الشارقة... عروض مسرحية بين قطبي الداخل والخارج

في الدورة السابعة من مهرجان دبا للمسرح الثنائي

من عروض المهرجان

الشارقة... عروض مسرحية بين قطبي الداخل والخارج

على مدار خمسة أيام، أقيمت فعاليات الدورة السابعة من "مهرجان دبا للمسرح الثنائي" بإمارة الشارقة، في الإمارات العربية المتحدة. وذلك بمشاركة مسرحيات تعرض للمرة الأولى من الإمارات ومصر والكويت والمغرب وسوريا. استضيفت جميعها على مسرح المركز الثقافي بمدينة دبا الحصن، في الفترة من 16 فبراير/شباط الجاري حتى العشرين منه.

يقوم المسرح الثنائي أو "الديودراما" على "العروض التي تستمد جمالياتها ودلالاتها من مواجهة درامية بين شخصيتين فوق خشبة المسرح، وهو ما نجده يتوافق كثيرا مع الطبيعة الهادئة للمدينة المستضيفة للمهرجان، الأمر الذي انعكس أيضا على برنامج الفعاليات.

عالم صاخب جدا

افتتحت الدورة بالعرض الإماراتي "بعض الأشياء" لفرقة المسرح الحديث وهو عرض حركي ينتمي إلى مسرح العبث. ونتابع من خلاله قصة موجزة لرحلة الإنسان القصيرة على الأرض بعد حادثة طرده من الجنة وما ترتب عليها من سعي لتلبية احتياجاته بنفسه. تبدأ المسرحية بمنولوغ صوتي يسرد لنا احتياجات الفرد المتلاحقة في شكل دوري، فهي تبدأ بـ "أحتاج إلى.." وتنتهي دائما باحتياج جديد. وكأن الحاجة تتولد من بعضها، أو بالأحرى تتغذى على بعضها. ولا تقف حاجه الإنسان في النص عند الأشياء المادية فحسب، فهو أيضا بحاجة إلى الحب والكره، وإلى آخر يتبادل معه الحوار وكذلك إلى من يقمعه ويشكله كالعجينة كيفما شاء، علاوة على حاجاته الفكرية والفلسفية، "أحتاج إلى من لا يحتاج، ومن لم يعتد الاحتياج". وهو ما يتماس مع مسرحية "الكراسي" للكاتب الفرنسي أوجين يونسكو، أحد أبرز الأسماء في مسرح اللامعقول.

يقوم المسرح الثنائي أو "الديودراما" على "العروض التي تستمد جمالياتها ودلالاتها من مواجهة درامية بين شخصيتين

على غير ما يبدو من الوهلة الأولى، نجح المخرج محمد جمعة في اختيار ممثليه، حيث كان من المتوقع لعرض حركي أن يقع الاختيار على مؤديين يتمتعون بالمرونة الجسدية، إلا أن روح المغامرة ظهرت في اختيار عكس ذلك، وبراعة الثنائي في التشكيل الحركي، على الرغم من بدانة الجسد التي أدت دورا لا يستهان به في تغذية التصاعد الدرامي، حيث يُظهر بشكل رمزي أزمة الزوجين في تحمل ثقل أعباء الحياة وحاجاتهما التي لا تنتهي.

من عروض المهرجان

هذه الرموز وظّفت أكثر من مرة على نحو جيد، مما ساعد في تخفيف إشكاليات النص المكتوب، وهي سمة من السهل ملاحظتها في معظم العروض، حيث تفوقت عناصر أخرى في مقدّمها التمثيل على عنصر التأليف. تضمنت المسرحية أيضا عددا من المشاهد الجيدة يظهر فيها تفوق الأداء الجسدي والإضاءة، لعل من أبرزها مشهد الاتصال الجنسي بين الزوجين الذي لم يتعدّ بضع ثوان، إلا أنه صيغ بطريقة تحول دون رفضه من قبل الرقابة أو خدش حياء الجمهور.

المرأة والمسرح العربي

في جلسة من جلسات اليوم الأول، تساءلت إحدى المشاركات عن التمثيل النسوي للمسرحيّات من النساء في العالم العربي، بعد احتكار دام طويلا للرجل كما ترى. ولكن الوقت لم يتسن لها بعد مشاق الرحلة الطويلة والمجهدة كي تتعرف على برنامج هذا العام بما يعكسه من حضور ملحوظ للعنصر النسائي وتمثلاته سواء من حيث الموضوع، كما في "ورقة طلبات" (مصر)، أو في "معلقات" (المغرب) و"لقاء" (سوريا) وكلها أعمال لمخرجين رجال، أو من خلال البطولات النسائية التي هيمنت على العروض الثلاثة السابقة بجانب مشاركة نسائية أيضا في بطولة العرضين الأخيرين "أصل الحكاية" (الكويت) و"بعض الأشياء" (الإمارات).

