"عوليس في غزة" مسرحية إسرائيلية ممنوعة قبل حرب غزة وبعدها

الأدب في مواجهة الحصار

GettyImages
GettyImages
شبان فلسطينيون يستعيدون كتبا من تحت أنقاض مسجد ومباني انهارت خلال القصف الإسرائيلي حول مدينة رفح جنوب قطاع غزة في 24 يناير 2024

"عوليس في غزة" مسرحية إسرائيلية ممنوعة قبل حرب غزة وبعدها

عرض المخرج الأميركي الإسرائيلي غي بن هارون مسرحية "عوليس في غزة" لأول مرة في الولايات الأميركية المتحدة عام 2015، وهي مسرحية إسرائيلية نادرة (كتبها الراحل جلعاد إيفرون) تتناول وضعية الحصار المفروض على قطاع غزة لسنوات طويلة. يقول بن هارون عن هذا العرض: "عندما قدمت مسرحية عوليس بعد ثلاث سنوات في بوسطن، كنت أعلم أن المسرحية ستهز الجمهور. وأنا شخصيا تأثرت بالآراء والحقائق المعروضة، وهي تظهر اللامبالاة اليومية للإسرائيليين تجاه الحصار المفروض على غزة، والذي كانت حكومتنا تأمل أن يؤدي إلى إضعاف "حماس"، لكنه تحوّل إلى عقاب جماعي قاس... ثمّ فقدت شركتي الجهات المانحة وبعض جمهورها. استدعاني القنصل الإسرائيلي في بوسطن إلى مكتبه وطلب مني التركيز على إنتاجات أخرى ".

يبدو أن هذا التصريح يتنبأ بما سيحدث بعد سنوات قليلة. لقد استمر الحصار سبعة عشر عاما، وقطاع غزة لم يسقط في البحر حتى الآن. والخوف من الموت لم يمنع "حماس" من اقتحام إسرائيل بـ "طوفان الأقصى" فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. واليوم، مع نزوح ما يقرب من مليوني فلسطيني داخل غزة، هربا من القصف الإسرائيلي، تتفشى الأمراض ويصل سوء التغذية إلى أعلى مستوياته على الإطلاق. في الواقع، لقد اختفت غزة من المشهد المسرحي منذ فترة طويلة. ومع استمرار هذه الحرب، يستمر منع عرض "عوليس في غزة" في كل مكان، من إسرائيل إلى برلين، ومن باريس إلى بوسطن. في نوفمبر/ تشرين الثاني سأل المخرج بن هارون أحد المنتجين في إحدى فرق المسرح الجامعي في بوسطن عما إذا كان يرغب في تقديم قراءة للمسرحية، فأخبره أن رئيس الجامعة منع العروض أو التصريحات عن غزة في المسرح.أما في إسرائيل، فلن يجرؤ أي مسرح على عرض هذه المسرحية اليوم. والسبب أن "عوليس في غزة" هي آخر مسرحية إسرائيلية كبرى تناولت هذا الحصار، وكان ذلك قبل اثني عشر عاما. والمسرح الإسرائيلي، الذي تحضره نسبة مذهلة من السكان تبلغ 40٪، يخضع لسيطرة الدولة: يأتي العديد من الممثلين من القوات العسكرية ويموّل معظم المسارح من القطاع العام. وعندما تنتقد المسارح السياسات الإسرائيلية الرسمية أو تستكشف موضوعات محظورة مثل الاحتلال أو النكبة، قد يخفض تمويلها أو يقيد من قبل وزارة الثقافة.

مع استمرار هذه الحرب، يستمر منع عرض "عوليس في غزة" في كل مكان، من إسرائيل إلى برلين، ومن باريس إلى بوسطن

لهذا، لم يكن من السهل تنظيم العرض العالمي الأول لهذه المسرحية في إسرائيل. ففي البداية، رفضممثل يهودي أداء الدور الرئيسي، خوفا من إدراجه في القائمة السوداء من الدائرة التجارية بعد ذلك، ومُنح الدور في النهاية لمواطن فلسطيني يعيش في إسرائيل. ومع ذلك، قدم أكثر من 80 عرضا، وترجمت المسرحية لأربع لغات وعرضت في أكثر من بلد، وفاز الإنتاج بجائزة أفضل مسرحية أصلية في أشهر مهرجان خاص بالمسرح الإسرائيلي.

