السلام بين أرمينيا وأذربيجان قد يكون مختلفاً هذه المرة... لماذا؟

المناوشات الأخيرة تذكر بأن كثيرا من الأمور يمكن أن تسوء

رويترز
رويترز
وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بايربوك تتوسط نظيريها الأرمني آرارات ميروزيان والأذري جيحون بايرومانوف أثناء مفاوضات السلام في برلين في 28 فبراير

السلام بين أرمينيا وأذربيجان قد يكون مختلفاً هذه المرة... لماذا؟

بينما يستعر أوار الحرب في غزة وتصعد إيران ووكلاؤها أعمالهم في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وتستمر روسيا في حربها على أوكرانيا، يمر جنوب القوقاز بتحول عميق على نحو هادئ. إذ تتجه أرمينيا وأذربيجان ببطء نحو التوصل إلى معاهدة سلام. فإذا ما وقّع البلدان تلك المعاهدة، فستكون لذلك آثار عميقة ليس فقط على جنوب القوقاز، بل أيضا على روسيا وأوروبا وربما إيران.

استمر الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وهو نزاع عرقي وإقليمي في آن معا، أكثر من ثلاثين عاما، ومحور هذا الصراع هو إقليم ناغورنو كاراباخ (أو آرتساخ كما يسميه الأرمن)، الإقليم المعترف به دوليا كجزء من أذربيجان، ولكنه كان حتى وقت قريب تحت سيطرة نظام الانفصاليين الأرمن المدعوم من الحكومة الأرمينية. وهو الصراع الأطول زمنا في فضاء ما بعد الاتحاد السوفياتي، وواحد من نزاعات عديدة مما يسمى "الصراعات المجمدة" على أطراف روسيا.

وفي السنوات القليلة الماضية، كان المراقبون يصرحون على نحو دوري أن اتفاق السلام بين باكو ويريفان بات وشيكا، بيد أنه لم يتحقق قط. ومع ذلك، لدينا اليوم من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد بأن المحاولة هذه المرة ستكون مغايرة لسابقاتها.

زالت العقبات... وظهر الالتزام بالسلام

أولا، أُزيلت العقبة الكؤود أمام السلام ولو أنها أُزيلت بالقوة العسكرية. فبعد سنوات من فشل الدبلوماسية، شنت أذربيجان هجوما استمر 24 ساعة على كاراباخ في سبتمبر/أيلول 2023، أدى إلى استسلام القيادة الانفصالية في ستيباناكيرت وإخراج القوات الأرمينية من الأراضي الأذربيجانية. كما أدى الهجوم إلى نزوح سريع وغير متوقع للإثنية الأرمنية من كاراباخ. ولطالما كان تخلي أرمينيا عن كاراباخ شرطا أساسيا للسلام.

كلا الجانبين يدرك أن القضايا المتبقية يمكن حلها بعد التوقيع على معاهدة سلام

ثانيا، تبدي كلا القيادتين الأرمينية والأذرية الآن التزاما واضحا بالسلام. بينما كان مثل هذا الالتزام في الماضي محفوفا بالمخاطر، وعلى الأخص على القيادة الأرمينية بسبب خوفها من القوى المتطرفة في أرمينيا، التي كانت على استعداد ليس لاستخدام الضغط السياسي فقط، بل لاستخدام العنف أيضا لمنع السلام. وفي ديسمبر/كانون الأول أظهر الجانبان الأرميني والأذري علامة نادرة على حسن نيتهما، عندما تبادلا الأسرى وأصدرا بيانا مشتركا يعترف باللحظة التاريخية لتحقيق السلام في المنطقة. وتلا ذلك مزيد من العلامات على هذا الالتزام في تصريحات كبار المسؤولين لاحقا. كما صرح حكمت حاجييف، كبير مستشاري الرئيس الأذري إلهام علييف للسياسة الخارجية بأن "أذربيجان لم يعد لديها أي عقبة من جانبها تمنعها من المضي في طريق السلام". وتبادل الجانبان عدة مسودات لمعاهدة السلام.

وفي الآونة الأخيرة التقى الرئيسان علييف وباشينيان على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير/شباط هذا العام، الذي استضافه المستشار الألماني أولاف شولتز، ثم تلا ذلك لقاء وزيري خارجية أرمينيا وأذربيجان في برلين، باستضافة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك.
ثمة مثال آخر جاء على ما يبدو نتيجة لعملية السلام بين أذربيجان وأرمينيا، هو اختيار أذربيجان لرئاسة مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ، واستضافتها لبطولة كأس العالم 29. في الواقع، وافقت أرمينيا في ديسمبر 2023 على دعم عرض استضافة أذربيجان لبطولة كأس العالم مقابل عضويتها في مكتب مجموعة أوروبا الشرقية لهذه البطولة. وفي مقال افتتاحي حديث لمختار باباييف، وزير البيئة والموارد الطبيعية الأذري والرئيس المعين لهذه البطولة، ينسب الفضل في حصول أذربيجان على منصبها الحالي كمضيف للبطولة إلى جهود السلام مع أرمينيا.

ترسيم الحدود وممر زانجيزور

أخيرا، يبدو أن كلا الجانبين يدرك أن عددا من القضايا المتبقية يمكن حلها بعد التوقيع على معاهدة السلام. وتتعلق هذه القضايا بممرات النقل وجيب ناخيتشيفان، وخاصة قضايا ترسيم الحدود بين أرمينيا وأذربيجان، وهو ما لم يحدث من قبل قط. وفي الواقع، صرح حاجييف في ديسمبر/ كانون الاول الماضي أن اتفاق الحدود ولو أنه سيستغرق وقتا أطول، إلا أنه لا يشكل عائقا على طريق معاهدة السلام. وهذا أمر مهم لأن حل مسألة ترسيم الحدود قد يستغرق سنوات. وفي الواقع، لا تزال جورجيا وأذربيجان تبذلان جهودا متواصلة لترسيم الحدود بينهما منذ عام 1991، مع أن البلدين يعيشان في سلام.

