العراق... "قصة مكاذبة معلنة"

العراق... "قصة مكاذبة معلنة"

في تعليقها على الهجمات التي شنتها أجنحة عسكرية مقربة من فصائل "الحشد الشعبي" العراقية على مطار أربيل المدني، وصفت الحكومة الاتحادية العراقية الفاعلين بـ"الجماعات الخارجة عن القانون"، مضيفة: "هكذا أعمال إجرامية هدفها الإضرار بمصالح العراق وعلاقاته وارتباطاته الإقليمية والدولية"، وعبارات أخرى من مثل تلك، باردة ومجردة، بليدة وخالية من أية دلالة على أن الجهة المُعلقة هي السُلطة العليا في هذا البلد، تشرف وتقود جيشا هو الأضخم على مستوى العالم مقارنة بعدد السكان، وإلى جانبها عشرات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، تُصرف لصالحها ميزانيات مالية ضخمة، تتجاوز بقيمتها كامل الميزانية العامة لبعض دول جوار العراق. ومع ذلك لم تكشف الجهة التي شنت هجوما عسكريا جويا على مطار مدني، رغم أنها تفعل ذلك منذ سنوات.

المثير للتهكم، أن تلك الجهة التي تُظهر الحكومة العراقية جهلها بها، تُعلن عن نفسها صباح مساء بكل وضوح. تملك العشرات من المنصات الإعلامية والدعائية، ويظهر المتحدثون الرسميون والسياسيون باسمها على القنوات الفضائية كل يوم، يخوضون جدالات ويتوعدون المناوئين لتوجهاتهم، وهم فخورون بما يفعلون، ويطلبون من الآخرين الاعتراف ببطولاتهم. فوق ذلك، فإنهم حاضرون في المشهد السياسي، لهم كُتل برلمانية ممثلة لهم، وزراء وزعماء سياسيون، معسكرات ومراكز تدريب وأسلحة نوعية وعشرات آلاف الأعضاء والمقاتلين، ولغير صدفة، يحصلون على تكاليف كل ذلك من الميزانية العامة التي توزعها الحكومة العراقية نفسها.

الحكاية العراقية متمركزة حول الامتناع عن قول شيء بسيط وواضح عن السلطة الحقيقية في البلاد، المؤلفة من مجموعة التنظيمات المسلحة الموالية لإيران

وفي تحوير لعنوان رواية غابرييل غارسيا ماركيز، فإن ما يجري في العراق هو بالضبط "قصة مكاذبة معلنة"، مكشوفة الهدف والسياق والتفاصيل، حتى إن القائمين عليها لا يطلبون من أحد تصديقها، في مطابقة غير غريبة مع ما كانت تفعله أجهزة الدعاية في الأنظمة الشمولية، التي كانت تعرض بضاعة خطابية باذخة على الدوام، ولا تنتظر من أحدٍ تصديقها، فالمهم بالنسبة لها هو هيمنة ذلك الخطاب والمكاذبة على الفضاء العام، فقط. 
وفي الجوهر، فإن كامل الحكاية العراقية منذ عدة سنوات متمركزة حول الامتناع عن قول شيء بسيط وواضح عن السلطة الحقيقية في البلاد، المتمثلة في النواة الصلبة للحاكمين، المؤلفة من مجموعة التنظيمات المسلحة الموالية لإيران، المالكة لعشرات الأثواب والأقنعة والأدوات، لتندرج في كل قطاعات وهويات وأشكال السلطة، لكنها شديدة التآلف والتضامن والارتباط، تملك غرضا واحدا فحسب، هو امتلاك السلطة المطلقة والدائمة في البلاد.
تندرج هذه النواة في كل شيء؛ فإذا كان العراق الجديد قائما على نظام برلماني، فهي تملك الكثير من الكتل البرلمانية، التي استخدمت من قِبل كل مؤسسات وخيرات الدولة لخلق هيمنتها على الفضاء الإداري والاقتصادي في البلاد، وتاليا ربط الكثير من القواعد الاجتماعية بأحزابها. وإذا كان للعراق سلطة قضائية عليا تستطيع أن تُغير مسار الأحداث، فقد شكلت هذه النواة المحكمة الاتحادية العليا بغير متطلباتها الدستورية، لتكون مرتبطة بها، وسيفها حينما يلزم الأمر. وإن كان المجتمع العراقي مُشيدا على فيض من المشاعر الدينية، فإن النواة أسست بنية شاملة من شبكات السيطرة على طبقة رجال الدين ومؤسساتهم وعوائدهم. 
ولو أن للعراق حكومة اتحادية، فيجب أن يشكلوها، حتى لو كانوا مهزومين في الانتخابات العامة، كما في عامي 2010 و2021. ولو كان الوضع العراقي يتطلب ترهيبا عسكريا وأمنيا للمناوئين، داخليين مثل إقليم كردستان، أو دولا إقليمية تناهض السياسات الإيرانية، فلا ضير من تشكيل أجنحة وامتدادات مسلحة، تهاجمهم لو لزم الأمر، تعكر وربما تحطم الحياة العامة داخلها، وتحت يافطة كبرى "المقاومة الإسلامية في العراق". 
المكاذبة بجوهرها هي الادعاء بوجود فصل بين كل تلك التشكيلات، وسوء تناغمها وارتباط بعضها ببعض، في وقت هي بمجملها مجموعة من الأدوات الوظيفية المتآلفة فيما بينها، والساعية لتحقيق مراد واحد فحسب، متفق عليه بوضوح. 

مثلما هي البرلمانات والجيوش ومؤسسات القضاء والتعليم ومنابع الثورة في الأنظمة الشمولية، مجرد أجهزة رديفة لرأس السلطة، متضامنة وغير مستقلة عن بعضها بعضا، لا تملك سلطة وشرعية إلا بالالتصاق بنواة الحكم

قد يبدو ذلك نموذجا جديدا للحكم، متأتيا من "امتناع الشمولية التقليدية"، حسبما صار العراق عليه عقب عام 2003. فأي اعتراف بحقيقة التعاضد والعضوية الداخلية بين مجموع تلك الامتدادات، سيسقط عنها كل غشاء تدعيه. فمثلما هي البرلمانات والجيوش ومؤسسات القضاء والتعليم ومنابع الثورة في الأنظمة الشمولية، مجرد أجهزة رديفة لرأس السلطة، متضامنة وغير مستقلة عن بعضها بعضا، لا تملك سلطة وشرعية إلا بالالتصاق بنواة الحكم، تؤدي دورا وظيفيا محددا لها بالضبط، يصب في تحقيق رؤية وديمومة حكم الحاكمين، ويفكك كل قوة وحضور للمناوئين لهم، تفعل الاستطالات العراقية ذلك تفصيلا، ولصالح الجهة المركزية تلكم.

في المحصلة، يؤدي الأمر إلى ما استقرت عليه الأنظمة الشمولية: اهتراء تام للدولة بمعاييرها الحديثة، لمؤسساتها وأدوارها ومواثيقها وحضورها في العقل والروح العامة، ومعها تفكك مريع لأدوات المناعة المجتمعية، وفقر في الحس والسلوك المتأتي من قيم المواطنة، وزيادة استثنائية في الخطابات والخيارات الطائفية، وذكورة اجتماعية منتشرة في كل أشكال الحياة، وعنف وكراهية وخراب عام.

font change