انكشاف العراق... يحوّل كردستان بقعة لـ"تصفية الحسابات"

لم تزد ردود فعل حكومة بغداد عن التنديد

AP
AP
آثار القصف الايراني على اربيل كما ظهرت في شريط مصور

انكشاف العراق... يحوّل كردستان بقعة لـ"تصفية الحسابات"

على الرغم من تعدد "الساحات" التي بقي المراقبون طوال الشهور الماضية يتوقعون تحركا عسكريا إيرانيا فيها، من غزة إلى اليمن والبحر الأحمر، مرورا بسوريا ولبنان، حيث تخوض امتداداتها السياسية والعسكرية مواجهات حامية راهنا، لكن إيران في النهاية قصفت مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق بصواريخ بالستية، وادعت أنها "استهدفت مقار للموساد والجواسيس والتجمعات الإرهابية المناهضة لإيران"، وذلك "ردا على الهجمات الإرهابية التي استهدفت مواطنينا في كرمان".

المعاينة المباشرة أظهرت أن المكان المستهدف هو منزل رجل الأعمال الكردي بيشرو دزيي، مالك شركتي "فالكون"، و"إمباير" العقاريتين، الذي راح ضحية العملية، مع اثنين من أطفاله، ومعهم رجل الأعمال العراقي كرم ميخائيل، الذي كان في ضيافته. ما يؤشر إلى استخدام إيران لذلك الخطاب بشكل وظيفي، وأن جوهر وسبب الفعلة الإيرانية أمر آخر تماما.

الهجمة الإيرانية الأخيرة تطابقت مع أخرى شنتها إيران على إقليم كردستان في شهر مارس/آذار 2022، وللأسباب/الادعاءات نفسها التي رافقت الهجوم الحالي

الهجوم الإيراني جاء بعد أربعة أشهر من اتفاق أمني بين إيران والعراق، يلتزم العراق بموجبه نزع سلاح "الجماعات والأحزاب الكردية الإيرانية" الموجودة على أراضيه، وإغلاق قواعدها ونقلها إلى أماكن أخرى، بعدما تعرضت أكثر من مرة لهجمات صاروخية إيرانية، راح ضحيتها العشرات من اللاجئين المدنيين الذين كانوا ضمن تلك المخيمات، وهددت إيران بتصعيد مواجهتها لتلك الجماعات والقوى السياسية، بما في ذلك اجتياح الأراضي العراقية، ما لم تلتزم الحكومة العراقية ونظيرتها في كردستان بما التزمت به ضمن الاتفاق. 
لكنها أيضا تترافق مع تصاعد المواجهات العسكرية بين الجيش التركي ومقاتلي "حزب العمال الكردستاني" ضمن أراضي إقليم كردستان. فطوال شهور فصل الخريف الماضي، زادت تركيا من قواعدها العسكرية ونقاط تمركز جيشها في المناطق الجبلية من كردستان، قالت مراكز الدراسات المختصة إن عددها تجاوز 40 نقطة وقاعدة، وعمق بعضها وصل إلى قرابة 80 كيلومترا ضمن حدود كردستان العراق.
كذلك ارتفعت أعداد الضربات الجوية التي تشنها تركيا على مختلف مناطق الإقليم، التي صارت تُنفذ بشكل شبه يومي، وتستهدف مختلف المناطق، تحديدا مناطق محافظة السليمانية على الحدود مع إيران، مستخدمة بالتحديد الطائرات المُسيرة. في الوقت نفسه غدا مقاتلو العمال الكردستاني يشنون هجمات خاطفة ومؤثرة على نقاط مراقبة الجيش التركي، أوقعت خلال الشهر الماضي فحسب أكثر من 25 جنديا تركيا. 
مع الأمثلة السابقة، فإن الهجمة الإيرانية الأخيرة تطابقت مع أخرى شنتها إيران على إقليم كردستان في شهر مارس/آذار 2022، وللأسباب/الادعاءات نفسها التي رافقت الهجوم الحالي؛ فالمكان الذي قُصف وقتئذ أيضا كان منزل رجل الأعمال الكردي، باز برزنجي، مالك شركة كار النفطية، ولم تعثر اللجنة التحقيقية التي شكلتها الحكومة العراقية على أية أدلة على ما ذكر "الحرس الثوري" الإيراني، كمركز للتجسس وإدارة العمليات العسكرية والأمنية ضد إيران. ومثلها العشرات من حالات القصف بالصواريخ والطائرات المُسيرة التي تشنها مجموعات "مجهولة" مقربة من إيران، تحت يافطة "المقاومة الإسلامية"، بغية "إخراج قوات الاحتلال الأميركي"، لكنها تستهدف مختلف المصالح والمراكز الحيوية في الإقليم؛ الحقول النفطية والمطارات المدنية وحتى معسكرات لقوات البيشمركة الكردية. 

