"سرد أميركي" يتحدّى الصورة المقولبة للتجربة الأميركية الأفريقية

مزيج من التراجيديا والكوميديا السوداء لا يحقق أهدافه

AP
AP
جيفري رايت يتسلم جائزة أفضل أداء رئيسي عن فيلم "American Fiction" خلال حفل توزيع جوائز Film Independent Spirit الأحد 25 فبراير 2024

"سرد أميركي" يتحدّى الصورة المقولبة للتجربة الأميركية الأفريقية

يبرهن المخرج والكاتب الأميركي كورد جيفرسون، في فيلمه السينمائي الأول "سرد أميركي" American Fiction المرشح ضمن جوائز أوسكار 2024 (فاز أخيرا بجائزة أفضل سيناريو مقتبس في "بافتا" البريطانية) وهو الآتي من خلفية تلفزيونية وشارك في كتابة مسلسلات مثل "المكان الجيد" The Good Placeو"الحارس" Watchmen و"سيد اللاشيء" Master Of None، يبرهن إذن قدرته على تقديم عمل درامي كوميدي بشكل يشابه في أسلوبه السردي جيم جارموش وألكسندر باين.

الفيلم المقتبس عن رواية "محو" Erasure للروائي بيرسيفال إيفيرت، ويؤدي البطولة فيه جيفري رايت وإيريكا ألكسندر وجون أورتيز وستيرلنغ كي براون، ومايرا تايلور، يتمحور حول شخصية مونك، وهو روائي وأكاديمي يواجه أزمة هوية يفرضها عليه المجتمع، حيث أن الاهتمام بالنمط الروائي (الرفيع) الذي يقدّمه شبه معدوم، في خضم بحث الناشرين والقراء والنقاد عن إشباع عقدة ذنب الرجل الأبيض، عن طريق المطالبة بقصص معاناة توافق الصورة النمطية المعتادة عن الأميركيين من أصل أفريقي.

قولبة

يقرر مونك الثورة على هذه المتطلبات ويرسل مسودة مغرقة بالصور النمطية تحت اسم مستعار، ظنا منه أن ذلك سوف يبعث برسالة إلى دور النشر التي ترفض نشر كتبه، وبالتالي إلى المؤسسة الأدبية برمتها، بأن المعالجات التي تطلبها ليست إلا قولبة رخيصة للتجربة الأميركية الأفريقية، تفتقر إلى إدراك تعدد هذه التجربة وتنوعها، ولكنه يفاجأ بحفاوة استقبال هذه المسودة وسخاء العروض المنهالة عليه للفوز بحقوق نشر الرواية.

لا يمكن تجاهل سخرية الفيلم المقصودة، من ترشيح أفلام وأعمال أدبية، تتناول التجربة الأميركية الأفريقية

الفن مفهوم غير موضوعي لا يمكن قياسه أو إحصاؤه، ما يعتبره البعض عملا استثنائيا قد يعتبره البعض الآخر مجرد هراء مغلف تغليفا فاخرا. على الرغم من الجهد الحثيث وعمليات البحث المطولة التي يجريها مونك لا يستطيع إيجاد من يهتم بنشر كتبه، لكن ما كتبه في ليلة واحدة، بصورة هزلية وتحت تأثير الكحول، يوفر له فرصا للشهرة والكسب المادي لم يحلم بها طوال مسيرته المهنية.

لا يمكن تجاهل سخرية الفيلم المقصودة، من ترشيح أفلام وأعمال أدبية، تتناول التجربة الأميركية الأفريقية في المهرجانات السينمائية والأدبية، وإن كان يصعب تحديد نية المخرج انطلاقا من فكرة انعدام موضوعية الفن، وبالتالي يصعب فرز الأفلام والأعمال التي استحقت المكانة التي وصلت إليها، من تلك التي حصلت على تقدير مصطنع بسبب عقدة الذنب الأبيض. شخصيا، أعتقد أن فيلمي "12 عاما من العبودية" و "الكتاب الأخضر" ما كانا يستحقان الفوز بالجوائز التي حصلت عليها، في حين يصنفهما بعضهم بين أهم أفلام العقدين الأخيرين.

 twitter

لكن الأمر يمتدّ إلى ما هو أبعد من ذلك، فدور النشر لا تختار هذا النوع من الكتب، في نهاية المطاف، إلا بسبب أرقام المبيعات العالية، فتعود أصابع الاتهام إلى القارئ والمستهلك، وأحد حوارات الفيلم تناقش أن الجمهور يريد كتبا سهلة القراءة لا تتطلب مجهودا ذهنيا لاستهلاكها، نعلم كمشاهدين أن هذا يشمل جميع أنواع الفنون بما في ذلك السينما والتلفزيون والموسيقى.