من عروض المهرجان

وفي حين تغيب المرأة عن مجال الإخراج، نلحظ حضورها في عناصر أخرى لا تقل أهمية سيما خلف الكواليس في الديكور والموسيقي والصوت، بل وإدارة الفرقة أيضا، ناهيك عن تصميم الملابس الذي كان المجال الأغلب فيما مضى. علاوة على ذلك فقد تفوق هذا العام عنصر التمثيل النسائي على أداء الرجال، حيث قدمت غالبية الممثلات نموذجا جيدا في الأداء متفاوت الطبقات بداية من صورته المرئية حركيا وحتى الانفعالات الداخلية المستترة.  

نحو فضاء مغاير

يحظى فنا المسرح والسينما بجماهيرية عريضة، في كافة أنحاء العالم، وإن استحوذت الأخيرة على نصيب الأسد، مقارنة ببقية فنون الفرجة. وقد ربطت بين الفنين علاقة قديمة بدأت حين استعان الفن السابع بأساليب "أبي الفنون" في بدايات السينما، قبل أن تكوِّن منهجها الخاص، والآن يتحتم على الاثنين مواجهة منافس جديد يدعى الذكاء الاصطناعي، استطاع خلال فترة قصيرة اقتحام العالمين مزيحا إشكالية عفى عليها الزمن عن أزمة النص أو "الورق"، الأمر الذي دفع بعدد من المخرجين لإحياء سينما المؤلف على سبيل المثال أو مسرح المخرج، الذي تتعدّد فيه مهام المخرج بين التأليف أو الدراماتورج وأحيانا السينوغرافيا أيضا بجانب الإخراج، وقد ظهر ذلك في ثلاثة عروض ضمن برنامج المهرجان.

في العرض المسرحي المغربي "معلقات" يتولى المخرج "محمد الحر" التأليف والإضاءة بجانب الإخراج، بينما يأتي عرض "أصل الحكاية" من الكويت بتوقيع فيصل العبيد تأليفا وإخراجا، في حين يجمع مخرج العرض المصري "ورقة طلبات" بين الدراماتورج والإخراج. ومن اللافت في هذه العروض أنها تعاملت مع الفضاء المسرحي بمنهج مغاير، مستدعية فلسفات فنية مختلفة مثل الفن السابع الذي شاهدنا تجلياته على خشبة المسرح إما في صورة سيناريو مكتوب على الخلفية يكمل المشهد التمثيلي وإما يشرحه ويعلق عليه في "معلقات"، أو يأتي الاستدعاء في صورة اسمية كما في "أصل الحكاية" حيث نتابع بطلين يدعوان "سيناريو وحوار"، وفي العرض المصري "ورقة طلبات" يتبين لنا في النهاية أن المسرحية بكاملها لم تكن سوى "فلاش باك" بلغة السينما، تستعيده الأم المكلومة بعد انتحار ابنتها.

من عروض المهرجان

العرض مأخوذ عن مسرحية "تصبحين على خير يا أمي" للكاتبة الأميركية مارشا نورمان، ويتناول تلك العلاقة الأزلية بين الأم والابنة وما يشوبها من توتر. لهذا غلب الطابع الأدبي على أجواء المسرحية، خصوصا وقد استغني المخرج عن عدد كبير من العناصر المسرحية ولذلك يمكن اعتباره أكثر الأعمال جرأة وتجريبا ضمن برنامج هذا العام، ولكن ذلك قبل مشاهدة العرض السوري في اليوم الأخير وهو من أكثر العروض تميزا، حيث يتخلى المخرج عروة العربي عن كافة مكونات السينوغرافيا، مكتفيا بتشكيلات الضوء وظلاله لرسم المكان والديكور وهنا تجدر الإشادة بمصمم الإضاءة بسام حميدي.

بعيدا عن الخشبة قريبا منها

على الرغم من قصر فترات الورش الفنية، فإنها تعتبر ضمن برنامج أي مهرجان من أكثر الفعاليات ترقبا وانتظارا خصوصا من الفنانين الشباب، فهي تتيح الفرصة للاحتكاك المباشر مع المختصين ومن خلالها يستطيع المشترك التعرف عن كثب على مفاتيح أولية تكون بمثابة إرشاد وتوجيه على خطى البدايات. لذلك يحرص "مهرجان دبا" على تضمين برنامجه السنوي مجموعة من الورش المسرحية المتنوعة، وفي هذا العام تضمن برنامج الفعاليات ثلاث ورش متخصصة في تنمية القدرات التعبيرية لدى الممثل، وتقنيات الإخراج في المسرح المعاصر، بالإضافة إلى ورشة عن فنيات الكتابة الدرامية، ومن اللافت للانتباه في المشاركين بهذه الورش الثلاث هو أعمارهم المتفاوتة التي لم تقتصر على فئة الشباب أو صغار السن من الجنسين.

