خطة نتنياهو القضائية... ماتت ولم تدفن بعد؟

إسرائيل على موعد مع الشرخ الداخلي بعد الحرب

AFP
AFP
الشرطة الإسرائيلية تقمع محتجين أغلقوا المدخل الرئيس للكنيست بالقدس خلال احتجاج ضد الحكومة في 8 يناير

خطة نتنياهو القضائية... ماتت ولم تدفن بعد؟

في أوج الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وبينما كانت الأنظار تتجه لمصير هذه الحرب وما قيل إنه بداية مرحلة جديدة فيها، وفق الخطط العسكرية الإسرائيلية، أصدرت المحكمة العليا قرارها بشأن الالتماس المقدم ضد إلغاء الكنيست ما يعرف بـ"حجة المعقولية"، وهي الحجة التي يستخدمها جهاز القضاء لإلغاء قرارات حكومية أو وزارية بسبب "عدم معقوليتها" أو تجاوزها المبادئ الأساسية لإسرائيل ومخالفتها قيم الديمقراطية.

قررت المحكمة عمليا وبأغلبية ثمانية قضاة من أصل خمسة عشر، إلغاء تعديل قانون أساس القضاء الذي كان قد ألغى دورها في انتقاد قرارات الحكومة بل إن اثني عشر قاضيا أكدوا كذلك قدرة المحكمة العليا على إلغاء قوانين أساس (قوانين لها مكانة خاصة وتستبدل الدستور).

أصل الأزمة

تعود القضية إلى الرابع من يناير/كانون الثاني الماضي، إذ أعلن وزير القضاء في حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة يريف لفين، في مؤتمر صحافي ما وصفه بالإصلاحات القضائية التي ذكر أنها ستعتمد على أربع خطوات في مرحلتها الأولى تشمل:

1- تغيير اختيار قضاة المحاكم بشكل يمنح الائتلاف الحكومي القدرة على التأثير في الاختيار.

2- تحديد مكانة قوانين الأساس وتشريع ما يعرف بـ"فقرة التغلب" التي تمكن السلطة التشريعية، الكنيست، من إعادة تشريع قوانين تلغيها المحكمة العليا.

3- إلغاء "حجة المعقولية" التي تستخدمها المحاكم لانتقاد قرارات حكومية أو وزارية، وبدأت مع ما يسمى إسرائيليا "عهد النشاط القضائي" الذي أسس له الرئيس الأسبق للمحكمة العليا أهرون براك.

4- إخضاع المستشارين القضائيين في الحكومة والوزارات المختلفة لمسؤولية منتخبي الجمهور (الوزراء والنواب).

ومع إعلان الخطة التي تجند لإطلاقها العملي في الكنيست رئيس لجنة القانون والدستور والقضاء البرلمانية النائب سمحا روطمان، توالت ردود الفعل حيالها وشرع معارضوها بالاحتجاج الشعبي اليومي والأسبوعي.

أعلن نتنياهو غير مرة أنه "دخل على الخط" لرسم صورة جديدة للخطة وتليين بعض النقاط الواردة فيها

وفي حين قال الائتلاف الحكومي إن الخطة هي إصلاح قضائي وجب تنفيذه لإعادة السلطة إلى الشعب والأغلبية التي اختارها بعدما تجاوزت المحكمة العليا دورها وتدخلت في قرارات الحكومة والكنيست، قال معارضو الخطة إنها انقلاب دستوري يضعف السلطة القضائية ويقوض مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث في إسرائيل: التشريعية (الكنيست) التنفيذية (الحكومة) والقضائية (المحكمة العليا) ويغير في مفهوم الديمقراطية ليتحول إلى حكم الأغلبية بدلا من حكم الشعب.
وقد خرج مئات آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع ونظموا احتجاجات أسبوعية أمام مقر الكنيست ومواقع سلطوية أخرى، تنديدا بـ"خطة لفين"، لكن الأخير بقي مصرا على إتمام الخطة. ومع مرور الوقت وتزايد حدة الانتقادات الداخلية لها، وكذلك المخاوف الدولية والأميركية من تأثير تلك الخطة في نظام الحكم الديمقراطي في إسرائيل شرع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ في مشاورات مع مختلف الأحزاب والسياسيين في محاولة لتليين الخطة والتوصل إلى تسوية بين الائتلاف والمعارضة كما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو غير مرة أنه "دخل على الخط" لرسم صورة جديدة للخطة وتليين بعض النقاط الواردة فيها بما في ذلك إلغاء ما عرف بتشريع "فقرة التغلب". 