تحكي "عوليس في غزة" قصة استاذ للأدب من عرب إسرائيل، صنع طوفا من قوارير (أو زجاجات) مياه بلاستيكية وأبحر إلى غزة بهدف كسر الحصار عنها، مهرِّبا معه كتب الأدب الروسي بهدف تدريسها هناك. ألقت قوات الأمن القبض على هذا الأستاذ ووضعته في السجن، فأطلق عليه الجنود الذين أمسكوه لقب "عوليس". بعد ذلك، ستقوم المحكمة بتعيين المحامي إسحاقوف للدفاع عنه. وأغلب المسرحية عبارة عن حوار يدور بين الاثنين. يحاول المحامي، الذي يمثل المؤسسة، إقناع الاستاذ بالتخلي عن طموحه بالوصول إلى غزة مقابل إطلاق سراحه، وهو يبذل قصارى جهده لعدم التعاطف مع محنة موكله، في حين يبذل "عوليس" كل ما في وسعه لتمكين المدافع القانوني، الجاهل بالأدب، من أن يدرك أهمية دوستويفسكي.ومحامي الدفاع هذا هو محامٍ كبير متطوع في مكتب المدعي العام، هرب من زوجته التي حاولت إلباسه لباسا مضحكا وتسخيره للرقص أمام أطفال معاقين في مناسبة خيرية تنظمها، كما أنه دخل في صراع مع شريكه في مكتب المحاماة بسبب تحمسه المبالغ فيه لربح المال بكل الوسائل الممكنة. وفي نهاية المسرحية، يظهر إسحاقوف وهو يتناول العشاء مع زوجته وزميله المحامي عندما يصله خبر وفاة عوليس، فقد قُتل عندما حاول مرة أخرى الوصول إلى غزة بمساعدة طائرة شراعية من صنع يديه.

Gilad Evron photographed by Gerard Alon.jpg
الراحل جلعاد إيفرون

تروي "عوليس في غزة"، بروح الدعابة المدهشة والبصيرة القوية، حكاية لقاء في السجن بين شخصين غير متوقعين، بينما يسلط الحوار الضوء على ردود الفعل المختلفة تجاه غزة المحاصرة.شخصان يعيشان في واقعين منفصلين حيث تتعارض حياة الامتياز مع حياة الحرمان. كما تثير المسرحية أسئلة فلسفية عميقة حول الأخلاق المطلقة والحرية الشخصية، بحيث يمكن القول إن هذا العمل يمثل فعلا المسرح الإسرائيلي في أكثر حالاته استفزازا. إذ يواجه الأساطير المؤسسة لقوة إسرائيل بكشف الواقع القاسي على الأرض، مذكرا الجميع بأن من الصعب الاستمرار في التظاهر بالتفوق، حتى لو شُيدت الجدران لمداراة فظاعة المذبحة الإنسانية، أو جُرّد الآخر من إنسانيته دون شعور بالذنب أو الندم.

تبلورت فكرة المسرحية لأول مرة لدى الكاتب المسرحي الإسرائيلي جلعاد إيفرون عام 2007. كانت الشرارة التي دفعته لكتابتها هي إصدار هيئة تنسيق العمليات في المناطق وثيقة موجزة لدراسة بعنوان: "الخطوط الحمراء". هذه الدراسة، التي كشفت "هآرتس" أجزاء منها، وضعت خطوطا حمراء لكمية السعرات الحرارية والعناصر الغذائية اللازمة لسكان قطاع غزة. وقد تُرجمت هذه التعليمات إلى تعليمات عملية: الحد الأدنى لعدد الشاحنات التي سيسمح لها بدخول القطاع من تلك اللحظة فصاعدا هو 106 شاحنات. وقد كشف التحقيق، الذي أثار حينها ضجة في إسرائيل والخارج، أنه على الرغم من نتائج الدراسة، عشية الحرب على غزة، وافقت قوات الأمن الإسرائيلية على نقل 37 شاحنة فقط إلى القطاع. وشملت قائمة البضائع المحظورة، التي كشف عنها جزئيا أيضا، الكتب والشوكولاتة والملابس والأحذية والكرز والفرشات والكراسي المتحركة.

