ألمانيا تقود أوروبا إلى الانضباط المالي... بعد النقدي

محطة تاريخية لآلية تدفع إلى الاستقرار

REUTERS
REUTERS
أعلام الاتحاد الأوروبي أمام مقر مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بلجيكا، 14 يوليو 2021

ألمانيا تقود أوروبا إلى الانضباط المالي... بعد النقدي

بعد أكثر من عامين من المفاوضات، توصل ممثلون من مجلس الاتحاد والبرلمان الأوروبيين، في مناقشة استمرت ست عشرة ساعة متواصلة في بروكسيل إلى اتفاق مبدئي في شأن إصلاح قواعد "ميثاق الاستقرار والنمو" وتحديثها.

يتضمن الاتفاق إصلاحا في قواعد الموازنات العامة، يؤمن توازنا مقبولا من كل الدول الأعضاء بين الصرامة والمرونة المالية. وبات في الإمكان تأمين الأكثرية للتصويت عليه في المجلس وفي الجلسة العامة للبرلمان في الربيع المقبل، قبل العطلة التي تسبق الانتخابات الأوروبية في يونيو/حزيران، فيدخل حيز التنفيذ اعتبارًا من الأول من يناير/كانون الثاني 2025. لكن المفوضية الأوروبية ستأخذه في الاعتبار انطلاقا من السنة الجارية لتقييم الوضع المالي للدول الأوروبية السبع والعشرين، التي ستكون ملزمة تطبيقه على موازناتها لعام 2025.

إقرأ أيضا: الموقف الأوروبي في البحر الأحمر: نُساعد ولا نُصعد

عدم الاتفاق على القواعد الجديدة كان سينعكس سلبا على صدقية دول الاتحاد الأوروبي في الأسواق المالية، إذ كان سيعني استمرار تعليق تقيدها بضوابط "ميثاق الاستقرار والنمو" الذي بدأ العمل به في مارس/آذار عام 2020 لتجنب انهيار الاقتصاد الأوروبي بسبب ضغوط جائحة "كوفيد -19"، وتم تمديده حتى نهاية عام 2023 بسبب تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، وما نجم عنه من أزمات طاقة وتضخم وضغوط على موازنات الدفاع، أضيفت إلى الأزمات المناخية والبيئية.

يعتبر "ميثاق الاستقرار والنمو" الذي اعتمد في 1997 "حزاما ضاغطا" للموازنة. هو يلزم دول الاتحاد الأوروبي إبقاء عجزها دون نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، والدين العام دون 60% من الناتج

يعتبر "ميثاق الاستقرار والنمو" الذي اعتمد في عام 1997 "حزاما ضاغطا" للموازنة. فهو يلزم دول الاتحاد الأوروبي إبقاء عجزها دون نسبة 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، كما إبقاء الدين العام دون نسبة 60 في المئة من الناتج.

إقرأ أيضا عن: الرهان الأوروبي المتأخر على "حل الدولتين" 

وتوضح معايير "ماستريخت" لعام 1992، أن العجز العام يتضمن عجز المالية العامة وعجز الإدارات المركزية التي تعتبر مستقلة ماليا والسلطات المحلية والضمان الاجتماعي. كذلك يتضمن الدين العام ديون الدولة والجهات الثلاث المذكورة. ولا تتقيد حاليا العديد من الدول الأوروبية بالنسبتين السابقتين بسبب ضخها الأموال بكميات كبيرة على مدى سنوات لتخفيف تأثير الأزمات المتعاقبة عليها، بدءا من ارتدادات أزمة الرهونات العقارية في الولايات المتحدة على أسواقها. ومنهم من يقول إن التقيد بالنسبتين لم يحصل منذ البداية ولم يتم فرض أية عقوبات على أي دولة مخالفة. فالقاعدتان كانتا صارمتين فقط على الورق لكن ليس في التطبيق.