AFP
وزير العدل يريف لفين يصل إلى اجتماع لمجلس الوزراء بالقدس في 20 أغسطس 2023

لقد بلغت إسرائيل السادس من أكتوبر/تشرين الأول 2023 عشية اندلاع الحرب على قطاع غزة في حالة انقسام كبير في الشارع خلفته خطة الإجراءات التي تقوض جهاز القضاء، واعتقد البعض أنها بصدد حرب أهلية أو أزمة دستورية حادة. وازداد الضغط على المحكمة العليا التي بدأت تدرس الالتماسات المقدمة ضد تعديل قانون أساس القضاء وإلغاء "حجة المعقولية"، فجاء قرار المحكمة بهذا الشأن في أوج الحرب من دون أي علاقة بين المسألتين، فالتوقيت متعلق بالجدول الزمني للمحكمة خاصة مع إتمام رئيستها إستر حيوت ولايتها القانونية في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إذ يحدد القانون موعدا أقصاه ثلاثة أشهر للقضاة المتقاعدين لإصدار الأحكام في الملفات المتبقية لهم، لكن هذا التزامن مع الحرب قلل حجم ردود الفعل الغاضبة حيال القرار خاصة في أوساط مؤيدي "الإجراءات القانونية". 
 

حلم التغيير الذي يراود "الليكود" وأحزاب اليمين المتشدد في إضعاف المحكمة العليا، لم يتبدد

وزير القضاء الأسبق دان مريدور

ويقول وزير القضاء الأسبق دان مريدور في حديث لـ"المجلة" إن المحكمة لا تكترث من ناحية الجدول الزمني لقراراتها بالأوضاع السياسية أو الأمنية، لكن هجمات السابع من أكتوبر/تشرين الأول والحرب على غزة دفعت الإسرائيليين إلى تغيير سلم أولوياتهم والاتجاه إلى ما يوحدهم في ظل نتائج الحرب، من ناحية عدد المحتجزين الإسرائيليين لدى "حماس" والقتلى، وهو الأمر الذي ظهر في ردود الفعل على القرار، إذ اقتصرت على تصريحات السياسيين وأعضاء الائتلاف. لكن مريدور في الوقت نفسه يؤكد أن قرار المحكمة العليا من ناحية وعدم إنجاز الخطوات الأخرى من الإجراءات القانونية من ناحية ثانية لا يعنيان بالضرورة أن حلم التغيير الذي يراود "الليكود" وأحزاب اليمين المتشدد في إضعاف المحكمة العليا، قد تبدد. 
فمن وجهة نظره سيكفي أن تضمن قوى اليمين عودتها في مرحلة ما إلى الحكم لتبدأ بالتخطيط مجددا للانقضاض على المحكمة العليا ما دامت أرضية الانقسام الشعبي الذي خلفته الخطة لا تزال قائمة.

