اكتشافات مهمة في مدينة الحِجْر الأثرية... وقافلة تحاكي "طريق البخور"

مشروع يمضي وآخر يولد ومدائن صالح هي الهدف

Getty Images
Getty Images
صخرة الفيل في موقع مدائن صالح الأثري خلال فصل الشتاء في مهرجان طنطورة

اكتشافات مهمة في مدينة الحِجْر الأثرية... وقافلة تحاكي "طريق البخور"

حققت الدراسات والمسوح الأثرية في "مشروع مدائن صالح الأثري" (MSAP) نقلة نوعية في موسمها الأخير الذي اختُتم نهاية العام الماضي، وبات الوضع مهيئا الآن لانطلاق المشروع الواعد الجديد "برنامج الحفاظ على آثار مدينة الحِجْر والمناطق شبه الحضرية" (HHACP 2024-2028)، والذي ينتظر منه أن يلقي الأضواء على طبيعة الحياة الحضرية في مركز مدينة الحِجْر التاريخية، وحياتها اليومية، وأنشطتها التجارية والحرفية، فضلا عن دراسة واحتها والمناطق شبه الحضرية التابعة لها. وكتتويج لنهاية "مشروع مدائن صالح الأثري"، قام الفريق بمحاكاة قافلة تجارية بين مدينتي الحجر وتيماء، شمالي المملكة العربية السعودية، بهدف استكشاف أحد تفرعات طريق البخور الذي يربط واحات الحجر وتيماء، ببلاد ما بين النهرين والشام.

منجزات

وأصدرت الآثارية اللبنانية ليلى نعمة، في الأيام الأخيرة، تقريرا بالإنكليزية، تضمَّن خلاصات لنتائح موسم 2023 الأخير في "مشروع مدائن صالح الأثري"، عرضت فيه ما أُنجز على صعيد توثيق المنطقة السكنية، بما في ذلك مراجعة 370 موقعا سُجّلت في العامين الماضيين، وكذلك الانتهاء من توثيق الحصن الروماني، ودراسة الفخَّار الذي يؤمل أن يضيء على الكثير من تفاصيل الحياة في المدينة.

ومن منجزات الموسم الماضي، الانتهاء من رسوم الأشياء والمصنوعات اليدوية، ودراسة البقايا الحيوانية في الطبقات الأثرية المتجانسة والمؤرخة جيدا، والتي حُلّلت بشكل معمق، وهي 2427 عظمة تنتمي إلى أكثر من 50 نوعا من الرخويات والأسماك والزواحف والطيور والثدييات، من 30 موقعا، منها 889 عظمة تعود إلى السويات الأثرية النبطية، و437 عظمة تعود للقرنين الثاني والثالث الميلاديين، و1036 عظمة تعود لأواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الميلادي، و65 عظمة تعود إلى سويات ما بعد الحقبة الرومانية.

من منجزات الموسم الماضي، الانتهاء من رسوم الأشياء والمصنوعات اليدوية، ودراسة البقايا الحيوانية

ومن المؤمل أن تتيح هذه التحليلات الكمية والمكانية التعرف على العادات الغذائية لمواطني وجنود الحِجْر، وطرق إدارة نفايات المدينة، واستخدام الحيوانات في الطقوس، وقبل كل شيء، تطور التعاطي مع الحيوانات على مدى ألف عام، من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الخامس الميلادي، سواء على صعيد الأنواع المستأنسة، أو تلك التي صيدت أو استوردت.

ويشير التقرير إلى أن التحدي الأكبر خلال الموسم الماضي، كان الشتاء القاسي غير المسبوق، والذي أثَّر على حالة المناطق الممسوحة، فعلى الرغم من ترميم القطع الأثرية المنقولة، إلا أن واقع مناطق التنقيب بعد الأمطار والسيول يفرض عمليات فحص لحالة الموقع من جديد، استعدادا للبدء بالمشروع العتيد. 

