منتخب فلسطين في كأس آسيا... أكثر من مجرد "تمثيل مشرف"

رمزية سياسية تتعدى حدود التعاطف مع شعب يمر بكارثة

MAJALLA/Eduardo Ramón
MAJALLA/Eduardo Ramón

منتخب فلسطين في كأس آسيا... أكثر من مجرد "تمثيل مشرف"

لفريق يحتل المرتبة السابعة والتسعين في تصنيف الاتحاد الدولي لمنتخبات كرة القدم، يبدو منطقيا أن تكون بطولة بحجم كأس الأمم الآسيوية مجرد فرصة للمشاركة والتعلم والبحث عما يمكن وصفه في تحليلات ما بعد كل مباراة "بالتمثيل المشرف".

وفي حالة منتخب فلسطين الذي وصل إلى نسخة هذا العام من البطولة الآسيوية في الدوحة مثقلا بعبء محنة غير مسبوقة يمر بها شعبه في غزة، كان مجرد الوجود على أرض الملعب منطلقا لظاهرة تتعدى حدود إثبات الذات كرويا إلى كونها منصة يعبر منها الفلسطيني عن ذاته في سياق مختلف لا يخلو من الرسائل السياسية.

الرسالة التي حملها افتتاح البطولة في ملعب "لوسيل" كانت واضحة عندما كرم قائد منتخب قطر حسن الهيدوس زميله مصعب البطاط قائد الفريق الفلسطيني بمنحه شرف إلقاء "قسم اللاعبين" الذي عادة ما يلقيه ممثل فريق الدول المستضيفة.

كأس العالم الذي أقيم في قطر قبل ما يزيد قليلا على عام كان مجالا مفتوحا للتعبير عن الدعم للقضية الفلسطينية بشارات وشعارات رفعها المشجعون وحتى بعض اللاعبين على أرض الملعب كنجوم المنتخب المغربي الذين احتفلوا ببعض انتصاراتهم رافعين العلم الفلسطيني.

دعم أثار وقتها حفيظة قطاع في الإعلام الغربي الذي قارن بين السماح بالشعارات المؤيدة للفلسطينيين في ظل تشديد من الاتحاد الدولي على عدم ظهور رسائل سياسية أخرى، أبرزها الجدل الذي ثار حول رفض الفيفا ارتداء المنتخبات الأوروبية لشارة دعم المثليين. وفي كأس آسيا التي تقام بينما تحتدم الحرب في غزة، وفي غياب البطولة عن دائرة اهتمامات الإعلام الغربي غير المتخصص رياضيا كان الطريق ممهدا للمزيد من رسائل الدعم للفلسطينيين في ظل وجود مكثف من الجماهير العربية، وترحيب من الدولة المضيفة بمشاركة الفريق الفلسطيني عكسته بوضوح في لفتة حفل الافتتاح.

دون أي فوز في مشاركتيه السابقتين التي سجل خلالهما هدفا واحدا في ست مباريات، بدا الفريق الفلسطيني في مستهل مشاركته الثالثة تاريخيا في بطولة الأمم الآسيوية وكأنه سيبقى وفيا للسجل نفسه، عندما خسر بفارق كبير أمام المنتخب الإيراني أحد المرشحين للفوز باللقب.

لكن الخسارة على أرض الملعب كانت ملحوظة بالكاد مقابل مشهد الآلاف يرفعون علم فلسطين في المدرجات مرددين نشيدها الوطني، مشهد سبق بدقائق قليلة رفض لاعب إيراني الاحتفال بهدفه في شباك فلسطين احتراما لآلاف سقطوا في غزة، بينما تجري المباراة وسط هتافات جماعية من مشجعي الفريقين تندد بالعدوان الذي تشنه إسرائيل على البشر في غزة، المباراة سبقتها دقيقة من الصمت يعلن الاتحاد الآسيوي أنها أتت احتراما لـ"من فقدوا أرواحهم بشكل مأساوي في فلسطين" دون أن يبحث عن صياغات أكثر "دبلوماسية" التزمتها هيئات تدير كرة القدم في دول وقارات أخرى بشأن ما يجري منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