قيادة ألمانية صارمة

وكما قادت ألمانيا عملية الاستقرار النقدي في أوروبا بتصدرها التشدد في فكرة منح مصرفها المركزي "البوندسبنك" إستقلالية رائدة تحميه بنص تشريعي من ضغوط الحكومات التمويلية، وهو منحى نقلته لاعتماده في اتفاقية الإتحاد الأوروبي ومن ثم في اتفاقية إنشاء البنك المركزي الأوروبي، فقد تصدرت ألمانيا أيضا لائحة الدول التي سميت بـ"المقتصدة"، وعملت لتحقيق الانضباط والاستقرار المالي من خلال الضغط لاعتماد تدابير متسقة بهدف خفض فاعل للإفراط في العجز والدين العامين.

AFP
شعار "دويتشه بنك" يظهر على أحد فروعه في فرانكفورت

يتضمن الدستور الألماني مادة رقمها 109 يوصف نصها، الذي تم تعديله عام 2009 بغالبية الثلثين في مجلسي النواب والولايات، بأنه "كابح للديون العامة". وقد استندت إليه المحكمة الدستورية أخيرا في حكم أصدرته بتاريخ 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، قضت فيه بعدم دستورية قانون صدر وتجاوز السقوف الائتمانية بهدف تغذية صندوق خاص لحماية المناخ وتحديث الاقتصاد بمبلغ قيمته 60 مليار يورو. وعللت قرارها بأن موضوع التمويل لا يتعلق بحالات "الكوارث الطبيعية أو حالات الطوارئ الاستثنائية". كما أن المشرع لم يثبت بشكل كافٍ، هذا اذا اعتبرنا الحالة المفروضة استثنائية، "العلاقة السببية بينها وبين تجاوز السقوف الائتمانية". وقد ووجه قرار المحكمة بانتقادات متنوعة أهمها تعرضه لضمان احترام مسؤولية الدولة تجاه الأجيال القادمة والإشكالية التي يحدثها بالنسبة الى القروض المتعاقد عليها أو التي سيتم التعاقد عليها في إطار سياسات الاستثمار الطويلة الأجل.

كانت الدول الأوروبية أبرمت، بمبادرة وإلحاح من ألمانيا، في عام 2012، "الميثاق المالي الأوروبي" الذي يتضمن قواعد مستوحاة من القواعد الألمانية في شأن "فرملة الدين العام"

وكانت الدول الأوروبية أبرمت، بمبادرة وإلحاح من ألمانيا، في عام 2012، "الميثاق المالي الأوروبي" الذي يتضمن قواعد مستوحاة من القواعد الألمانية في شأن "فرملة الدين العام".

معارضة فرنسية أخرت إقراره

وكانت فرنسا عارضت، باسم البلدان المدينة في جنوب أوروبا، المنحى الألماني، وقالت إن المعايير التلقائية ستؤدي إلى نتائج عكسية، وستثبط الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية وتخنق النمو الاقتصادي.

للمزيد إقرأ: أوروبا تحت حصار ثورة المزارعين

وقد استدعى الأمر مفاوضات أوروبية لأكثر من عامين تخللتها نقاشات مباشرة بين باريس وبرلين، انتظرت خلالها العواصم الأوروبية الأخرى لأكثر من ثمانية أشهر، الى حين إعلان الفريقين، الألماني والفرنسي، توصلهما إلى تقارب في وجهات النظر، أسس للاتفاق الأخير بين ممثلي المجلس والبرلمان في بروكسيل.

لم يمس الاتفاق المذكور العتبتين الشهيرتين (3 في المئة لعجز الموازنة نسبة للناتج المحلي الإجمالي و60 في المئة لسقف الدين العام نسبة للناتج المذكور). لكنه نص على قواعد أقل تقييدا وأكثر تكيفا ومرونة مع الوضع الخاص لكل بلد. سيتعين على الدول بمقتضاها، وضع خطط تكيف ومسارات صافي إنفاق  يتفق عليها مع المفوضية ثم المجلس، تضمن مرونة وخفض العجز بنسبة معينة في الموازنة، كما تضمن تحمل الدين وخفضه بنقاط محددة بحسب حجم هذا الدين، أو إبقاء العجز والدين عند مستويات حكيمة، وذلك لمدة أربع سنوات على الأقل.

