"حماس" بين خياري ياسر عرفات في بيروت أو رام الله

قدرات الحركة باتت تتآكل مع الاستمرار في المواجهة

"حماس" بين خياري ياسر عرفات في بيروت أو رام الله

مضى على حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، حوالي خمسة أشهر، بأيامها ولياليها وبكل دقيقة منها. علما أن إسرائيل ما زالت تصرح، في كل لحظة بأنها ماضية في حربها تلك حتى تحقيق أهدافها، بادعائها تقويض "حماس"، في حين يتضح من طريقة الحرب التي اعتمدتها، منذ اليوم الأول، أنها تتوخى ترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، لإخضاعهم لإملاءاتها، وصولا لجعل غزة مكانا غير صالح للعيش، للتخفف من الثقل الديموغرافي الذي يشكله الفلسطينيون فيها، وإزاحة كتلة كبيرة منهم خارجها.

لئن كانت تلك هي أهداف إسرائيل الحقيقية من الحرب، فإن خيارات "حماس"، تبدو محدودة، في تفويت تلك الاستهدافات. فهي لا تمتلك إمكانية هزيمة الجيش الإسرائيلي، أو صد هجمته على غزة، كما بينت التجربة المريرة والكارثية، ثم إن قدراتها باتت تتآكل مع الاستمرار في المواجهة، وبالنظر للضغط الكبير، المعيشي والأخلاقي والسياسي الناجم عن خراب حياة أكثر من مليوني فلسطيني باتوا نازحين، خارج بيوتهم، مع افتقادهم للمقومات الأساسية للحياة، بالإضافة إلى الضغوط الموجهة لها دوليا، وعزلتها على الصعيد العربي.

وفي نظرة واقعية، فنحن إزاء حركة وطنية فلسطينية شنت، أو استدرجت إلى حرب، تختلف عن المقاومة بشروطها وإمكانياتها وتداعياتها. نجمت عنها نكبة جديدة للشعب الفلسطيني. وهذا لا علاقة له بطبيعة "حماس"، أو خياراتها. إذ ينطبق عليها ما ينطبق على "فتح" أو الجبهات "اليسارية"، لجهة تقييم الخيار السياسي، ومدى صحته ومواءمته للظروف، فلسطينيا وعربيا ودوليا، وإمكان تثمير التضحيات في إنجازات سياسية.

"حماس" تقف اليوم أمام خيارات محدودة، ويخشى أنها مع كل مفاجآت الحرب لم تعد نفسها للخطة خروج، أو انسحاب من المعركة

مثلا، شهدنا، في التجربة التاريخية، خسارة الحركة الوطنية الفلسطينية للأردن (1970)، بسبب الخيارات التي انتهجتها، بين عوامل أخرى، وتكرر ذلك بإخراجها من لبنان (1982)، كما شهدنا إخفاق الانتفاضة الثانية رغم كل التضحيات التي بذلت فيها (2000- 2004)، وقبلها شهدنا إجهاض الانتفاضة الأولى (1987- 1993) بتوقيع اتفاق أوسلو. والقصد أن المعيار السياسي، والمصلحة الوطنية، هما الأساس في تقييم أي خيار سياسي أو كفاحي لأي فصيل فلسطيني، بمعزل عن أية خلفية أخرى، لأن تلك الخلفيات لها نقاش آخر.
هكذا، فنحن إزاء حركة وطنية، ذات خلفية دينية، وكجزء من نسيج الشعب الفلسطيني، بواقع فوزها في الانتخابات (2006)، وتمتعها بشعبية كبيرة لا تقل عن تلك التي لـ"فتح"، مقابل فصائل ليس لها شعبية، ولا دور في الصراع ضد إسرائيل، ولا هوية فكرية. 
من جهة أخرى، ومع الأخذ في الاعتبار أخطاء "حماس"، التي حاولت استدراكها، ولو نظريا، في وثيقتها الجديدة عن رؤيتها لـ"طوفان الأقصى"، إلا أنها وجهت ضربة كبيرة، غير مسبوقة لإسرائيل، سياسية ومعنوية وأمنية، كما بينت تهيئة ذاتها لها بشكل جدي. وعليه، فهي بقدر نجاحها من ناحية تكتيكية، فإنها لم تكن موفقة، من ناحية استراتيجية في خيارها بتلك الهجمة، أولا، لعدم تقديرها قوة إسرائيل، والضمان الدولي لأمنها وتفوقها. وثانيا، لانفصامها عن الواقع العربي. ثالثا، لأنها لم تهيئ شعبها في غزة لهكذا معركة طويلة ومهولة.
وفي المحصلة فإن "حماس" تقف اليوم أمام خيارات محدودة، ويخشى أنها مع كل مفاجآت الحرب لم تعد نفسها للخطة خروج، أو انسحاب، من هذه المعركة، لوقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، وتفويت استهدافاتها، في هذه الظروف والمعطيات غير المواتية.
وفي عودة للتجربة الفلسطينية يظهر خيار ياسر عرفات المتمثل بالخروج من بيروت (1982) الذي جنب تلك المدينة الدمار، بعد حصار إسرائيلي دام ثلاثة أشهر. طبعا ثمة من سيحاجج بأن بيروت غير غزة، كمدينة فلسطينية، لكن تلك الحجة ليست في محلها، لا سياسيا ولا أخلاقيا، إذ دمرت غزة تقريبا، وتحاول إسرائيل استكمال مخططها باقتلاع الفلسطينيين منها. وكان الأولى التبصر قبل الإقدام على معركة غير محسوبة، لا تستطيع فيها المقاومة حماية شعبها، أو تجنيب غزة الدمار، لذا فعلى الأقل يفترض عدم التسهيل على إسرائيل تهجير الفلسطينيين قسرا أو طوعا.