تواجه المسرحية الأساطير المؤسسة لقوة إسرائيل بكشف الواقع القاسي على الأرض، مذكرا الجميع بأن من الصعب الاستمرار في التظاهر بالتفوق

يحكي الكاتب جلعاد إيفرون في مقابلة صحفية: "قرأت التحقيق وأصبت بالصدمة. إن المعنى المستخلص منه هو تقليل عدد السعرات الحرارية التي تبقي الناس على قيد الحياة إلى الحد الأدنى. ماذا يقول هذا التحقيق عنا؟ لقد جعلناأضحوكة". كان هذا الأمربمثابة حافز آخر من بين العديد من الحوافزاليومية التيدفعته إلى الجلوس وكتابة مسرحية جديدة، فكانت النتيجة "عوليس على قوارير"، وهذا هو العنوان الأصلي، أو "عوليس في غزة" بحسب الترجمة الفرنسية الصادرة عن دار "تياترال" عام 2012.هناك أيضا مصدر إلهام آخر لهذه المسرحية(كُتبت عام 2010، قبل الغارة على أسطول الحرية في غزة، وكأنها تنبأت بهذا الحادث) هو سجن ابن الكاتب جلعاد إيفرونلرفضه الخدمة في الأراضي المحتلة أثناء تجنيده في الجيش الإسرائيلي،حين كان طالبا في سن 24. كتبالأبإيفرون سلسلة من الرسائل إلى معتقلي ابنه محاولا إقناعهم بالسماح له بإرسال الكتب، مدعيا أن ابنهفي حاجة إلىقراءةالأدب، وتحديدا الأدب الروسي، ليتمكن من المقاومة والصمود خلال فترة الاعتقال، فلم يُستجَب لطلبه وسمحوا له بإدخال الكتب المقدسة فقط. وفيما بعد، قام الكاتب باستغلال محتويات هذه الخطابات وإعادة صياغتها لتعرض علىلسان عوليس، بطل المسرحية المتخيل، الذي كان أكثر شغفا بنابوكوف ودوستويفسكي وبولغاكوف.

Stan Barouh
ماثيو بوسطن، مع كريس جينيباخ وإليزابيث بيروتي، في "عوليس في غزة" لجلعاد إيفرون

إن فرضية المسرحية بسيطة وعميقة. رجل مثقف وحر(عوليس) صنع طوفا من الزجاجات البلاستيكية وحاول الإبحار لفك الحصار عن غزة. لم يجلب معه إمدادات عسكرية أو طبية لسكان غزة المحاصرين، ولكن جلب معه شحنة من روايات الأدب الروسي. إنه يعتقد حقا أن الناس هناك بحاجة إلى عوالم عظماء الأدب الروسي لتنير عقولهم وتمنحهم مساحات من الحرية.لكن لسوء الحظ، يُعتقل عوليس من قبل قوات الأمن الإسرائيلية، لأن الكتب غير مسموح بدخولها إلى غزة، والفلسطينيون المسجونون هناك لا يستطيعون تحمل عبء الحرية التي تلهمها القراءة.إن الدولة الإسرائيلية لا تكتفيفقط بحساب ومراقبة عدد السعرات الحرارية الغذائية المسموح بها لكل ساكن في القطاع، ولكنها تتحكم أيضا في كمية الحروف المقروءة والنصوص الأدبية المسموح بمرورها.ولسنواتعديدة،ازدهرت السوق السوداء للكتب في قطاع غزة، وكذلك سوق الورق وأقلام الرصاص. وفي عام 2017، افتتحت أول مكتبة باللغة الإنكليزية ، في منزل عائلة شمال غزة، وتضم 400 كتاب.

ALAMY
مخيم رفح للاجئين في جنوب قطاع غزة، 15 فبراير 2018

في الواقع، من السهل أن ننسى أهمية قراءة الأدب في تطوير خيال البشر، في عالم يركز بشكل متزايد على التقدم التكنولوجي ووسائل الاتصال الحديثة. لكن بالرجوع إلى التاريخ، يجب أن نتذكر ما قاله فريدريك دوغلاس (الذي كان عبدا أميركيا سابقا، ثم أصبح فيما بعد كاتبا وأحد دعاة التحرير من العبودية والدفاع عن حقوق السود): "بمجرد أن تتعلم القراءة، ستكون حرا إلى الأبد". ذلك أن تعلّم القراءة هي طريق ضروري لحرية الإنسان وكرامته.وقد كان دوغلاس محظوظا، إذ لم تفهم عشيقته مالكة العبيد أهمية الأمية بالنسبة لسيطرة السيد، فقامت بتعليم دوغلاس كيفية القراءة لعدة سنوات قبل أن يكتشف زوجها جريمتها ويوقفها.كما أنه بعد تمرد العبيد في فيرجينيا، الذي قاده نات تورنر عام 1831، منع الجنوب القراءة بين العبيد. كان تورنر واعظا يعلم الكتاب المقدس لأتباعه، وخاصة تلك المقاطع التي تتحدث عن تحرير الإنسان من ظلم أخيه. هذا كله يشير إلى أن عملية تحرير شعب من الاحتلال والحصار ومساعدته على نيل الحرية تحتاج أيضا إلى معركة ضد الأمية والجهل، وإلى دعم القراءة ونشر الأدب على أوسع نطاق. وهذا هو ما تدافع عنه مسرحية "عوليس في غزة"، وبشكل أكثر وضوحا، عبر الحوار بين الشخصيتين الرئيستين.