أ ف ب
الرئيس الأذري إلهام علييف والأمين العام لحلف "الناتو" يانس ستولتنبرغ أثناء مؤتمر صحافي بعد محادثاتهما في باكو في 17 مارس

 إحدى القضايا الرئيسة التي لم تحل هي ما يسمى ممر زانجيزور، الذي يربط بين أذربيجان مع جيب ناخيتشيفان التابع لها، وهو جزء من طريق محتمل بين الشرق والغرب يسمى الممر الأوسط. تقع ناخيتشيفان على الحدود بين أرمينيا وإيران. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وقعت أرمينيا اتفاقا ثلاثيا لوقف إطلاق النار مع أذربيجان وروسيا، بعد حرب قصيرة بين البلدين. وقد وافق  باشينيان في هذا الاتفاق على فتح خط بري عبر الأراضي الأرمينية وتحديدا عبر مقاطعة سيونيك.

في أرمينيا يشعرون بالقلق من فقدان السيادة لصالح أذربيجان بسبب فتح ممر زانجيزور

ويمثل ممر زانجيزور رؤية لمشروع بديل ينافس طرق التجارة بين الشرق والغرب. وهو نموذج مصغر للطريقة التي يتلاءم فيها الشرق الأوسط وأوروبا وروسيا مع اللعبة الجيوسياسية التي تنبسط في جنوب القوقاز. وسيربط زانجيزور أذربيجان مع تركيا على نحو أوثق، وامتداده بالتالي إلى حلف شمال الأطلسي وأوروبا، لأن تركيا تشترك في الحدود مع ناخيتشيفان. 
وقد أبدى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي معارضته لمشروع زانجيزور، خشية أن يؤدي إلى خفض التجارة الحرة وحركة المرور بين البلدين، إلى جانب خفضه أرباح عقود الغاز الإيرانية مع تركيا وأذربيجان. 
أما في أرمينيا فلا يرى البعض فائدة لبلادهم من زانجيزور ويشعرون بالقلق من فقدان السيادة لصالح أذربيجان نتيجة فتح الممر، لكن باشينيان وافق عليه بالتحديد لأنه سيدمج أرمينيا في اقتصاد المنطقة.

أهمية عالمية

بينما أظهرت كلا القيادتين الأرمينية والأذربيجانية رغبتهما في السلام والتزامهما بتحقيقه، خلال العام الماضي، شارك وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ورئيس المجلس الأوروبي تشارلز ميشيل بفاعلية في الجهود المبذولة للتوسط في اتفاق سلام، مع تهميش روسيا. وليس صدفة أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اتهم في نهاية العام الاتحاد الأوروبي بأنه يسعى إلى إخراج روسيا من هذه المنطقة وادعى أن إبعاد أرمينيا عن روسيا باتجاه الغرب وتحديدا باتجاه حلف شمال الأطلسي سيؤدي بأرمينيا إلى فقدان سيادتها، بينما الواقع يقول عكس ذلك. ووراء هذا الخطاب ثمة محاولة لتبرير فشل الكرملين الدبلوماسي. ويأتي تجديد أرمينيا تهديدها بالانسحاب من منظمة معاهدة الأمن الجماعي (التحالف العسكري الذي تقوده روسيا) كتذكير آخر بأن إخفاقات روسيا السابقة في أوكرانيا فتحت نافذة لتغيير التوازن الجيوسياسي في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى لصالح الغرب.
إن حل الصراع المجمد دون تدخل من روسيا في جنوب القوقاز، وهي المنطقة التي تعمل كحلقة وصل بين أوروبا والشرق الأوسط، سيجعل روسيا في وضع غير مؤات استراتيجيا على المستوى العالمي. وسيكون أمام أرمينيا من ناحيتها الخيار في أن تقيم علاقات أوثق مع الغرب، بدلا من أن تستمر في الاعتماد على روسيا وإيران. ومن المرجح بالتالي أن يضعف موقف هذين البلدين في المنطقة وأن يوفر للغرب فرصا إضافية للتدخل وصد نفوذهما. يضاف إلى ذلك، إذا ما وقعت أرمينيا وأذربيجان معاهدة سلام بشروطهما الخاصة، فإن ذلك سيتيح لأرمينيا وللشعب الأرميني الفرصة لإعادة صياغة نظرتهم لأنفسهم وتاريخهم ومكانتهم في العالم.
مؤكد أن السلام غير مضمون ويظل هشا. والمناوشات القاتلة الأخيرة بين البلدين تذكر بأن كثيرا من الأمور لا يزال ممكنا أن تسوء، ولا سيما بوجود قوى متطرفة في المنطقة لا تريد السلام. أما إذا وقعت أرمينيا وأذربيجان معاهدة سلام، فسوف يتردد صداها عبر قارات متعددة مع ما تحمله من فوائد مباشرة لمصالح الولايات المتحدة. وإذا كان صانعو السياسة الغربيون جادين في ضمان انتصار أوكرانيا، فعليهم أن ينظروا إلى الصورة الأوسع لما قد ينتج عن نصرها، وخسارة روسيا، أبعد من حدود أوكرانيا. 
وكما هو الحال مع أي فرصة فإن عامل الوقت مهم، وقد لا تظل هذه النافذة مفتوحة إلى الأبد.

font change

مقالات ذات صلة