تدور معظم العروض حول عالم من الصخب سواء "الخارجي" مع المحيطين أو "الداخلي" مع النفس

بالنسبة إلى المحور الفكري للمهرجان، فقد ضم برنامج الفعاليات خمس ندوات تطبيقية أقيمت عقب الانتهاء من مشاهدة العروض وذلك لفتح باب المناقشة والتحاور مع مخرج العرض من خلال مداخلات الحضور. وعلى هامش فعاليات دورة هذا العام، استضاف المهرجان على مدار يومين وقائع النسخة التاسعة عشرة من "ملتقى الشارقة للمسرح العربي"، والتي خصصت ثيمة المناقشة للجلسات البحثية تحت عنوان "المسرح والمستقبل" بمشاركة ستة باحثين من خمس دول، قدموا من خلال ورقاتهم قراءات متباينة حول ماضي المسرح العربي وراهنه، وذلك في محاولة لـ "تخيل أو استكشاف أو تشكيل المستقبل" لأبي الفنون.

خلال عمله في التدريس الجامعي، حرص الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين على الذهاب إلى السينما عقب كل محاضرة كما أشيع عنه، وذلك للترويح عن نفسه. وهو ما يدعو إلى التأمل فيما قدم عليه فيتغنشتاين باختياره للفن السابع تحديدا وليس المسرح مثلا، ولا يعني هذا امتياز أحدهما على الآخر بالفلسفة أو احتكاره لها، فكل ما في الأمر أن الرجل كان على علم جيد بالعلاقة الوثيقة بين الدراما المسرحية والفلسفة حيث خرج الاثنان من رحم الحضارة الإغريقية. حول هذه العلاقة يدور موضوع الباحثة السورية نور حريري وهو من أميز الأوراق المقدمة، لاسيما وقد قرأت حريري مداخلتها فيما يشبه المونولوج المسرحي متعدد الطبقات الصوتية ما نتج عنه تفاعل ملموس من الحضور.

من تونس، يتطرق الأكاديمي حمدي حمادي في بحثه المعنون "إشكاليات مفهوم المستقبل في مرآة المسرح العربي"، إلى قراءة المنجز المسرحي عربيا، من خلال تتبع بدايات الرواد وكيفية التأثر التي قامت عليها معظم التجارب. وتشترك دولة المغرب ببحثين يقدم الأول قراءة للمنجز المسرحي المغربي الحديث للباحث د. يوسف أمفزع في ظل ما دعاه بـ "تحولات الفرجة" التي حدت بنماذج من المسرحيين الشباب إلى اختراق عوالم ومناهج مسرحية غير مألوفة، فيما يثير الباحث د. عبد الله مطيع في ورقته المميزة تساؤلات عن الكيفية التي يمكن من خلالها للمسرح استشراف مستقبله، خصوصا مع التطور المتلاحق لمنظومة الرقميات والذكاء الاصطناعي.

خلال تكريم مخرجي العروض المشاركة

حول التجربة الأردنية، جاءت مشاركة الممثلة والباحثة د. نجوى قندقجي بعنوان "صورة المستقبل في مسرح اليوم"، وتطرح فيها عددا من المقاربات النقدية لنماذج من مناهج المسرح الأردني وأساليبه، داعية إلى ضرورة التجديد الحتمية لتلك المناهج. أما الناقد المصري د. رضا عطية فيتناول في موضوعه فكرة "التمثيل المأساوي للمستقبل في المسرح العربي"، الثيمة التي وجدها تبرز كموضوع رئيسي في عدد كبير من المسرحيات وهو ما قد يخلق "اتجاها مسرحيا مُعبرا عن مأساة الإنسان في المستقبل".

وعلى الرغم من تباين العروض من حيث الموضوع وطرق الإخراج، فقد اشتركت جميعا في ثيمة واحدة أمكن تتبعها من عرض إلى آخر، وتدور حول عالم من الصخب سواء "الخارجي" مع المحيطين أو "الداخلي" مع النفس، وهي الثيمة الأكثر تعبيرا عن الإنسان المعاصر. 

font change

مقالات ذات صلة