اقتصاديات "أوبنهايمر"... بين مليارات الأمس واليوم

كان مشروع مانهاتن وعلى أكثر من مستوى أكبر مشروع تنفذه الولايات المتحدة على الإطلاق

غيتي
غيتي
جائزة التميز للجيش والبحرية قدمها الجنرال إل آر جروفز لروبرت أوبنهايمر، في الأربعينيات

اقتصاديات "أوبنهايمر"... بين مليارات الأمس واليوم

فاز "أوبنهايمر" بجائزة أفضل فيلم في حفل توزيع جوائز الأوسكار هذه السنة، وهو فيلم يحكي قصة "مشروع مانهاتن"، البرنامج السري للحكومة الأميركية الذي صمم أول سلاح نووي خلال الحرب العالمية الثانية. كان هذا البرنامج شديد السرية - ومكلفا للغاية. فقد أنفقت عليه واشنطن نحو 2.2 مليار دولار من دون احتساب نسبة التضخم. لكن الفيلم يتجنب الأسئلة المتعلقة بالاقتصاد إلى حد كبير، مع أنه يتطرق إلى الفيزياء المعنية.

كيف حافظت الحكومة الأميركية على سرية موازنة "مشروع مانهاتن"؟ ما وضع الهجرة الخاص بالعلماء الذين عملوا في البرنامج؟ وما هي العقبات الاقتصادية التي تحول دون تطوير سلاح نووي اليوم؟

هذه بعض الأسئلة التي طرحت في محادثتي الأخيرة مع آدم توز، كاتب عمود اقتصادي في مجلة "فورين بوليسي"، في بودكاست اشتركنا معا في استضافته، بعنوان "ونز أند توز". في ما يأتي، مقتطف محرّر للاختصار والتوضيح. للاطلاع على المحادثة الكاملة، ابحث عن البودكاست "Ones and Tooze" على أي منصة تستخدمها للاستماع إليه، وتفحص النشرة الإخبارية لآدم "Substack".

كانت الأموال ضخمة. فمبلغ ملياري دولار، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي ومقدرا بما يوازي القيمة الحالية، يعادل نحو 26 مليار دولار اليوم. ثم هناك نحو 130 ألف شخص كانوا يعملون في المشروع مباشرة

آدم توز، كاتب عمود في مجلة "فورين بوليسي" وأستاذ للتاريخ ومدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا

كاميرون أبادي: كيف تجرى الأعمال المحاسبية الخاصة بمشاريع عسكرية سرية بهذا الحجم – لا سيما عندما تكون الوظيفة الأساسية للكونغرس إقرار الموازنات ومراقبة الأموال التي يتم إنفاقها؟

آدم توز: من الأشياء التي يمكنك البدء بها إعطاء المشروع اسما محيرا. أطلق على مشروع القنبلة الذرية اسم "مشروع مانهاتن" لصرف الانتباه عن أنه لا علاقة له بنيويورك وأن مقره الحقيقي في لوس ألاموس، بولاية نيو مكسيكو، بالإضافة إلى ولايتي واشنطن وتنيسي. وكان مدرجاً تحت موازنة سلاح المهندسين في الجيش الأميركي، الذي كان يقوم بكثير من أعمال البناء الضخمة والثقيلة خلال الحرب. بهذه الطريقة، تمكنوا من تخصيص الأموال.

كانت الأموال ضخمة. فمبلغ ملياري دولار، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي ومقدّرا بما يوازي القيمة الحالية، يعادل نحو 26 مليار دولار اليوم. ثم هناك نحو 130 ألف شخص كانوا يعملون في المشروع نفسه مباشرة، ومئات الآلاف الآخرين في مشاريع إنشائية مختلفة مرتبطة به. وأنفق 63 في المئة من أموال "مشروع مانهاتن" على إنتاج اليورانيوم العالي التخصيب في "أوك ريدج" بولاية تنيسي. وأنفق 21 في المئة أخرى على منشأة هانفورد للهندسة في ولاية واشنطن لإنتاج البلوتونيوم. هناك بذلت الجهود الكبيرة، في هذه المنشآت الصناعية التي كانت تنتج البلوتونيوم.

