بشكل كامل أهمها الآتي:

أولا، تعزيز صدقية حكوماته في مواجهة أزمات الصرف بإزالة أخطارها، مما سيؤدي إلى كبح هجمات المضاربين وانخفاض أسعار الفائدة من خلال خفض علاوة الأخطار وتعزيز البيئة الاستثمارية.

 ثانيا، خفض التضخم وتكاليف معاملات تحويل الأموال والتحوط بالعملات الأجنبية، مما سيعزز التكامل التجاري والمالي مع الولايات المتحدة وسائر الدول التي تتعامل بالدولار.

ثالثا، تطوير القطاع المصرفي الأرجنتيني بتعزيز ارتباطه بالمؤسسات المصرفية والمالية الأميركية وقوانينها وأنظمتها.

رابعا، التحوط بشكل أفضل من أزمات الديون وتعزيز الانضباط المالي ودعم استقرار المؤسسات نتيجة للاستقرار النقدي والعودة المفترضة للثقة التي فقدت بسبب العجوزات المستمرة في المالية العامة وأيضا في ميزان المدفوعات، والاخفاق في كبح التضخم ووقف تزايد معدلات البطالة.  

أكلاف سيادية باهظة  

المكاسب السابقة التي يتوخى الرئيس المنتخب ميلي تحقيقها من دولرة اقتصاد بلاده، دونها اعتراضات وتكاليف باهظة. فأهم الاعتراضات الشائعة على الدولرة الكاملة هو فقدان الدولة المدولرة لاستقلالها في رسم سياستها النقدية، مما يعني أن الأرجنتين ستصبح بالدولرة خاضعة لقرارات الاحتياطي الفيديرالي المصدّر للدولار الأميركي. وهذه هي الحال أيضا مع دول العملة الموحدة الأوروبية، اليورو، لكن حجم الخسارة للأرجنتين أكبر لأنها تتأثر بالسياسة النقدية التي يضعها الاحتياطي الفيديرالي على أساس مؤشرات اقتصاده، ويتلاعب بأسعار الفائدة وفقا للضغوط التضخمية أو آفاق النمو ذات الصلة بهذا الاقتصاد. بينما في "الاتحاد النقدي الأوروبي" يحق لكل دولة الحصول على مقعد الى الطاولة حيث يتم صنع السياسة النقدية والاقتصادية.  

ستخسر الأرجنتين أيضا سلاح سعر الصرف كأداة من أدوات التدخل عند الصدمات، ولن تكون محمية من التقلبات في سعر الدولار في مقابل العملات الأخرى. تاليا، سيقلل ارتفاع قيمة الدولار قدراتها التصديرية، وسيزيد في الوقت ذاته أسعار الواردات من الدول التي لا تنتمي إلى منطقة الدولار.

AFP
الرئيس خافيير ميلي، يتحدث في مقر حملته الانتخابية في بوينس آيرس. ولطالما أشاد دونالد ترامب به كنوع مميزمن القادة الأقوياء وهو احتفل بفوزه

كذلك ستفقد الارجنتين الإيرادات التي كان في إمكان مصرفها المركزي الحصول عليها من امتياز سك النقود، بعكس ما يحصل في "مجلس النقد" حيث يتم ابقاء العملة الوطنية مع ربطها بالدولار بسعر صرف ثابت. وستكون هناك نفقات سيتم تكبدها لشراء العملة الأجنبية لتحل محل العملة المحلية التي تحتفظ بها المصارف والوكلاء الاقتصاديون الآخرون. وسيتم طرح العملة الجديدة للتداول إما من طريق السحب من احتياطيات العملات الأجنبية الموجودة أو من خلال قروض خارجية. تاليا فإن الأرجنتين ستحرم نفسها من الدخل المتأتي من هذه الاحتياطيات أو تتحمل تكلفة الاقتراض.

للمزيد إقرأ: كيف حصل الانهيار النقدي والمصرفي في لبنان؟ 

من جهة أخرى، ستختفي، مع الدولرة الرسمية، وظيفة مقرض "الملاذ الأخير" في الأرجنتين التي كان من المفترض أن يتولاها مصرفها المركزي في حال اندلاع أزمة سيولة في القطاع المصرفي. والخوف أنه لن تكون هناك مع الدولرة قدرة على وقف التهافت على الودائع وخطر الإفلاس العام. جدير بالذكر أن هناك من يرى أن انتهاء دور مقرض "الملاذ الأخير" سيجبر مؤسسات الائتمان على إدارة أخطارها بشكل أفضل مما يؤدي إلى تقليل تعرض النظام المصرفي للخطر.

 أخيرا، اختيار الأرجنتين للدولرة سيحرمها من أدوات مواجهة التقلبات الخارجية أو الداخلية، مثل السياسة النقدية وسياسة سعر الصرف. ويعتبر فقدان هذا الاستقلال أيضا أحد عيوب "مجلس النقد" الذي يحظر أي لجوء إلى خفض قيمة العملة. علما أن الأرجنتين كان لها بين عامي 1991 و2001 تجربة كارثية مع "مجلس النقد" أفضت إلى إعسار مصرفي على نطاق واسع وتخلف عن سداد الديون السيادية وانخفاض سعر الصرف وانكماش الناتج المحلي الإجمالي وحدوث أزمتين اجتماعية وسياسية كبيرتين. وأهم اسباب فشل هذه التجربة عدم الانضباط في الموازنة العامة والمبالغة في تقييم سعر الصرف الحقيقي وارتفاع منسوب الائتمان لقطاعات غير تصديرية وتسجيل فجوات مستمرة بين الادخار والاستثمار على المدى الطويل من قبل الدولة والقطاع الخاص على حد سواء.

font change

مقالات ذات صلة