قافلة طريق البخور

وكقيمة مضافة لـ "مشروع مدائن صالح الأثري"، أنجز الفريق محاكاة واقعية لقافلة تجارية بين الحِجْر وتيماء،  كان الهدف الأول منها استكشاف جزء من تفريعة مهمة في طريق البخور (الربط بين اليمن والعراق والشام)، تماما كما كان الحال في الحقبة النبطية، ومما شجع على إنجاز هذا المشروع قِصر المسافة بين المدينتين (الحجر وتيماء) والتي تبلغ 110 كيلومترات، يضاف إلى ذلك السير على خطى عالمي الآثار الفرنسيين جوسن وسافينياك عام 1909، اللذين يعدان أهم من استكشف هذه الطريق من علماء الآثار الغربيين.

 تمت الرحلة في الفترة ما بين 19 و26 فبراير/ شباط 2023، أي في ثمانية أيام، واستخدمت الإبل فقط من اليوم الثالث فصاعدا (21 إلى 26) لأنه لم يُسمح للمجموعة بعبور محمية شرعان الطبيعية مع الإبل، إذ يُمنع الرعي فيها منعا تاما، ولذلك كان على الفريق السير لمدة يومين لعبور المحمية من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي.

غلاف التقرير

ونظرا لأهمية هذه الرحلة، قرر الفريق بالتعاون مع شركة (jara production) الفرنسية إنتاج فيلم وثائقي مدته 45 دقيقة يتيح للمشاهدين متابعة تحضيرات القافلة وخط سيرها، وقد كتب له السيناريو ونفذه ألكسندرا باربو، وجان لوك جويدوين، وهما صحفيان وصانعا أفلام فرنسيين معروفين، وقد أنهياه في أغسطس/ آب 2023، وسوف يعرض خلال فترة غير محددة على شاشة القناة الثقافية الفرنسية- الألمانية (Arte) التي دعمته في إطار برنامجها الشهير "الاكتشاف والمعرفة" (Découverte et Connaissance). 

برنامج طموح في الأفق

ويعرض التقرير منهجية واستراتيجيات المشروع المقبل "برنامج الحفاظ على آثار مدينة الحِجْر والمناطق شبه الحضرية"، والذي تعلَّق عليه الآمال في تحقيق العديد من النتائج المتوخاة، ومن ذلك فهم الحياة اليومية الحضرية وشبه الحضرية في مدينة الحِجْر، من خلال مواصلة الحفريات وسط المدينة لتوفير بيانات أشمل عن التخطيط الحضري والحياة اليومية، والأنشطة التجارية والحرفية. وسوف يتم الاهتمام بهندسة المباني، والبنى التحتية، وتوزيع المساحات المختلفة، العامة، والخاصة، والدينية، وغيرها. كما سيتم التركيز بشكل خاص على البنى المحلية، وكذلك تلك المتعلقة بمجتمعات محددة مثل التجار أو العسكريين أو الحرفيين.

كشفت أعمال "مشروع مدائن صالح الأثري"عن التصميم العام للقلعة، بالإضافة إلى غرف التخزين والثكنات

كما سيتم التوسع في دراسة المواد النباتية الأثرية، وعلم الأحياء الأثرية، الأمر الذي سيساهم في تحديد العادات الغذائية القديمة، إلى جانب دراسة المصنوعات اليدوية والميزات المعمارية المرتبطة بها، وهذه ستكون بمثابة مؤشرات على الوضع الاجتماعي والمهني لساكنة مدينة الحَجْر القديمة، فضلا عن تقديم نظرة دقيقة حول جودة أعمالهم. وفي ما يتعلق بنمط الحياة في الحِجْر، سوف تُدرس الوحدات السكنية المنزلية، وستجرى أعمال التنقيب واسعة النطاق لمنطقة منزلية محددة من أجل تحديد مخططها كاملا، وتدور الأحاديث عن منطقة مفتوحة على الشارع، في الجزء الغربي من المدينة.

