محمد ساري يعود إلى "العشرية الدامية" في "جسدي المستباح"

رواية أضاعت بوصلتها السردية

محمد ساري

محمد ساري يعود إلى "العشرية الدامية" في "جسدي المستباح"

يستعيد مؤلف "جسدي المستباح.. حبٌّ في عصْف الرّعب" محمد ساري أكثر فترات الجزائر دموية بعد استقلالها، محاولا أن يكون وفيّا لمشروعه السردي المشتغل على ثيمتَي الموت والذاكرة، من خلال قصة يرويها على لسان بطلته مليكة التي تنتهي بها أحلام الحريّة والبحث عن ذاتها في أحضان مجموعة إرهابية تتخذها سبية باسم جهاد النكاح.

يبدو هذا التمهيد لأحدث أعمال محمد ساري الصادر عن "منشورات المتوسّط"، مقدمة رواية تصنع السبق السردي في الجزائر بتناولها موضوع السبي لدى الجماعات الإسلامية المسلحة التي عاثت قتلا ودمارا في بلد تعافى لتوّه من احتلال دامٍ زاد على 132 سنة، لكنه في الحقيقة تمهيد عن رواية قد يكون ساري فكّر فيها لكنه نسي وهو يهم بتحريرها أن يكتبها. فلسبب لن يفهمه القارئ طوال هذا العمل الممتد على أكثر من 270 صفحة، لم يستطع الكاتب على الرغم من توفر جميع مكونات القصة الجميلة في روايته، أن يحبك عمله على نحوٍ يمنحه بعض الروح. فباستثناء الفصل التمهيدي الذي جاء متماسكا وكثيفا ومشتغلا عليه على مستوى المشاعر والصوت خاصة، لن تشعر أنك تقرأ لكاتب متمكن من أحداث عمله وملم بشخصياته وحافظ لمسار الوقائع التي يفترض أن تخدم فكرة واضحة، بل إنك لن تشعر أبدا أن هذا الذي تقرأ له يحمل اسم محمد ساري الذي سبق أن أتحفنا بأعمال متقنة الصنعة. صحيح أن متن ساري السردي في أعماله السابقة لا يمكن وصفه بالاستثنائ والعبقري، على غرار جلّ نصوص المدونة السردية الجزائرية المكتوبة بالعربية، لكنه كان دائما متنا يحترم معايير كتابة الرواية، بحيث لا تجد له عملا واحدا يخلو من الصنعة الروائية. فحتى في فترة خوار الرواية الجزائرية في تسعينات القرن المنصرم، استثنيت نصوصه من تلك التي وصفت بالاستعجال أو تلك التي اعتبرها الطاهر وطار روايات معوّقة.

الخيبة

على الرغم من توفر نص ساري على جميع ما يسمح بكتابة رواية قويّة، إلا أنه كتب نصا مفرغا من الروح، لقد حرر هذه الرواية وسردها على لسان امرأة، لكنك باستثناء الفصل التمهيدي الذي سأعود إليه، لن تشعر أبدا أنك في صدد امرأة تتكلم، فلا التصوير ولا الكلمات ولا اللغة هي لامرأة، حتى المشاعر التي كان من المفترض أن يحقن بها نصه لتجعلنا نتصوّر أننا نقرأ لفتاة في سن المراهقة، لم يستطع تحريرها على الورق من باب الإيهام، العنصر الأهم في أي رواية تصبو إلى النجاح فحسب. لقد قدم لنا طبقا لا ملح ولا توابل فيه، معتقدا أن القارئ مجبر على أن يؤمن بأن السارد امرأة، لا لشيء إلا لأنه يخبره بذلك.