تثير أعمال إيفرون انتقادات اجتماعية وسياسية صارمة حول الواقع الإسرائيلي، إما بمواجهته بشكل مباشر أو خلق واقع بديل

 يصرُّ "عوليس" على القول إنه أستاذ للأدب، وإنه يريد الذهاب إلى غزة لتدريس الأدب الروسي."لماذا الأدب الروسي؟"، يسأل المحامي إسحاقوف، فيجيبه عوليس بأن هناك مليونا ونصف المليون من الأشخاص المحاصرين في هذا الشريط الضيق من الأرض، يحتاجون إلى مساحات لا نهاية لها. والأدب وحده القادر على توفير هذه المساحات لسكان غزة.وبالنسبة إليه، الأدب الوحيد الذي يوسع من هامش الحرية هو الأدب الروسي. وبشكل عام، تدور أحداث المسرحية في إسرائيل المعاصرة. إنها موجهة في المقام الأول إلى الجمهور الإسرائيلي، وهي تجبرهم على اتخاذ موقف بشأن مسؤوليتهم الأخلاقية عن احتجاز سكان غزة. وشخصية "عوليس" مثالية لا هوادة فيها. في السجن العسكري، يقاوم بعقله وحده كل الإهانات ليبقى إنسانا،لأنه يدرك أن الأدب، الذي يعشقه بلا حدود، هو ما يستطيع مساعدته، لهذا ترافق عزلته شخصيات تولستوي وتشيخوف ودوستويفسكي وغيرهم. وهكذا، يصبح سجنه كناية عن سجن غزة الكبير، ما دام سكان القطاع محرومين من كل شيء، بما فيه الكتب. وهذا الموقف الذي فرضه "عوليس" سوف يترك السيد إسحاقوف يواجه معضلة حقيقية فيما يتعلق بمنصبه كرجل قانون. لهذا، فالمسرحية تذهب إلى ما هو أبعد من إطارها المحلي وتتطرق إلى أسئلة أكثر شمولية، مثل قدرة البشر على المقاومة ومكانة النظام القضائي في ما يسمى بالمجتمع الديمقراطي.

GettyImages
يتدفق الفلسطينيون الذين لجأوا إلى مدينة رفح الجنوبية إلى الأسواق لتلبية بعض احتياجاتهم

وُلد الكاتب المسرحي جلعاد إيفرون في تل أبيب عام 1955 وتوفي عام 2016. درس في قسم الفنون في أكاديمية بتسلئيل في القدس. في عام 1978، شارك في تأسيس ورشة العمل الفنية في يفنه. عمل مدرسا وكان نشطا في المنظمات السياسية اليسارية مثل حركة "يش جيفيل". في عام 1988، عُرضت مسرحيته الأولى "مطر". وفي عام 1992 عرضت مسرحيته الثانية "يهو". وفي الأعوام 1996-1998، كان إيفرون كاتبا مسرحيا مقيما في مسرح "بهيما". ومنذ عام 1997، أنتجت مسرحيات إيفرون في مختلف المسارح والمهرجانات في جميع أنحاء فرنسا وألمانيا.كتب سيناريوهات أفلام سينما وتلفزيون: "خبز"، "ألعاب في الشتاء"، "آباء وأبناء" وغيرها. وباختصار، تثير أعمال إيفرون انتقادات اجتماعية وسياسية صارمة حول الواقع الإسرائيلي، إما بمواجهته بشكل مباشر أو خلق واقع بديل. وفي أحيان كثيرة، توجد شخصية منعزلة عن المجتمع في قلب الحبكة، ويجب عليها اتخاذ قرار بشأن معضلة أخلاقية شخصية خلقتها الظروف السياسية. ثم هناك موضوع مركزي آخر يحضر في بعض مسرحياته، هو الخطاب حول اللغة المسرحية نفسها.

font change

مقالات ذات صلة