أ.ب.
الدكتور روبرت أوبنهايمر مخترع القنبلة الذرية، في معهد الدراسات المتقدمة يشرح نظريته، في 15 ديسمبر 1957، برينستون، نيوجرسي

صوّت الكونغرس لتمويل القنبلة، ولكن لم تكن هناك مناقشة حقيقية حول ذلك. وأخفي ذلك في سلسلة غامضة وسرية من المحادثات في الغرف الخلفية مع مشرّعين نافذين في الكونغرس يتولون مهمة تخصيص الأموال. كان هناك اجتماع واحد على الأقل بين كبار مسؤولي الإدارة وأولئك الأعضاء في الكونغرس، وهو الاجتماع الذي خصص الثلث الأول تقريباً من الموازنة.

كم بلغت تكلفة تلك القنبلة النووية الأولى مقارنة بالأنواع التي ننتجها اليوم؟ ماذا لو أجرينا مقارنة من حيث القدرة التدميرية للقنبلة الواحدة؟

كاميرون أبادي، نائب رئيس تحرير في مجلة "فورين بوليسي"

كان التواصل في شأن "مشروع مانهاتن" غامضاً في ذلك الوقت. لذا، على سبيل المثل، تجد شخصا مثل الرئيس في ذلك الوقت فرانكلين روزفلت يكتب رسالة إلى فانيفار بوش قائلا ببساطة: "هل لديك المال؟ - فرانكلين روزفلت". ومن الواضح أنهما كانا يشيران إلى محادثة سابقة عن هذا المشروع. ولا يزال قسم كبير من ملفات الأرشيف لـ"مشروع مانهاتن" سريا حتى اليوم. لكن المشرعين في تلك المجموعة الرئيسة أطلعوا على أنهم كانوا يبنون قنبلة عملاقة.

كيفية إخفاء موازنة قنبلة ذرية

ربما كانت أفضل عبارة يمكن استخلاصها هي محادثة بين مسؤول في وزارة الحرب وعضو في الكونغرس. سُئل عضو الكونغرس كيف يمكنك إخفاء موازنة قدرها 2 مليار دولار مخصصة لصنع قنبلة، فأجاب: "بالطبع يمكنني إخفاء مليارين، ولكن أين أخفيها في تنيسي"؟ لذا يقدم لك ذلك فكرة عن الموضوع.

أ.ف.ب.
قنبلة ذرية من نوع "ليتل بوي" أسقطتها قاذفة "ب-29" للجيش الأميركي فوق هيروشيما، اليابان، في 9 أغسطس 1945. صورة غير مؤرخة نشرها مختبر لوس ألاموس

كاميرون أبادي: كم بلغت تكلفة تلك القنبلة النووية الأولى مقارنة بالأنواع التي ننتجها اليوم؟ ماذا لو أجرينا مقارنة من حيث القدرة التدميرية للقنبلة الواحدة؟

آدم توز: تقييم ذلك مهمة صعبة للغاية لأن التكنولوجيا شهدت تغيرا كبيرا. وربما تكون أفضل طريقة للقيام بذلك استخدام بعض التقديرات المعروفة جيداً للتكلفة الإجمالية لبرنامج الأسلحة الذرية الأميركية، الذي وصل - قبل الخطط الحالية لإحيائه - إلى نقطة توقف طبيعية في أواخر تسعينات القرن العشرين، لأغراض محاسبية.

الانفاق اللاحق بالتريليونات

في تلك الوقت، نعتقد أنه أنفق ما يقرب من 5.5 تريليونات دولار بالعملة الحالية (in modern money). وذلك يعني آلاف المليارات. وهو يفوق 100 ضعف تكلفة مشروع مانهاتن. من ذلك المبلغ، أنفق 7 في المئة فقط، أي نحو 409 مليارات دولار، على أشياء يمكن مقارنتها مباشرة بمشروع مانهاتن – أي تطوير القنابل والرؤوس الحربية الفعلية واختبارها وإنتاجها، ويشمل ذلك مبلغ الـ 26 مليار دولار التي أنفقت على مشروع مانهاتن. وتمثل تلك العناصر 5 في المئة من الإجمالي.

ما بين 1945 و1990، أنتجت الولايات المتحدة 70 ألف قنبلة نووية تنتمي إلى 65 تصميما مختلفا. وبلغت ترسانتها ذروتها في 1960 بما يعادل 1.366 مليون قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما

الإنفاق الهائل على الأجيال اللاحقة من الأسلحة الذرية يكمن في منظومات نقلها وإيصالها الى أهدافها. فأنت في حاجة إلى أنواع خاصة من القاذفات والغواصات والصواريخ لنقل هذه الأسلحة الرهيبة. القنابل الأصلية كانت تلقى من قاذفات عادية. لكن ذلك لا ينطبق على مشروعات الحرب الباردة. وقد بلغت تكلفة هذه المنظومات 3.2 تريليونات دولار. هنا توجد مكامن هذا الإنفاق الهائل. ثم هناك أنظمة القيادة والسيطرة ومختلف المنظومات الدفاعية التي تبلغ تكلفتها أيضاً من 830 مليار دولار إلى 930 مليار دولار. إنه إنفاق هائل!