على الرغم من توفر نص ساري على جميع ما يسمح بكتابة رواية قويّة، إلا أنه كتب نصا مفرغا من الروح

تناولت "جسدي المستباح" مواضيع مهمة كالحريّة والمراهقة وأحلام الشباب والأم العزباء، والجماعات الاسلامية المسلّحة والموت والسبي والاغتصاب والخرافة وغيرها من المواضيع التي كان في مقدور ساري التركيز على أحدها والاشتغال عليها ليطلق رواية جيّدة، بل كان من ضمنها مواضيع لم تتطرق إليها الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية، لكنّه لم يفعل، بل اختار تشتيت روايته على نحو حرمها من التشكل ومن امتلاك هوية واضحة، مفضلا سردا بلا صوت وقصة بلا حبكة وشخصيات لا نحت فيها وحكاية بمجرد أن ينتهي الواحد من قراءتها يتساءل متى تبدأ، ليقدّم لنا في النهاية عملا يبدأ بالأمل وينتهي بخيبة حقيقية في كاتب لطالما أحببنا أعماله، إذ لا وجود لخيبة حقيقية إلا إذا تعلقت بمن نحب، مثلما يقول جورج برنانوس.

الفصل التمهيدي

جاءت رواية "جسدي المستباح.. حب في عصف الرعب" في ثلاثة أقسام وفصل تمهيدي وفصل أخير أوحى أنه خاتمة من نوع ما حمل عنوان "ما أحلى الحياة". تضمن كل قسم عددا من الفصول المرقمة بمجموع 22 فصلا، لكن يبقى الفصل التمهيدي هو أهم فصول الرواية،  ولعلّه سبب ما قد يتشكل من وهم أو أمل لدى القارئ في خصوص "جسدي المستباح"، التي بشّر مطلعها بأنها ستكون عملا عظيما واستثنائيا، فقد كتبه ساري بأسلوب يجبرك من أول فقرة على متابعة القراءة، مستعينا بلغة موغلة في الأنثوية، ذات جمل سردية ممعنة في الكثافة، عملت على خلق نسيج رائع من التشويق الباعث لفضول القارئ في خصوص ما سيجري لاحقا من أحداث، استعمل فيه الكاتب تصويرا مشهديا يعتمد على القطع والتداخل، تتخلله مونولوغات داخلية نجحت في ضبط صوت البطلة -الراوية مليكة وهي تحاول النجاة بنفسها والفرار من قبضة مجموعة إرهابية انضمّت إليها بدافع وقوعها في حب أحد أفرادها، مثلما ستقرّره الأحداث لاحقا في أوّل فصول القسم الثالث من هذه الرواية.

 جاء الفصل التمهيدي ناشزا نشوزا جميلا عن بقية فصول الرواية الخالية من أي اشتغال تميز به الفصل التمهيدي، لا من حيث اللغة ولا من حيث الأسلوب

لقد جاء الفصل التمهيدي ناشزا نشوزا جميلا عن بقية فصول الرواية الخالية من أي اشتغال تميز به الفصل التمهيدي، لا من حيث اللغة ولا من حيث الأسلوب والصور والكثافة والتشويق، وكأننا نقرأ نصا مستقلا تماما عن تمهيده، أو أننا أمام قلمين أحدهما أقل موهبة من الآخر.

ثمة ما يوحي بأن الفصل التمهيدي كُتب لاحقا وبعد فترة معتبرة من كتابة الرواية بأقسامها الثلاثة، ربّما لم يكن الكاتب وقتما كتب هذا الفصل خاضعا لرقابته الذاتية، التي حملته على الاعتقاد بأن الأصالة تعني دائما الامتناع عن توظيف أجواء سردية قريبة من الرواية التي يكتبها. يبدو أنه امتناع من حسن حظنا في هذا الفصل التمهيدي لم يلتزمه ساري وهو يستعين دون إدراك بالطبع، بأجواء رواية "امرأة بدون قبر" للكاتبة الجزائرية أسيا جبار، التي تعد واحدة من أهم الكاتبات في القرن العشرين، فقارئ "امرأة بلا قبر"، الذي نأمل أن تهتم بترجمته ونشره دور النشر العربية، سيشعر بلا أدنى شك أن ساري استنسخ بجمالية رائعة روح زليخة بطلة رواية جبار وأجواء الخوف والموت التي خلقتها صاحبة "الحب والفانتازيا" وأعاد رسمها بقلمه الخاص. مثل هذه الأجواء نجدها أيضا في بعض نصوص مايسة باي، الروائية الجزائرية التي سبق لمحمد ساري أن ترجم أعمالها.