مراوحة

لم يستطع "سرد أميركي" تخطي هذه النقطة البسيطة والبديهية، بل استمر بالنبرة الوعظية نفسها، ونحن نشاهد رواية مونك التي كتبها كمزحة تذلل المصاعب وترتقي قوائم النقاد لأفضل الكتب الجديدة. وهي حبكة واضحة منذ البداية، ولكن بدلا من أن يبذل الفيلم مجهودا محسوسا في استكشاف شخصياته وعلاقة مونك بمن حوله، فإنه يضيع الكثير من الوقت في بناء هذه الحبكة الجانبية التي أدت الهدف المطلوب منها في الثلث الأول من الفيلم.

يمتلك الفيلم مزيجا مناسبا من الكوميديا السوداء والأحداث التراجيدية ليستطيع تقديم صدمة عاطفية تعيد المشاهدين إلى أرض الواقع

ولعلّ الجانب المثير للاهتمام في هذه الجزئية هو خليفة مونك الطبقية، فعائلته تنتمي إلى طبقة متوسطة عليا تقطن مدينة بوسطن، ولديها خادمة منزلية منذ الصغر، وهي عائلة مليئة بالأطباء، وهو نفسه روائي يحمل شهادة الدكتوراة ويمارس مهنته على الساحل الغربي. يرفض مونك كتابة هذا النوع من الروايات ليس لأنه يحتقره بل لأنها ليست هويته، وكأن المجتمع لا يستطيع تقبل فكرة أن كاتبا من أصل أفريقي يمكنه أن يحظى بتجربة غير تلك الواقعة ضمن حدود الصورة النمطية. وما يثير السخرية هنا هو أن النظام الاقتصادي الأمريكي تأسّس على استغلال الأقليات العرقية، ولكن حينما تستطيع أحد العوائل الارتقاء في هذا النظام، فإن المجتمع يرفض سماع هذه القصة.

إيسا راي تؤدي دور الكاتبة سينتارا غولدن، خريجة جامعة مرموقة ولكن كتابها الذي يعتنق الصورة التي يرغب بها المجتمع يعتبر ضمن أفضل الكتب مبيعا، وفي ذلك تأكيد لفكرة رفض المجتمع لكلّ قالب آخر مركب ومعقد لا يوافق الفكرة المسبقة عن التجربة الأميركية الأفريقية. في الوقت نفسه، يحتقر مونك هذه الرواية ويرى أن الكاتبة مزيفة ولم تكتب روايتها بصوت صادق يعكس حقيقتها وخلفيتها الثقافية. في حوار يجمع مونك بسينتارا يناقشان هذه الفكرة، وتكشف سينتارا أنها أجرت العديد من الأبحاث والمقابلات لكي تتسنى لها كتابة روايتها ونقل تجارب شخصياتها بكل إخلاص. والراجح أن مونك هنا يقع في فخ القولبة نفسه الذي وُضع فيه، فهو يرفض فكرة أن كاتبة من طبقة متوسطة عليا يمكنها نقل تجربة طبقة اقتصادية أقل منها، لم يفكر مونك إطلاقا بأن سينتارا قامت بأبحاث حقيقية وقابلت أشخاصا مروا بتلك التجارب القاسية.

لكن الفيلم لا يسترسل في هذه الجزئية التي تطرح أحد أكثر النقاشات إثارة للاهتمام، بل استمر في تكرار كوميديا الثلث الأول، فنرى مونك وهو يقوم يتصرف بطريقة يعتقد أنها ستنفّر دور النشر ومنتجي الأفلام ليفاجأ بأن جميع تصرفاته، مهما بلغت حماقتها، ليست موضع تشكيك، بل هي موضع حفاوة إعلامية ونقدية. في خضم كل ذلك، لا نستشعر إطلاقا الأثر النفسي للظروف التي يعانيها مونك، فلا نستكشف علاقته المضطربة بأخيه، أو أسباب انجذابه وافتراقه عن عشيقته الجديدة كارولاين، يحدث كل شيء بالنبرة الرمادية ذاتها، في أحداث رتيبة خالية من أي أثر نفسي.

يمتلك الفيلم مزيجا مناسبا من الكوميديا السوداء والأحداث التراجيدية ليستطيع تقديم صدمة عاطفية تعيد المشاهدين إلى أرض الواقع واستيعاب فداحة الظروف التي يعيشها مونك، لكن بسبب المطاردة الوعظية المستمرة عن طريق الكوميديا، فإننا لا نهتم بما فيه الكفاية بما يحصل لمونك، لتبدو أحداث حياته مجرد مواقف هزلية مبالغ فيها مثل روايته تماما.

font change

مقالات ذات صلة