إقرأ أيضا: أوبنهايمر والقنبلة الذرية بين العلم والأخلاق والفلسفة

على ماذا تحصل في مقابل ذلك؟ يمثل ذلك 29 في المئة من الإنفاق العسكري الإجمالي. وهو من نواح عدة أكبر مشروع تقوم به الولايات المتحدة. لذا، بين 1945 و1990، أنتجت الولايات المتحدة 70 ألف قنبلة نووية تنتمي إلى 65 تصميما مختلفا. وقد ضمت الترسانة الأميركية في ذروتها في سنة 1960 ما يعادل 1.366 مليون قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما.

غيتي
غيوم فطر القنبلة الذرية فوق هيروشيما (إلى اليسار) وناغازاكي (إلى اليمين)، اليابان، أغسطس 1945.

يعادل مخزوننا الحالي 91 ألف قنبلة بحجم قنبلة هيروشيما. هكذا إذا فكرت في الأمر، تجد أنك أنفقت 5 في المئة فقط من إجمالي إنفاقك على تطوير الأسلحة النووية للحصول على القنبلتين الأوليين، ثم أتاحت لك الـ 95 في المئة المتبقية انتاج مليون ضعف عدديا. وإذا قسمت التكلفة بين القنبلتين الأصليتين، فستحصل على 500 ألف ضعف عدديا.

من الواضح أننا أصبحنا أكثر كفاءة بكثير في صنع القدرة التفجيرية. تأتي القفزة الكبيرة عندما تنتقل من القنابل الذرية إلى القنابل النووية الحرارية أو الهيدروجينية، وهي القنابل التي أدخلت تحولا على العالم. لقد كانت قنبلتا هيروشيما وناغازاكي، على الرغم من بشاعتهما، نوعا من الامتداد المباشر لقصف طوكيو أو هامبورغ في سنة 1943 أو دريسدن بالقنابل الحارقة على سبيل المثل. أما القنابل النووية الحرارية أو الهيدروجينية فهي قنابل مدمرة للعالم، تمكنك من محو مناطق بأكملها من أي بلد.

إنفوغراف عن: أباطرة تجارة الأسلحة من دول وشركات

السؤال الجوهري الذي يجب طرحه في ما يتعلق بالكفاءة في ذلك الوقت هو، هل فاقت المكاسب التكنولوجية الهائلة أي مبرر سياسي يمكن تصوره لما كانت تقوم به الدولة؟ هل لدينا قدرة على إنتاج قوة تدميرية هائلة حتى أننا تفوقنا على أنفسنا؟

التكلفة الهائلة والعقاب الاقتصادي

الإجابة الواضحة هي نعم. هناك حساب مذهل حقاً أجراه فريق وزير الدفاع في ذلك الوقت روبرت ماكنمارا في أوائل الستينات، في ذروة الحرب الباردة، يرى أن 400 ميغا طن من القوة التفجيرية ضرورية لتأمين الولايات المتحدة بقدرة ضاربة تنهي بفعالية الوجود المتحضر في الاتحاد السوفياتي. في ذلك الوقت، كان لدى الترسانة الأميركية 17,000 ميغا طن من القوة التفجيرية.

إذا نحينا جانبا مسألة الأموال - من هم المهندسون والعلماء الذين يعرفون حقا كيفية إنتاج متفجرة تعمل بنجاح وأمان، ويمكن تحميلها في نظام انتقال ناجحاً؟ ليس هناك كثير من الأشخاص في العالم لديهم هذه الخبرة، وغير خاضعين لرقابة أجهزة المخابرات

الإفراط الهائل في القدرة التدميرية هو سمة هذا الارتفاع في الكفاءة. لقد انتقلت واشنطن من بناء سلاحين في إطار برنامج طارئ لمواجهة النازيين وبعد ذلك انتهى بها الأمر إلى اختبارهما على اليابانيين لإثبات وجهة نظرها، ولكسب الحرب أيضاً بأسرع ما يمكن. ثم في خضم السباق مع الاتحاد السوفياتي، انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى اتباع مسار يهدد العالم من جهة، ويحقق مكسبا كبيرا في الكفاءة من جهة أخرى، لكنه يتجاوز كثيرا نوع الردع المعقول الضروري للحفاظ على سلامة الولايات المتحدة. لذلك، فإن منطقها يتجاوز الأمن القومي.

