معرفة التراث سبيل إلى التجديد يهمله شعراء أيامنا

نقص فادح في التكوين الثقافي لبعضهم

Lina Jaradat
Lina Jaradat

معرفة التراث سبيل إلى التجديد يهمله شعراء أيامنا

هل يتعامل اليوم كتاب الشعر العرب مع تراثنا الشعري تعاملا إبداعيا مثمرا؟ بل، كم من هؤلاء الكتاب يحسنون قراءة هذا التراث أولا، لكي يستطيعوا ثانيا أن يعملوا على تجاوزه أو استلهامه أو الإضافة إليه؟ وهل تكون كتابة إبداعية من دون قراءة إبداعية للتراث، خصوصا في مجال الشعر؟

الكثيرون من كتاب الشعر في أيامنا لا يعبأون بهذه القضية، أو يحسبون أنها ليست جوهرية. تظهر هشاشة علاقتهم بالتراث الشعري ضعفا في كتاباتهم وآرائهم ومقالاتهم. الطريف جدا أن البعض من هؤلاء، وهم يتباهون بادعاءاتهم "الحديثة"، لا ينتبهون إلى هذا النقص الفادح في تكوينهم الثقافي.

الشاعر الناقد ت. س. إليوت، الذي يعد رائدا للحداثة الشعرية، وكان له خلال النصف الثاني من القرن الماضي تأثير واضح في العديد من شعراء الحداثة العرب، يركز على أهمية العلاقة بالتراث في كلامه على الشعر "الجديد" أو على الشاعر "المجدّد". فالشاعر المجدّد حقا هو، في نظره، الذي يستوعب تراث أمته، وهو الذي نجد في شعره نكهة أسلافه.

استيعاب وتفاعل

هذا الكلام لإليوت لا يدعو إلى تقليد أو تكرار، وإنما هو من أرقى الكلام على التجديد، الذي يريده إليوت قائما على استيعاب التراث وفهمه والتفاعل معه، لكي يكون هنالك إمكان لتجاوزه، والإضافة إليه إضافات إبداعية جديدة.

هذا التوجه السديد الذي عبر عنه إليوت، أين منه اليوم معظم كتاب الشعر عندنا؟ لقد ضعفت العلاقة كثيرا بين هؤلاء وبين تراثهم الشعري، وهذا الضعف هو من مظاهر الفوضى والتخبّط اللذين تسقط فيهما اليوم ساحتنا الشعرية، بل ساحتنا الثقافية في وجه عام.

ضعفت العلاقة كثيرا بين هؤلاء وبين تراثهم الشعري، وهذا الضعف هو من مظاهر الفوضى والتخبّط اللذين تسقط فيهما اليوم ساحتنا الشعرية

مع بدايات حركة الشعر العربي الحديث، التي انطلقت في منتصف القرن المنصرم، كانت قضية العلاقة بالتراث - إلى جانب العلاقة بالآداب الأجنبية - واحدة من القضايا الأساسية التي تصدى لها المنخرطون في تلك الحركة، وبالأخص أولئك الذين تكوكبوا حول مجلة "شعر" ، وراحوا ينشرون فيها كتاباتهم الشعرية أو النظرية. وبعض الشعراء، الذين عرفوا لاحقا بالرواد، كانت علاقتهم بالتراث واضحة في قصائدهم. هذه القصائد لم تشكل قطعا حادا مع التراث، بل إن أجملها قد ارتكز على تفاعل عميق معه، وتجلى محتفيا به، خصوصا بجوانبه اللغوية والبلاغية والعروضية. ونذكر من أولئك الشعراء على سبيل المثل لا الحصر بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأدونيس.