مجرد الوجود على أرض الملعب كان منطلقا لظاهرة تتعدى حدود إثبات الذات كرويا إلى كونها منصة يعبر منها الفلسطيني عن ذاته

عزلة كروية بطابع سياسي

لمشاركة فلسطين بمنتخبها في كأس الأمم الآسيوية تحديدا رمزية سياسية تتعدى حدود ما هو متعارف عليه من تعاطف مع بلد يمر بكارثة إلى تعزيز الوجود في ساحة رياضية تغير واقعها عن البدايات بفعل رفض سياسات الاحتلال الإسرائيلي، فربما يغيب عن ذهن البعض أن إسرائيل كانت من أوائل الدول التي شاركت في البطولة الآسيوية التي انطلقت عام 1956 في هونغ كونغ، بل إنها فازت بلقب نسخة عام 1964 التي استضافتها في تل أبيب بمشاركة ثلاثة فرق.

الواقع الذي انطلقت في ظله بطولة آسيا سرعان ما تغير بسببب رفض الدول العربية اللعب في منافسات تشارك فيها إسرائيل، إلى حد صنع مشهدا هزليا كاد أن يؤهل إسرائيل إلى كأس العالم عام 1958 ممثلة عن قارتي آسيا وأفريقيا دون خوض مباراة تأهيلية واحدة لانسحاب عدد من الفرق رفضا لمواجهة الفريق الإسرائيلي، قبل أن يتدخل الاتحاد الدولي لكرة القدم ليفرض مباراة تأهيلية خسرتها إسرائيل أمام ويلز.

Getty Images
يقف لاعبو فلسطين دقيقة صمت حدادا على ضحايا الصراع المستمر في غزة قبل بدء مباراة على استاد الجنوب في 18 يناير بقطر

سبعينات القرن الماضي شهدت تحركا عربيا مدعوما من بعض الدول الآسيوية لطرد إسرائيل من بطولات الاتحاد الآسيوي، لتسجل رفضا متواصلا للمحاولات الإسرائيلية للتعلق بما يعتبرونه امتدادا جغرافيا، إلى الحد الذي دفع إندونيسيا للتخلي عن استضافة كأس العالم للشباب العام الماضي رفضا لوجود الفريق الإسرائيلي -المتأهل من التصفيات الأوروبية- على ملاعبها. 

العزلة الكروية التي فرضتها آسيا على إسرائيل دفعت بها لسنوات من التيه الكروي دون أن تنتمي لاتحاد قاري، قبل أن تنضم في التسعينات إلى أوروبا دون أن تتأهل ولو لمرة واحدة حتى اللحظة إلى كأس الأمم الأوروبية، بينما شغلت فلسطين مساحتها في كرة القدم الآسيوية بعلمها ونشيدها وبلعبها على أرضها في بعض الأحيان، لتتحول إلى ضيف دائم على كأس آسيا منذ عام 2015، رغم أن الاعتراف الدولي بالاتحاد الفلسطيني تأخر حتى أواخر التسعينات.

العزلة الكروية التي فرضتها آسيا على إسرائيل دفعت بها لسنوات من التيه الكروي دون أن تنتمي لاتحاد قاري، قبل أن تنضم في التسعينات إلى أوروبا 

رمزية الوجود

لكن الفلسطينيين بمنتخبهم الملقب بـ"الفدائي" رفضوا أن تكتفي المشاركة الحالية في كأس آسيا بمكاسب تتعلق برمزية الوجود وإثبات الكينونة والتأكيد على الانتماء الطبيعي للبعد الجغرافي. بل صنعوا منها لحظة كروية نادرة بمقاييس مشاركاتهم السابقة.

الفريق الذي سجل هدفا واحدا فقط في مشاركتيه السابقتين مضى بعد الخسارة الأولى من إيران ليحصد تعادلا من مباراته مع المنتخب الإماراتي، قبل أن يحقق انتصاره الأول بالفوز على هونغ كونغ الذي كتب به التاريخ عندما تأهل للمرة الأولى إلى الدور الثاني من البطولة. 