غيتي
الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين والدكتور روبرت أوبنهايمر

كاميرون أبادي: بما أننا اكتسبنا الآن كفاءة كبيرة في صنع هذه الأسلحة، ما أبرز العقبات الاقتصادية التي تحول في اعتقادك دون حصول مزيد من الدول على أسلحة نووية اليوم؟ هل هي التكلفة المباشرة لتصنيع سلاح نووي أولي؟ أو هل هو الخوف من نوع من العقاب الاقتصادي؟

آدم توز: لا يتعلق الأمر بالتكلفة المباشرة بالتأكيد، بقدر ما يمكنني فهمه على الأقل. يعتقد خبراء الدفاع في كوريا الجنوبية أن كوريا الشمالية أنفقت ما بين مليار دولار و3 مليارات دولار على برنامجها النووي، ونعتقد أنهم يمتلكون بفضله 30 رأسا نوويا. وإذا افترضنا الرقم الأعلى، أي 3 مليارات دولار، فذلك يعني أن كل رأس نووي يكلف 100 مليون دولار. ويمنح كوريا الشمالية بشكل أساسي اهتمام العالم بأكمله ويوفر لها أماناً رادعاً ضد احتمال أن تمارس الصين أو الولايات المتحدة ضغطاً شديداً عليها، من دون ذكر شن ضربة عليهما.

إقرأ أيضا: بعد "أوبنهايمر"... "منطقة الاهتمام" يروي سيرة العمى الأخلاقي تجاه الإبادة

مقارنة بذلك، تكلف "يو إس إس جيرالد فورد"، حاملة الطائرات الأميركية من الجيل التالي، 8 مليارات دولار. لذلك يمكنك امتلاك ثلاثة برامج أسلحة نووية من النوع الكوري الشمالي مقابل سعر حاملة طائرات أميركية واحدة حالياً. أي من هذين الخيارين يمنحك أماناً أكبر؟ أعتقد من بعض النواحي أن من العجيب عدم إقدام مزيد من الدول على تسليح أنفسها بتلك الأسلحة، إذ ما إن تمتلكها حتى تتغير قواعد اللعبة بطريقة دراماتيكية.

المزيج الذي يحد من الانتشار هو الردع السياسي، أو التهديد داخل التحالف الغربي، مثلاً تستطيع ألمانيا أو اليابان التحرك بسرعة لإنتاج أسلحة نووية خاصة بهما - وهذا ما يمكنهما القيام به بسهولة شديدة، من الناحية التكنولوجية – لكن ذلك سيقطع علاقاتهما مع الولايات المتحدة.

أ.ف.ب.
كتاب " بروميثيوس" الأميركي: انتصار ومأساة "أوبنهايمر"، تأليف كاي بيرد ومارتن جيه شيروين

الأمر الآخر أن الولايات المتحدة تفرض سيطرة مشددة نسبيا على الخبرة التكنولوجية الخاصة اللازمة للقيام بذلك. وإذا نحينا جانبا مسألة الأموال - من هم بالتحديد المهندسون والعلماء الذين يعرفون حقا كيفية القيام بذلك بأمان، أي إنتاج متفجرة تعمل بنجاح، ويمكن تحميلها في نظام إيصال قد يكون ناجحاً؟ ليس هناك كثير من الأشخاص في العالم لديهم هذا النوع من الخبرة، وغير خاضعين لرقابة أجهزة المخابرات، وربما يلقون نهاية مؤسفة إذا انتهى بهم الأمر إلى العمل لصالح جهات مناوئة، كما اتضح تماما من استهداف أجهزة مخابرات مختلفة علماء إيرانيين بهذه الطريقة.

ثم هناك التجهيزات التقنية واليورانيوم اللازمة لبدء العملية. وتخضع هذه لمراقبة دقيقة على الصعيد العالمي. لكن الدول تستطيع القيام بذلك في الواقع. ويمكن بسهولة تخيل عالم تمتلك فيه عشرات الدول هذه الأسلحة.

font change

مقالات ذات صلة