محمد ساري

نهاية سعيدة لرواية لم تكتب بعد

قامت رواية "جسدي المستباح" على متناقضات سردية أنتجها تسارع الحكي وتسطّحه في أكثر من موضع، إما استخفافا بقدرة القارئ على الملاحظة المركزة وإما بسبب تشتت تركيز السارد ورغبته في الانتهاء من كتابة نصه في أقل وقت ممكن، إلا أن الراجح عندي هو أن تناقضات الرواية ترتبت عن عدم تمكن الروائي من مطابقة النص الذي فكر فيه مع النص الذي حرره في الأخير، معتقدا وهو يدفع بروايته إلى النشر أنه أجرى مطابقة كاملة. لعل هذه السقطة تظهر كثيرا في نصوص الكثير من الكتاب الذين يرفضون فكرة عرض نصوصهم على لجنة قراءة مقربة أو تخضع لقلم المحرّر الأدبي، على اعتبار أن نصوصهم صالحة للنشر في اللحظة ذاتها التي يرفعون عنها أقلامهم، متجاهلين الحقيقة الأبدية المتمثلة في أن الجمل مهما بلغ من قوة فسيظلّ عاجزا عن رؤية سنامه.

يظهر أن ساري رغب في خلق قصة تُسيِّر أحداثَها المأساة التي لا يمكن تبريرها أو على الأقل الإيهام بوقوعها إلا إذا نجح في رسمها كحتمية قدرية فرضتها ظروف معينة يقود بعضها إلى بعض، وهذا ما يجعلني أتصور أن الرواية التي كانت في ذهنه ولم يتمكن من مطابقتها مع تلك التي دفع بها إلى الناشر تجري وفق السيرورة الآتية: فتاة ساذجة في سن المراهقة ترغب في التحرّر من زوج أمّ متعجرف ظالم تكنّ له ما يشبه الكره، ولا ملجأ لها إلا الخارج المتمثل في زميلاتها في الدراسة، أما والدتها فهي كائن ضعيف أنهكتها الحياة وتاريخها الشخصي المريب بسبب خياراتها التي جعلتها تحبل خارج دائرة الزوجية بطفلة ستحمل اسم مليكة. يجعل الكاتب الأحداث تقع في الفترة المعروفة بالعشرية السوداء، نهاية تسعينات القرن الماضي، وهي الفترة التي يبلغ فيها الفكر الأصولي مداه ليعصف بالمجتمع الذي سرعان ما يحاصر مليكة، وتبدأ في التخلي عن أحلامها وحرّيتها بارتداء الحجاب الذي تقترحه عليها إحدى صديقاتها، لكنها في الوقت نفسه تقع في حب شاب اسمه يعقوب، الذي بدوره يتأثر بأخيه المنتمي الى حزب إسلامي، فيُنبت لحية ويرتدي قميصا إلى الكعبين، ثم لا يلبث أن ينخرط مع أفراد الجماعات المسلحة ويضطر إلى الفرار إلى الجبل ومعه حبيبته مليكة. بعد فترة يختفي يعقوب لتجد البطلة نفسها وحيدة في الجبل مع رجال يقرّرون الاستمتاع بها، وبعد طول صبر ومعاناة تقرّر مليكة الفرار بجلدها وتنجح في ذلك.