علاقات إبداعية

في الأجيال الشعرية التي تعاقبت بعد الرواد، هناك شعراء استطاعوا أن يقيموا علاقات إبداعية بتراثنا الشعري، تجلـت في قصائدهم. وبعض هؤلاء لحقهم الكثير من الغبن، لأنهم لم يحظوا بما يستحقونه من الدراسة والنقد، اللذين بقيا مركزين على الرواد. ولكنهم لا يشكلون سوى قلة قليلة بالقياس على الأعداد الكبيرة من كتاب الشعر الذين يفتقرون إلى علاقة ولو "بسيطة" أو "مقبولة" بالتراث.

David Stanley
تمثال بدر شاكر السياب

إن العلاقة الإبداعية التي ينبغي لكل شاعر عربي أن يقيمها مع تراثنا الشعري، هي العلاقة التي تحرر ولا تقيد، هي التي تطلق ولا تأسر، هي التي تغني وتمكن وتفتح المجال واسعا نحو آفاق شعرية جديدة. وهذه العلاقة لا تعني انغلاقا، بل هي إمكان أكبر للانفتاح على الثقافات المختلفة من كل نوع. إنها العلاقة التي تقوم على المعرفة والتبصر، فتستطيع أن تقيم حوارا فعالا ومثمرا مع تراثنا، الذي يظل حيا بتجلياته الإبداعية.

أيكون هنالك إبداع شعري من دون معرفة تراثية؟

لنا في شعرنا القديم، وكذلك في شعرنا الحديث أو المعاصر، أمثلة كثيرة هي بمثابة الأدلة على ما أرمي إليه، من أن المعرفة بالتراث ضرورية لكل شاعر مسكون بهاجس التجديد والابتكار. فالثورة البلاغية التي انطوت عليها أشعار أبي تمام ما كان لها لتتحقق لولا معرفته العميقة بما سبقه من تراث أدبي، في الشعر والنثر على حد سواء. وقد يكون من المناسب هنا أن نورد هذه الحادثة الطريفة التي يُروى أنها حدثت لأبي تمام، صاحب هذا البيت:

لا تسقني ماء الملام فإنني   

صب قد استعذبت ماء بكائي

جاءه رجل يحمل دلوا فارغا، وقال له: أعطني في هذا الدلو بضع قطرات من ماء الملام! محاولا التهكم على الشاعر بسبب هذا الاستعمال (ماء الملام)، الذي كان يعد في نظر التقليديين من القراء والنقاد استعارة بعيدة أو غريبة. فأجابه أبو تمام قائلا: لن أعطيك أية قطرة من ماء الملام حتى تجيئني بريشة من جناح الذل. في إشارة منه إلى الآية القرآنية التي وردت فيها هذه الاستعارة (جناح الذل).

Getty Images
شارع المتنبي، وسط بغداد

 أما المتنبي، فيروى عنه أنه كان في أسفاره يصطحب ديواني أبي تمام والبحتري. ومن يقرأ ديوان المتنبي متمعنا أو مستقصيا يجد في أشعاره أصداء من أشعار البحتري أو أبي تمام أو أبي العتاهية أو ذي الرمة... أو غيرهم. وهذه الأصداء لا تقلل شأن المتنبي، وإنما تدل على استيعابه لماضي الشعر واحتفائه بما أعجبه منه.

 إن العلاقة "الإبداعية" التي ينبغي لكل شاعر عربي أن يقيمها مع تراثنا الشعري، هي العلاقة التي تحرر ولا تقيد، وتفتح المجال واسعا نحو آفاق شعرية جديدة

هكذا هو الأمر بالنسبة إلى كل شاعر استطاع أن يشق طريقه الخاص، وأن يبتكر لغته الشعرية. ولنا في أبي العلاء المعري أوضح مثل على التفاعل الحيوي بينه وبين تراثه. فهو الذي عرف بحبه للتحاور مع رموز التراث، ليس في الشعر وحده، وإنما في المجالات الثقافية على أنواعها، وخصوصا في ما يتعلق بالأفكار والعقائد والفلسفات. ويظهر ذلك جليا في شعره ، وكذلك في كتابه الشهير "رسالة الغفران".