الحياة العسكرية

من أبرز المعالم العمرانية في مدينة الحِجْر الحصن الروماني، فهو يمثل جزءا أساسا من تاريخ الحِجر ومنطقتها بعد ضم الرومان للمملكة النبطية عام 106 ميلادي، وقد كشفت أعمال "مشروع مدائن صالح الأثري"عن التصميم العام للقلعة، بالإضافة إلى غرف التخزين والثكنات. وسوف يوفر العمل المستمر في عدد قليل من المواضع معلومات إضافية مهمة قبل اقتراح الصيغة النهائية للتقرير المتعلق بهذا الحصن، حيث حدّدت خمسة مواضع كأولويات لدراستها، منها البوابة الجنوبية الشرقية للحصن، وهي منطقة قد تتاح للسياح في المستقبل القريب، وقد تكون المنطقة أيضا مرشحة للبحث عن مكب النفايات المرتبط بالأنشطة العسكرية.

القافلة

ويكشف التقرير عن اعتزام البرنامج الجديد إجراء المزيد من التنقيب في الأفران، من أجل تقديم إجابات تتعلق بورش السيراميك ودورها في الصناعات الحرفية في الحِجْر، من قبيل: هل يمكننا تقييم إنتاج السيراميك في الحِجر أو قياسه؟ وكم عدد العاملين في صناعة الفخار؟ ومن أين أتى الطين وكيف عولج قبل شيِّه بالنار؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة سيُجرى فحص بالأشعة على السيراميك للكشف عن أصل الطين المستخدم محليا. وستكون الخطوة التالية فهم تحويل المنتجات الزراعية إلى سلع صالحة للأكل. وهذا البحث سوف يساعد في فهم الروابط بين الحِجْر وواحتها المباشرة، بالإضافة إلى استخدام المحاصيل المنتجة محليا للاستهلاك اليومي، بدلا من المحاصيل التجارية.

دراسة تكامل مدينة الحِجْر، مع مدينة تيماء، ستكون خطا رئيسا من خطوط البحث


ومن أجل تحقيق ذلك الهدف، سوف تُفحص، في ضوء المشروع الجديد (HHACP)، جميع المخلفات العضوية والبيانات النباتية الأثرية التي أنتجتها المشاريع السابقة، كما ستُفحص أحجار الرحى البازلتية بحثا عن بقايا عضوية، وإجراء فحص بالأشعة لتحديد أصل البازلت، وبالتالي فهم العلاقة التي حافظت عليها الحِجْر مع محيطها، وكيف استغلت المدينة جميع مواردها المتاحة محليا.

محيط الحِجْر

من الأهداف الرئيسة للمشروع الجديد، محيط مدينة الحجر الذي يتميز بوجود العديد من الآبار المحيطة بالمباني الأثرية. علاوة على ذلك، حُدّد العديد من مواقع قرى صغيرة أو مناطق السكنية خلال المسوحات السابقة، وسوف يعاد فحصها بشكل معمق في المرحلة المقبلة. والواحة المرتبطة بمدينة الحجر على العموم لا تزال مجهولة لعلماء الآثار، ولذلك سوف يساعد أخذ العينات وعمليات السبر على فهم البيئة القديمة لها، وكذلك ستُدرس المواد الخزفية التي جُمعت عام 2004 (1174 قطعة مرقمة ومصورة ومرسومة) لفهم التسلسل الزمني وكثافة الإشغال.

AFP
قبر منحوت في الحجر الرملي الوردي اللون في مدائن صالح، أحد مواقع التراث العالمي لليونسكو، بالقرب من مدينة العلا شمال غرب المملكة العربية السعودية، في 26 يناير 2024

وبالمثل، فإن دراسة تكامل مدينة الحِجْر، مع مدينة تيماء في سياقهما الإقليمي، ستكون خطا رئيسا من خطوط البحث، وهو ما يساعد على فهم الأنشطة الاقتصادية للحِجْر، والدور أو الأدوار التي لعبتها في المنطقة في العصور القديمة، كمحطة قوافل، وموقع العسكري، وحرم مقدس، وأهميتها في طريق البخور البري بين الشمال والجنوب، وارتباطاتها مع منطقة البحر الأحمر، والمدينة المنورة.

font change

مقالات ذات صلة