Reuters
لاعبو منتخب فلسطين يحتفلون بعد تسجيل هدف خلال الشوط الثاني من كأس آسيا ضد هونغ كونغ، في 23 يناير

هذه البطولة ربما تكون منصة أخرى يتعرف من خلالها العالم على واقع الحياة تحت الاحتلال من خلال واقع كرة القدم الفلسطينية؛ فالبطولة المحلية التي ينشط في منافساتها أغلب لاعبي المنتخب يتحكم الاحتلال في مصيرها برفضه عبور اللاعبين وأحيانا برفض عبور فرق بكاملها بين قطاع غزة والضفة الغربية "لاعتبارات أمنية"، مثلما يرفض أحيانا عبور بعض اللاعبين للانضمام إلى معسكرات المنتخب للأسباب ذاتها.

والفريق الفلسطيني وإن خلا من لاعبي أندية قطاع غزة الذي دمرت الحرب غالبية منشآته الرياضية، إلا أنه لا يخلو من أبناء القطاع الذين يخوضون غمار البطولة بينما يمثل التواصل مع ذويهم لإخبارهم بالإنجاز الذي تحقق مهمة أصعب من كأس آسيا ذاته. أما أسرة كرة القدم الفلسطينية التي يمثلها المنتخب فلم تكن بعيدة عن الفقد الذي طال الجميع في غزة. ولعل مدرب المنتخب الأولمبي واللاعب السابق هاني المصدر يعد مثالا حيا على ذلك، بعد أن غيبته غارة إسرائيلية عن الدنيا قبل أيام من انطلاق البطولة.

الشعب الذي يقف مليونان من أبنائه على حافة المجاعة في غزة لا يزال قادرا على أن يدخل ملاعب المونديال مشجعا لمنتخب بلاده في بطولته القارية

ثمة مفارقة لا تخطئها العين في أن يجد منتخب فلسطين نفسه أمام أهم لحظاته الكروية في تاريخه بينما يمر شعبه بمحنة غير مسبوقة. وربما لا يعني التقدم في كأس آسيا الكثير أمام حرب حصدت عشرات الآلاف وأنتجت أكبر موجة من النزوح للشعب الفلسطيني منذ عام 1948 وفقا للأمم المتحدة.

لكن الحالة التي يصنعها لاعبو فلسطين وجماهيرهم في قطر تمثل قصة لا يمتلك أمامها العالم سوي أن يقف ويفكر. الشعب الذي يقف مليونان من أبنائه على حافة المجاعة في غزة لا يزال قادرا على أن يدخل ملاعب المونديال مشجعا لمنتخب بلاده في بطولته القارية حتى عندما يحول الجيش الإسرائيلي ملعب اليرموك في غزة الذي تأسس عام 1938 قبل عقد من قيام إسرائيل إلى مركز للاعتقال بحسب اتحاد الكرة الفلسطيني.

وبقصصهم التي تأخذنا من مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية المحتلة إلى تشيلي في أميركا الجنوبية حيث أسس المهاجرون الفلسطينيون قبل قرن من الزمان نادي "بالستينو" الذي لا يزال ممولا للمنتخبات الفلسطينية باللاعبين، يقدم اللاعبون الفلسطينيون مثالا إنسانيا في محفل كروي دولي في وقت يحاول فيه اليمين الإسرائيلي المتطرف سلب الفلسطيني من آدميته ووضعه في قالب يسهل معه تحويل ضحاياه إلى مجرد أرقام.

أما كرة القدم الآسيوية فتجد نفسها مجددا أمام حالة متفوقة على أرض الملعب رغم كل المصاعب، في مشهد يعيد للأذهان تلك اللحظة التي توج فيها العراق عكس كل التوقعات بطلا لكأس آسيا في 2007، بينما كان يعاني ويلات الغزو الأميركي الذي لم يدفع "الفيفا" وقتها لاتخاذ إجراء بحق الفريق الأميركي كالذي تغيب بموجبه روسيا عن كرة القدم الدولية حاليا عقابا لها على غزو أوكرانيا.

font change

مقالات ذات صلة