حرب الخسارات

حرب الخسارات

ما زالت الحرب قائمة على غزة وقد وصل عدد ضحاياها حتى الآن خمسة وعشرين ألفا من الفلسطينيين، منهم عدد غير مسبوق من الأطفال، وتدمير المباني وتسويتها بالأرض. في مقابل هذا خسرت إسرائيل أعدادا من جيشها ورعاياها وسمعتها الدولية، وخسرت معركة الرأي العام. لم يعد بإمكانها أن تفاخر بأن جيشها كان يناشد أصحاب البيوت المراد تدميرها المغادرة قبل الهجوم لكيلا يتضرر أحد، فالعالم اليوم، أغلبه يتظاهر ضدها ويراجع حساباته حول القصة برمتها، حتى إن يهود أميركا صاروا يتظاهرون ضد إسرائيل ويرفضون أن يجيّر ما يحدث من قتل باسمهم.

والحضارة الغربية هي الأخرى من الخاسرين الكبار، خسرت مصداقيتها أمام شعوبها والعالم، وانهارت كل دعاوى حقوق الإنسان والعالم المتحضر النبيل، ومع كل هذا سقطت قيم عصر التنوير وكل دعاوى العدل، كل هذا انهار تماما وسوّي بالأرض كمباني غزة. ما الذي سنفعله الآن؟ تقييم الخسارة والربح؟ هل أقول ربح أهل غزة؟ كيف لي أن أكذب عليهم بمثل هذا القول وقد دفنوا الآلاف من الأطفال والإخوة والأخوات وها هم يهيمون في التيه بلا وجهة واضحة سوى إصرارهم على البقاء في الوطن؟ وهذا حق، بل هو الواجب مهما بلغت قسوة المشهد.

الفلسطينيون يملكون من الوعي ما يكفي لأن يدركوا أن من البديهيات ألا يغادروا أرضهم مهما كان الثمن


 هل ربحت إسرائيل؟ بالطبع لا. لقد خسرت هي الأخرى، خسارة باهظة، وانكشفت هشاشتها في قسوتها. وبنظرة عقلانية تماما وخالية من العاطفة أستطيع القول إنها لن تنتصر أبدا. خطة تهجير أهل غزة إلى صحراء سيناء أو أي مكان آخر فشلت تماما وقوبلت بالرفض العربي القاطع من قبل مصر والأردن، وبدعم مطلق من السعودية. لأن هذا يتضمن نهاية غير عادلة للقضية الفلسطينية، والفلسطينيون يملكون من الوعي ما يكفي لأن يدركوا أن من البديهيات ألا يغادروا أرضهم مهما كان الثمن.

لربما راهن أوائل قادة إسرائيل على أن الجيل الجديد سينسى عندما يموت الجيل الأول الذي عاش مرارة الاحتلال، لكن هل هذا ما سيحدث بعد مذابح المئة يوم الماضية؟ مع هذا الشعور بالقهر والغضب، لن يزداد الفلسطينيون إلا قسوة ومرارة وكرها. وسوف تواصل الأجيال التي تعلم أن وطنها قد سُرق خلال معارك غير عادلة، وسينقل الآباء القصة إلى الأبناء، وسيظل الجيل الجديد إلى الأبد ينتظر أن تتغير المعادلة الدولية. لا يوجد في الأجواء ما يوحي، ولو باحتمال ضعيف، أن ينسى أحدٌ القصة.

قديما اقترح البروفسور إدوارد سعيد حلا للقضية، بأن تكون هناك دولة واحدة تجمع الفلسطينيين والإسرائيليين، دولة علمانية مزدوجة، كما قال. هذا الحل لم يلق ترحيبا عند الإسرائيليين، ببساطة لأنها دولة فصل عنصري، حتى وإن تباهت بأنها أقامت 400 مسجد للمسلمين. الفلسطينيون في إسرائيل لا ينالون ذات الحقوق التي ينالها يهود أوروبا، رغم أن الفلسطينيين لا يزالون يحملون مفاتيح بيوتهم التي سُلبت منهم بالقوة، من قبل أناس يدعون أنه كانت لهم دولة تاريخية في هذا المكان، مع أن طبيعة أرض القدس الصخرية لا تدعم فكرة أنقاض هيكل سليمان المزعوم. كان المفكر اليهودي آرثر كيسلر من أوائل المستوطنين، سكن حيفا ثم تل أبيب، لكنه سرعان ما غادر البلاد قائلا: لم أجد هناك أي شيء يهودي.

المشهد قاتم إلى درجة أن بعض المؤمنين بحل الدولة أو حل الدولتين يراودهم شعور عميق باليأس والتشكك في مدى واقعية هذين الحلين. ومع كل هذا الشك واليأس لا بد من التمسك بواحد منهما، لأن النصر الوحيد هو السلام، وما سواه، ليس سوى خسارة للجميع.

font change
مقالات ذات صلة