تحلل فعلي للدولة العراقية

سمات وأسباب مشتركة تشكل مجتمعة الدافع لتلك الهجمات والعمليات العسكرية في إقليم كردستان، التركية والإيرانية على حد سواء، أو من قِبل الجماعات المسلحة القريبة منهما، أو المناهضة لتركيا. على رأسها عدم وجود أية علاقة لإقليم كردستان نفسه بالأسباب التي تتخذها تلك الجهات كذرائع للهجوم على الإقليم. 

الحكومة المركزية العراقية مخولة حسب الدستور العراقي باتخاذ إجراءات رادعة لحماية السيادة والأمن القومي للعراق

استنكاف السلطة المركزية العراقية، ممثلة في الحكومة الاتحادية، عن اتخاذ أية إجراءات رادعة، يأتي على رأس المحرضات الدافعة لتنفيذ تلك القوى أفعالها العسكرية ضمن كردستان العراق.
فطوال السنوات الثلاث الماضية، وعلى الرغم من تفاقم هجمات مختلف الجهات، لم تزد ردود فعل الحكومة العراقية عن التنديد واستدعاء بعض أعضاء السلك الدبلوماسي للبلدان المنفذة، وتقديم مذكرات احتجاج وظيفية، دون متابعة أو أية إجراءات تصعيدية لاحقة. حتى تقرير اللجنة التحقيقية التي شكلتها الحكومة العراقية حينما قُصف منزل رجل الأعمال الكردي في مدينة أربيل قبل قرابة عامين، وتأكيده على الطبيعة المدنية للموقع، لم تستخدمه الحكومة العراقية لاتخاذ إجراءات دبلوماسية أو عسكرية أو اقتصادية فيما بعد، بل بقي مجرد وثيقة بيروقراطية. 
الحكومة المركزية العراقية مخولة حسب الدستور العراقي باتخاذ إجراءات رادعة لحماية السيادة والأمن القومي للعراق، بينما لا تتجاوز مهام وصلاحيات قوات البيشمركة الكردية مهام الأمن الداخلي وحماية الحدود؛ فهي لا تملك أية أسلحة استراتيجية، تحديدا أجهزة المراقبة الجوية وحماية الأجواء، التابعة تماما للحكومة المركزية. مثلها أيضا هي القرارات ذات الطابع الخارجي، مثل إمكانية تقليص الوجود الدبلوماسي أو استدعاء السفراء أو إغلاق المنافذ الحدودية واتخاذ إجراءات اقتصادية وأدبية عقابية. حتى الذهاب بالملفات إلى الهيئات والمؤسسات الدولية، كتقديم الشكوى والمطالبة بالتعويضات والتعهدات من الجهات المعتدية، هي فقط من اختصاصات السلطة الاتحادية. 

Reuters
مظاهرة في اربيل احتجاجا على القصف الايراني

المراقبون يشيرون إلى أنواع من التفكك الفعلي التي أصابت الدولة العراقية بالتقادم، تحول دون قيام الحكومة المركزية بوظائفها وأعمالها نيابة عن هذه الدولة. هذا التفتت الذي ينعكس مباشرة على قدرة هذه السلطة على حماية الأمن القومي العراقي في إقليم كردستان، كجزء من تدهور قدرتها على تأمين ذلك الأمن القومي في مختلف المناطق العراقية، وإن بدرجات أقل وضوحا، لأسباب مركبة.

يعتبر التعاقد القائم على أساس فيدرالي للقضية الكردية في العراق ناتجا أساسا عن عدم سيطرة الجيش العراقي على المناطق الكردية

النظام السياسي العراقي أصبح كذلك، لأنه لا يملك حيوية في تحديد "ما هو الأمن القومي العراقي"، بسبب الشروخ الهائلة بين القوى السياسية العراقية في تحديد ذلك، ولعدم حيادية مؤسسات الحكم عن الأحزاب الرئيسة، بل الوقوع تحت سيطرتها تماما، ما يؤدي إلى انكشاف الداخل العراقي تماما، وتاليا منح الدول الإقليمية الراغبة طاقة وقدرة للعب في الداخل العراقي.