والدول التي ستنفذ إصلاحات واستثمارات في المجالات التي تشكل أولوية لدى الاتحاد الأوروبي مثل البيئة وتعزيز القدرات الدفاعية حيثما كان ذلك مناسبا وغيره، ستكافأ بالسماح لها بتمديد فترة التكيف إلى سبع سنوات كحد أقصى.

ستخضع الدول الأعضاء التي تتجاوز العتبات الملزمة أو التي انحرفت عن الالتزامات التي تعهدت بها، إلى فرض غرامات عليها، تطبق تصاعديا لتكون أكثر فاعلية

محطة تاريخية لمراقبة الانحرافات المالية

وتنص الاتفاقية على إنشاء حساب مراقبة لتسجيل الإنحرافات عن مسارات صافي الإنفاق الخاصة بكل دولة مطلوب منها وضع خطة تكيف. وستأخذ المفوضية في الاعتبار ارتفاع أسعار الفائدة أثناء تنفيذ الخطة المذكورة. وسيكون في الامكان اعتماد "مصدات مالية" للتعامل مع التقلبات والاختلالات، على نحو يضمن الإنفاق الاستراتيجي في جميع الأوقات حتى في الظروف المعاكسة.

AFP
المفوض الأوروبي للاقتصاد باولو جينتيلوني، يتحدث في مؤتمر صحافي عن التوقعات الاقتصادية الشتوية، في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل، 15 فبراير 2024

في المقابل، ستخضع الدول الأعضاء التي تتجاوز العتبات الملزمة أو التي انحرفت عن الالتزامات التي تعهدت بها بموجب برامج تكيف متوسطة الأجل لإجراءات العجز المفرط، إلى فرض غرامات عليها، وستكون هذه الغرامات تصاعدية لجعلها أكثر فاعلية، بحيث لن يتم تحديد سقف لها.

الاتفاق، ولو كان مبدئيا، هو محطة تاريخية بحسب وزير المالية الفرنسي برونو لومير. فهو يؤسس لآلية تدفع إلى الاستقرار والانضباط الماليين، مما يحضر لبيئة مؤاتية للتفكير مستقبلا في إنشاء مالية أوروبية موحدة يمكن معها الكلام عن مشروع رائد بطرح سند خزانة أوروبي يقلب المعادلات الاقتصادية والمالية الدولية.

وستواجه إسبانيا، رابع أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، تحدي التشدد المالي بموجب القواعد الجديدة، كما ستكافح إيطاليا، التي تتحمل أعلى عبء ديون بين الاقتصادات الكبرى في المنطقة اليورو، من خفض ديونها.

ويحظى الاتفاق بغالبية تضمن تمريره في المجلس والبرلمان الأوروبيين، تتكون من الليبيراليين وغالبية كبيرة من المجموعة الديمقراطية الاجتماعية. لكن هناك قلة من المجموعة الأخيرة تنتقده إضافة إلى اليسار الراديكالي وحزب الخضر تحت شعار أنه دعوة إلى التقشف وعودة إليه، وأن التعديلات الأخيرة التي أدخلت إليه عقدت النص بشكل كبير.

بيد أن الخطأ والخطر يكمنان في إمكان استغلال الاتفاق من قبل أحزاب اليمين الصاعدة والشعبويين للتصعيد، مما سينال من أوروبا التي هي في حاجة ماسة إلى الاستثمارات في الاقتصاد، وليس تحديث "القواعد السخيفة اقتصاديا"، على حد قول النائبة الاوروبية، أورور لالوك.

font change

مقالات ذات صلة