الشعر الحديث

نأتي الآن إلى الكلام على شعرنا الحديث، الذي كانت انطلاقته في منتصف القرن الماضي، وكانت قضية العلاقة بالتراث واحدة من القضايا التي أثارتها تلك الانطلاقة.

من يقرأ محاضر اجتماعات جماعة "شعر" التي كانت تعقد أسبوعيا، وذلك بعدما أسّس الشاعر يوسف الخال هذه الجماعة التي تحلّقت حول مجلة "شعر"، وأصدر العدد الأول منها في العام 1957 على أثر انضمام أدونيس إليه، من يقرأ هذه المحاضر يلاحظ أن معظم أعضاء الجماعة لم يكونوا على علاقة وثيقة بالتراث الشعري العربي، ويلاحظ أيضا أن العلاقة بين الحركة الشعرية الحديثة والتراث شكلت محورا أساسيا من المحاور التي دارت حولها النقاشات بين أعضاء الجماعة (صدرت هذه المحاضر في كتاب عن "دار نلسن" في بيروت).

 Alamy
أدونيس

لقد أتى يوسف الخال وبعض أصحابه في جماعة "شعر" بأفكار لتجديد الشعر، مستمدة من نظريات غربية، وأرادوا أن يوفقوا بينها وبين آرائهم أو مواقفهم حيال التراث العربي، واختلفت وجهات نظرهم في ذلك، أي في شأن العلاقة أو القطيعة مع التراث. وكان أدونيس، بين أعضاء الجماعة، أكثرهم اطلاعا على التراث واهتماما بشؤونه. وبسبب من ذلك كلف أدونيس من قبل الجماعة وضع مختارات من الشعر العربي عبر عصوره. وقد صدرت هذه المختارات تحت عنوان "ديوان الشعر العربي" في ثلاثة مجلدات.

بعد مرور عقود على تجربة "شعر"، تحدث عنها بعض أعضائها بما يشبه المراجعة أو الاستدراك. ومنهم من اعترف بوجود نقص لديه في تعامله مع التراث، أو بالأحرى في معرفته بالتراث (أنسي الحاج على سبيل المثل).

لكن الأمر لا يقتصر على تجربة "شعر". فحركة الشعر العربي الحديث انطلقت قبلها، وكانت أوسع منها. وقد يكون السياب، من بين الذين أطلقوا هذه الحركة، أكثرهم ارتباطا بتراثنا الشعري، بل أوضحهم انبثاقا منه. وقد ظهر ذلك من خلال قصائده التي تميزت بنكهة إيقاعية فريدة.

 Alamy
الشاعر الناقد ت. س. إليوت

إلى ذلك، بنى بعض شعراء الحداثة قصائد لهم على رموز تراثية، اقتبسوا منها الدلالات التي تربط الماضي بالحاضر. ومنهم من أحب إظهار هذا الربط في عناوين دواوينهم أو قصائدهم. نذكر من هذا على سبيل المثل: "مأساة الحلاج" و"مذكرات الصوفي بشر الحافي" لصلاح عبد الصبور، و"اعترافات مالك بن الريب" ليوسف الصايغ، و"البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" لأمل دنقل... ومثل هذا كثير.

مع تعاقب الأجيال، التي تلت جيل الأوائل من شعراء الحداثة، راح الاهتمام بتوظيف الرموز التراثية يتراجع. وربما يكون ذلك ناتجا من تراجع المعرفة بالتراث لدى كتاب الشعر. أكثر من ذلك، راحت تيارات الكتابة الشعرية تتشعب وتختلط، في ساحة ثقافية عرفت، تحت شعارات الحداثة، أنواعا من التشوش والفوضى. ويمكن إرجاع ذلك إلى أسباب كثيرة لا مجال هنا لحصرها. وباتت قضية التراث وعلاقة شعراء اليوم به إشكالية أكثر تعقيدا. وينبغي تجديد السجال حولها على نحو نقدي ومتعمق.

font change

مقالات ذات صلة