EPA
رئيسة المحكمة العليا الإسرائيلية إستير حايوت تتوسط القضاة في مقر المحكمة بالقدس في 28 سبتمبر 2023

يقول مريدور إنه جزء من الثورة القضائية التي شهدتها إسرائيل خلال شغله وزارة القضاء بين ديسمبر/كانون الأول 1988 ويوليو/تموز 1992، وفي عهده شرع قانون أساس حرية الإنسان الذي يؤسس لكثير من أحكام المحكمة العليا في تعاملها مع قرارات الحكومة والوزراء، لكن الإجراءات التي شرعت بها حكومة نتنياهو كانت لتنسف أسس ذلك القانون وتضعف مكانة المحكمة العليا في إطار الدفاع عن الأقليات، ولا يقصد الأقليات القومية أو الدينية فحسب، بل يرى مريدور أن المحكمة العليا تحافظ على مجموعات المستضعفين أمام قرارات الأغلبية. ومن هنا فإن إبطال تعديل قانون أساس القضاء (إلغاء "حجة المعقولية") أعاد إلى المحكمة العليا قوتها وتأثيرها وشكل قولا فصلا في هذا المضمار.
من جانب آخر، قال أستاذ القانون والوزير الأسبق بروفيسور شمعون شطريت لـ"المجلة" إن قرار المحكمة العليا قوض بشكل واضح خطة الإجراءات القانونية التي تضعف جهاز القضاء وأقصى مخاطر اندلاع أزمة دستورية ومزيد من التصدع في صفوف الإسرائيليين. وأشار إلى أن تلك الخطة لم ينجز منها على مدار عام كامل منذ إعلانها سوى البند الذي ألغته المحكمة العليا في اليوم الأول من عام 2024، إلى جانب أنه يلمس تراجعا في حزب "الليكود" ونقاشا بشأن الجدوى من الخطة على أثر الشرخ الشعبي الذي أحدثته والاضطرار إلى العدول عن جزء منها (فقرة التغلب). لكن وعلى الرغم من ذلك فإن شطريت يتفق مع مريدور في توقع أن الخطة ماتت لكنها لم تدفن بعد، وأن نهاية الحرب وتبعاتها ستؤثران في مصيرها خاصة أن بعض مؤيديها قد يعملون على إعادتها إلى الواجهة.

لم تعلن أي من الجهات التي تؤيد الخطة الحكومية لتقويض جهاز القضاء نيتها الخروج للاحتجاج ضد قرار المحكمة العليا

وفي تحليل لتداعيات قرار المحكمة العليا قال "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" إن القرار سيؤثر في مصير التماسات أخرى قدمت للمحكمة العليا وكان الادعاء المركزي فيها أن الحكومة اتخذت قرارات غير معقولة، ومن بينها الالتماس المقدم ضد تعيين زعيم "عوتسما يهوديت" إيتمار بن غفير وزيرا للأمن القومي.
 وبشأن احتمال وقوع أزمة دستورية في إسرائيل يرى خبراء المعهد أن الأمر مستبعد إلا في حال قررت الحكومة عدم احترام القرار والتصادم مع المحكمة العليا من خلال اتخاذ قرارات متطرفة تلزم المحكمة التدخل، وهو الأمر الذي يستبعده بروفيسور شطريت في هذه المرحلة.
وعلى الصعيد الشعبي لم تعلن أي من الجهات التي تؤيد الخطة الحكومية لتقويض جهاز القضاء نيتها الخروج للاحتجاج ضد قرار المحكمة العليا، والأمر مرتبط بشكل واضح بالقيادة السياسية اليمينية التي تواصل التصريح بأن القرار ليس ديمقراطيا ويفرض قيودا على عمل الكنيست والحكومة، لكنها لا تدعو للخروج ضده متذرعة بأن الحرب على غزة توحد الإسرائيليين، لكن بروفيسور شطريت يعزو ذلك إلى أمرين؛ الأول: حالة التراجع في الليكود عن الخطة. والثاني: وجود حزب "همحني همملختي" بقيادة بيني غانتس في هذه المرحلة في الائتلاف الحكومي بسبب الحرب بعد أن اشترط لانضمامه لحكومة طوارئ عدم تشريع أي قانون خلافي إلا بتوافق في الائتلاف.