تصدير الأزمات

على أن التفصيل الأهم في ذلك المسار يتعلق بعدم اتساق العلاقة العسكرية بين الحكومة المركزية ونظيرتها في إقليم كردستان. فهذه الأخيرة ترفض فعليا انتشارا عسكريا استراتيجيا لقوات الجيش العراقي في مناطق إقليم كردستان، وتستند إلى الدستور في اعتبار قوات البيشمركة القوة العسكرية الوحيدة المخولة لحماية الإقليم. 
يملك الإقليم ذاكرة مريرة مع الجيش العراقي، الذي أوقع مئات الآلاف من الضحايا المدنيين، ويعتبر التعاقد القائم على أساس فيدرالي للقضية الكردية في العراق ناتجا أساسا عن عدم سيطرة الجيش العراقي على المناطق الكردية. لا تصنف الجهات الكردية ذلك كقرار أو نزعة آيديولوجية مناهضة لأداء المؤسسات العسكرية العراقية الاتحادية لأدوارها فحسب، بل يعتبرونها تحليلا موضوعيا استشرافيا لما سيحدث حتما فيما لو انتشر وسيطر الجيش العراقي بشكل مفتوح على كل مناطق الإقليم، من زيادة لوتيرة الحساسيات القومية وحدوث نزاعات شبيهة بالماضي الدموي؛ فإلى جانب دلالات كثيرة أخرى، فإنهم يستشهدون بـ"التحولات الطائفية" التي أصابت الجيش العراقي منذ خروج الجيش الأميركي عام 2011، وما تلاها من إزاحة الأكراد فعليا من بنية قيادة الجيش، مذكرين بتقلص واستنكاف الجيش العراقي عن أداء واجباته في ضبط أعمال فصائل الحشد الشعبي، مضيفين أن المعضلة يمكن تجاوزها ببساطة، لو قام الجيش العراقي بتزويد قوات البيشمركة بالأسلحة الاستراتيجية اللازمة، والثقة بها وتقديم متطلباتها المادية واللوجستية، كما ينص الدستور.

المثير للانتباه، هو تراجع الولايات المتحدة الأميركية، وإلى جانبها عدد من الدول الغربية الحليفة لها، عن اتخاذ إجراءات رادعة، تستطيع عبرها أن تخلق مظلة حماية أمنية لإقليم كردستان

المشترك الآخر هو عدم قدرة القوى النشطة عسكريا في إقليم كردستان على ممارسة نشاطها نفسه في بقاع وساحات أخرى، في وقت يُطلب منها ممارسة فعل عسكري ما، لدواعٍ تتعلق بآيديولوجيتها أو استراتيجيتها العسكرية أو تعرض حلفائها لضغوط عسكرية في تلك الساحات، لكنها عاجزة تماما عن فعل أي شيء في تلك الساحات؛ فتستخدم إقليم كردستان لتنفذ بعض الأعمال العسكرية، بغية التنفيس عن قواعدها الشعبية ومؤيديها، ولتجريب تصفية بعض الحسابات مع الخصوم، الموجودين بالساحة نفسها، أو لتوجيه رسائل سياسية وعسكرية إلى جهات أخرى، إقليمية ودولية. 
لقد أثبتت حرب غزة الأخيرة عدم جسارة إيران على المواجهة في أية بقعة كانت تعتبرها مراكز لقوتها التقليدية، أو حتى المواجهة المباشرة للخصوم عبر جيشها؛ فحساباتها الاستراتيجية تحول دون الانخراط في ذلك، ولو بشكل نسبي ومحدود للغاية. 
وتركيا أيضا على المنوال نفسه، غير مسموح لها بمزيد من التمدد داخل سوريا، وانخراطها في ساحات ليبيا وأذربيجان والقرن الأفريقي غير ضامن لأمنها القومي الداخلي. حتى في الداخل التركي نفسه، طرأت مجموعة من المعايير الضابطة لأية حكومة تخطط الاستراتيجية الأمنية والعسكرية في الداخل. ومثلهما مقاتلو حزب العمال الكردستاني والفصائل المقربة من الحشد الشعبي؛ فالكل يعتبر كردستان بقعة مناسبة للفعل العسكري، باستراتيجية آمنة، لا يُتوقع منها أية ردود مؤذية. فإقليم كردستان لا يملك القدرات العسكرية والسياسية لتوجيه "ضربات موجعة" لأي من تلك الأطراف. 

Reuters
متظاهرون ينددون بالقصف الايراني على اربيل امام مقر بعثة الامم المتحدة في المدينة في 16 يناير

الموقع الجيوسياسي لإقليم كردستان يخوله بأن يحتل تلك المكانة. فهو يقع بين أربع دول تحوي كل واحدة منها نزاعات داخلية تاريخية مريرة، ولكل واحدة منها ملفات صراعية متداخلة فيما بينها، ومع القوى الرئيسة في المجتمع الدولي. هذا غير طبيعة القضية الكردية واستطالاتها، ومعها الطبيعة الجبلية الوعرة للإقليم.
المثير للانتباه، هو تراجع الولايات المتحدة الأميركية، وإلى جانبها عدد من الدول الغربية الحليفة لها، عن اتخاذ إجراءات رادعة، تستطيع عبرها أن تخلق مظلة حماية أمنية لإقليم كردستان من هذا التموضع. خصوصا وأنها مجتمعة تعتبر كردستان مشروعها ومثالها السياسي النادر الذي حقق "قصة نجاح"، في محيط إقليمي شهد تدهورا في أمثلة كثيرة. هذا غير الشراكة السياسية والأمنية الاستراتيجية مع كردستان، تحديدا في ملف مواجهة الإرهاب، والتي تُظهر هذه الدول تمسكها بها كعلاقة استراتيجية مستدامة.

font change

مقالات ذات صلة