 أكبر فشل صادفه في سرده هذا هو مروره على حادثة الاغتصاب مرور الكرام، خاصة أن الأحداث ترويها مليكة التي يفترض أن تكون قد تعرّضت لأبشع ما يمكن للمرأة التعرض إليه

نهاية سعيدة بلا شك، لكنها نهاية لقصة لم تكتب على الورق بهذه الطريقة ولم تحترم خريطة الطريق التي وضعها الكاتب لنفسه. فمن خلال سرد ساري، لن نعثر على مدى فصول الرواية على مليكة المراهقة كما حاول إيهامنا الكاتب. بالطبع سندرك أن بطلة الرواية اسمها مليكة، لكننا لن نجد أي سرد يصحب وجودها هذا ويقنعنا بأننا أمام فتاة مراهقة، لا الجمل المستعملة ولا العبارات ولا الصور ولا اللغة أوحت بأننا في صدد فتاة مراهقة، وكأن الكاتب يفترض أنَّ قوله يجب أن يصّدق دون مناقشة، وأنه بمجرد أن أخبرنا أن مليكة تدرس في الثانوية فإننا مجبرون على التعامل معها كذلك، حتى وإن بدا كلامها ذكوريا وسردها سرد إنسانٍ راشد.

السقطات

سيتجاوز القارئ هذه السقطة ويقنع نفسه رغما عنه أو رغبة في قراءة العمل أنه في صدد فتاة مراهقة ساذجة، لكن ستصدكه بلا شك سقطة أخرى في خصوص علاقة الفتاة بزوج أمها، فصاحب الرواية يخبرنا أنها عاشت اضطهادا أسريا، وأنها تكره زوج أمها الذي لا يطيقها بسبب حادث لا يمكنه أن يكون سبب كراهية فتاة لرجل أنقذها وأمها من التشرد والتسوّل والجوع، بل رباها وكأنها ابنته مذ كانت طفلة، وهي ثمرة الخطيئة التي حبلت بها أمها إثر علاقة خارج إطار الزوجية. إن أي منطق سويّ سيوازن بين فضل هذا الرجل وما قد يقترفه من أخطاء يسيرة في تربية ربيبته، فما بالك برجل لم يقترف أي خطأ؟ تقول والدة البطلة واصفة المأساة التي عاشتها قبل أن ينتشلها منها زوجها: "ضاقت بي السبل في ذلك الحيّ، واشتقت إلى رغيف خبز. كنت صغيرة وبحاجة إلى حليب، ولولا صدقات المحسنين ووجود بعض الجيران لمتنا جوعا، أو كنت تحولت إلى متسولة محترفة، ربما سلكت طريق الرذيلة. من يعرف؟ كنت امرأة وحيدة معرضة للأطماع جميعا، ولكن الله سترني. الجوع يا بنيّتي يتلف عقل الإنسان وقد يجعله لا يميز بين المليح والقبيح".

مهما حاول القارئ البحث في الرواية عن أي قرينة للاضطهاد العائلي الذي ادعاه الكاتب تبريرا للقرارات اللاحقة لمليكة فإنه لن يجد شيئا، تماما كما لن يجد أي منطق سردي يبرر اللغة الدينية التي اختار أن تكون لغة الدركيين (الشرطة) ص. 70، لن يجد أيضا أي تمهيد (أحداث أو غيرها) يجعله يبتلع حادثة ترك مليكة لعائلتها والالتحاق بحبيبها في الجبل. كما أنه من الواضح أن ساري فشل في رسم علاقة الحب بين مليكة ويعقوب، فقد استعان بأحداث غير مقنعة، خالية من أي جذب رومانسي أو تشويق يوهم القارئ أنه أمام علاقة حب حقيقية وليس مجرد علاقة إعجاب. لكن أكبر فشل صادفه في سرده هذا، هو مروره على حادثة الاغتصاب مرور الكرام، خاصة أن الأحداث ترويها مليكة التي يفترض أن تكون قد تعرّضت لأبشع ما يمكن للمرأة التعرض إليه، ليس مرة واحدة فحسب بل عشرات المرات يوميا ولفترة معتبرة من الوقت.

رواية "جسدي المستباح.. حب في عصف الرعب" لمحمد ساري، كبوة سردية نتمناها موقتة، في انتظار رواية أفضل للكاتب، ربّما تَجُبّ ما خلفه فينا هذا العمل من خيبة.

font change

مقالات ذات صلة