AP
نتنياهو مترئسا اجتماعا للحكومة في مقر للجيش بتل أبيب في 24 ديسمبر 2023

وخلال الأيام التي تلت قرار المحكمة العليا، جاء قرار نتنياهو تعيين الرئيس الأسبق للمحكمة العليا القاضي أهرون براك ممثلا لإسرائيل في توليفة محكمة العدل الدولية التي تناقش الدعوى المقدمة من جنوب أفريقيا ضد إسرائيل وتتهمها بارتكاب جرائم تصل إلى مستوى الإبادة الجماعية في قطاع غزة. ويلفت تعيين براك الأنظار في الأوساط السياسية والقانونية في إسرائيل خاصة أنه كان في واجهة الاتهامات والتهديدات من جانب مؤيدي خطة الانقلاب القضائي الذين يتهمونه بالعمل على تعزيز مكانة المحكمة العليا على حساب سائر السلطات من خلال إتاحة الفرصة للقضاة بالاجتهاد في تفسير القرارات. 
وفي حديث لـ"المجلة" يقول المحامي محمد دحلة الذي عمل خلال سنوات ماضية مع القاضي المتقاعد أهرون براك، إن تعيينه ممثلا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية يساهم في إحراج مؤيدي الإجراءات القانونية الذين "لم يجدوا أهم" من براك لتمثيل وجهة النظر الإسرائيلية وهو ما قد يدفع البعض لإعادة حساباته ومواقفه ليس فقط بشأن براك نفسه وإنما بشان مكانة السلطة القضائية والمحكمة العليا.

قبلت المحكمة العليا أحيانا التماسات ضد سياسة الحكومات الإسرائيلية في الضفة الغربية، فيما تماهت في حالات أخرى مع موقف هذه الحكومات

سؤال في زمن الحرب

اعتاد معارضو المس بصلاحيات المحكمة العليا واستقلاليتها القول إن جهازا قضائيا قويا وله صلاحيات في مراقبة خطوات الحكومة من شأنه أن يبعد مخاطر ملاحقة الجيش الإسرائيلي وقادته في المحاكم الدولية بتهم انتهاك القانون الدولي، فهل سيفلح قرار المحكمة العليا في إعادة هذه الفرضية إلى الواجهة في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؟ 
في إجابته على هذا السؤول يقول الوزير السابق دان مريدور إن للمحكمة العليا قرارات متنوعة في السياق الفلسطيني، فتبنت تارة الرؤية الفلسطينية وقبلت التماسات قدمت ضد سياسة الحكومات المتعاقبة في الضفة الغربية، فيما تماهت في حالات أخرى مع موقف الحكومات الإسرائيلية. لكنها في المحصلة نجحت حتى الآن في إقصاء بعض مخاطر مثول الجنود أو القادة والمسؤولين أمام المحاكم الدولية. 
من ناحيته يقول المحامي دحلة إن قرار المحكمة العليا بشأن "حجة المعقولية" وتأكيد مكانتها لم ينعكس في تعاطي المحكمة خلال الآونة الأخيرة مع مجريات الحرب على غزة، خاصة أنها امتنعت عن النظر في قضايا تتعلق بسياسة الحكومة أو انتقاد تصريحات أعضائها حيال الحرب وهو ما سيؤثر في مهمة أهرون براك أمام المحكمة الدولية ويحولها إلى مهمة شاقة. 
وفي السياق الفلسطيني يواصل دحلة التأكيد أن إعادة تعزيز مكانة جهاز القضاء يعود بالفائدة في بعض الحالات على التعامل مع الملفات التي تخص الفلسطينيين خاصة أن المحكمة سبق وأن اتخذت قرارات لمصلحتهم مخالفة توجه الحكومة، كما حصل لدى قرارها إلزام الحكومة بتوزيع الكمامات الواقية على سكان الضفة الغربية إبان حرب الخليج الأولى، أو لدى قرارها إلزام الحكومة تعديل مسار الجدار الفاصل في منطقة شمال غربي القدس... لكنه يواصل التأكيد بأن المحكمة اتخذت أيضا قرارات وتبنت تفسيرات مريحة لسياسة إسرائيل وتخالف القانون الدولي في كثير من الأمور المتعلقة بالفلسطينيين.

font change

مقالات ذات صلة