نحن إزاء حركة وطنية فلسطينية شنت، أو استدرجت إلى حرب، تختلف عن المقاومة بشروطها وإمكانياتها وتداعياتها

على أية حال، فإن خيار وقف "حماس" القتال، وخروج بعض قيادييها منها، وعقد صفقة للإفراج عن أسرى من الطرفين، لا يقلل من التقدير لما حاولته تلك الحركة، وما كبدته لإسرائيل، دون تحميلها فوق طاقتها. 
أيضا، ثمة مخرج "مشرف" آخر، يتمثل باندماج "حماس" في الجسم الجامع للحركة الوطنية الفلسطينية، أي منظمة التحرير والسلطة، وهو ما يجري التداول به في مباحثات ومفاوضات الأطراف والوسطاء المعنيين. مفهوم أن مشكلة "حماس" في هذا الخيار أنها لا تستطيع، تبعا للظروف الراهنة، والضغوط الموجهة عليها، من مختلف الأطراف داخليا وخارجيا، فرض الشروط التي كانت تطرحها، إذ لم يبق لديها سوى ورقة الأسرى أو الرهائن، ما يفترض منها تدوير الزوايا، لصالح هدف أكبر، يتمثل في وقف آلة الحرب الإسرائيلية، وتفويت استهداف إسرائيل تشريد فلسطينيي غزة. أما بقية المسائل، أي الخلاف في شأن كيفية بناء البيت الفلسطيني، فيمكن أن تنتظر إلى ما بعد الحرب. بيد أن ذلك يتطلب من "حماس"، أيضا، تفهم، تعذر تحولها إلى "حزب الله" آخر في فلسطين، على غرار "حزب الله" اللبناني، فهذا وهم يصعب تجسيده، كما أن "حزب الله" ليس نموذجا يحتذى، كحزب طائفي وكذراع إقليمية لإيران، فضلا عن المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ذلك بالنسبة للفلسطينيين وقضيتهم.
طبعا يبقى ثمة الخيار الأقصى لـ"حماس"، باستمرار القتال حتى النفس الأخير، وفقا لشعار أنه "جهاد فإما نصر أو استشهاد"، وهو خيار ياسر عرفات ذاته إبان الانتفاضة الثانية، الذي قضى على أساسه شهيدا بعد حصاره في مقره في رام الله لثلاثة أعوام. ففي حين يفترض أن ذلك الشعار هو تعبوي، وكجزء من ثقافة سائدة في المنطقة، لكنه لا يصلح للصراعات السياسية التي تعتمد موازين القوى والمعطيات الدولية المواتية، كما أن الفلسطينيين ليسوا إزاء حرب للجهاد، وإنما هم في مرحلة تحرر وطني، بإقرار "حماس" لذلك في وثيقتها السياسية الجديدة. هذا خيار بطولي، لكنه مأساوي أيضا، إذ لدى إسرائيل موارد ذاتية أكبر بما لا يقاس بالنسبة لـ"حماس". ولديها أيضا فائض دعم من أقوى الدول في العالم، وبين هذا وذاك فإن إسرائيل هي وضع دولي، أي تحظى بحماية دولية، وفي كل الأحوال فإن تلك القوى لا تسمح بأي تغيير في هذه الوضعية، التي تحتاج إلى تغير في المعادلات العربية والدولية لغير صالح إسرائيل. 
كل الخيارات صعبة ومكلفة ومأساوية، ويخشى أنها كلها لا تجنب الفلسطينيين نكبة جديدة؛ إذ للأسف لا يوجد اسم آخر لما أحاق بفلسطينيي غزة خاصة، والفلسطينيين عموما.

font change