أنسي الحاج في 2024: نجم أشدّ سطوعا

ملف خاص عنه في "بانيبال" الإسبانية

أنسي الحاج

أنسي الحاج في 2024: نجم أشدّ سطوعا

تضمن العدد رقم 13 من مجلة "بانيبال" الإسبانية التي يصدرها مارغريت أوبانك وصموئيل شمعون في لندن ومدريد، ملفا خاصا عن الشاعر اللبناني أنسي الحاج يحوي مجموعة مقالات وشهادات كتبها كل من الشعراء والنقاد ماريا لويسا پرييتو وخالدة سعيد وأحمد يماني وعبده وازن وخالد النجار وسامر أبو هواش، كما ضمّ الملف مختارات شعرية بالإسبانية لأنسي الحاج، اختارتها وترجمتها ماريا لويسا برييتو.

في العدد الجديد من "بانيبال"، مراجعات لروايات القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب هذا العام، كتبتها الناقدة اللبنانية كاتيا الطويل. وفي باب الشاعر الضيف نشرت المجلة قصائد للشاعر الفنزويلي رافائيل كاديناس، الذي حصل في العام 2022 على جائزة ثرفانتس عن مجمل أعماله الشعرية.

هذه شهادة عن أنسي الحاج نشرت بالإسبانية، وتنشر هنا بالعربية لمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، وصدور طبعة جديدة من أعماله الشعرية الكاملة عن "دار المتوسط":

أقرأ أنسي الحاج للمرة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، أقرأه اليوم في 2024، وقد بتّ أكبر سنا منه، حين نشر "لن" (1960)، كان شابا في الثالثة والعشرين، وسيعيش بعد هذا الكتاب أكثر من عقود خمسة (توفي في 2014)، تغيّر العالم خلالها بضع مرّات، وها هو يتغيّر مجدّدا في العقد الثالث من الألف الثالث. هناك مدينة عربيّة، متوسّطية، تدعى غزّة، تباد على مرأى العالم وسمعه، لكنْ، هل غزّة وحدها التي تباد؟ ألم تتعرّض معها وقبلها، بيروت للإبادة؟ ألم تكن الإبادة، قبل غزّة وخلالها، مصير دمشق، والقاهرة، وبغداد، وصنعاء؟ أيّ مدينة، عربية، أيّ عاصمة لا تزال، في وقتنا هذا، مدينة وعاصمة؟

زمن السرطان

"نحن في زمن السرطان"، قال أنسي الحاج في ختام مقدّمته الشهيرة لديوان "لن"، التي باتت، عن حقّ، هي والقصائد التي ضمّها ذلك الديوان، دون فصل تعسّفي بينهما، بيان قصيدة النثر العربية وعتبتها، لا بل بوّابتها الواسعة. كانت بيروت في ذلك الوقت، مطلع الستينات من القرن العشرين، حاضرة مشرقة من حواضر العالم الحديث، وريادتها تلك كمدينة حديثة، لم تكن نابعة من تاريخ نموّها وازدهارها، ولا من حاضرها، بل من كونها مدينة مستقبليّة بامتياز. مدينة تصنع المستقبل وتبشّر به؛ تبشّر به وهي في خضم صناعته. هكذا في السياسة، وفي الاجتماع، وفي العمارة، وفي الصحافة، وفي الأدب، وفوق ذلك كله، في الحريّة، فكرا وتنظيرا ومعيشا وممارسة.

 إن نظر أنسي الحاج إلى بيروت، وإلى شقيقاتها العربيّات اليوم، فماذا يقول؟ ماذا هنالك بعد السرطان؟ هناك الموت

كتب أنسي الحاج داعيا إلى "الهدم" و"التدمير"؛ كان هناك ما يجب هدمه في الثقافة العربية، لتدبّ الحياة في أوصالها بعد طول ركود ورقاد، ولتكون جزءا من ذلك المستقبل الذي تمضي إليه بيروت بيدين مشرعتين وعينين مغمضتين وقلب هادر. أتساءل: إن نظر أنسي الحاج إلى بيروت، وإلى شقيقاتها العربيّات اليوم، فماذا يقول؟ ماذا هنالك بعد السرطان؟ هناك الموت. أنسي الحاج رصد السرطان في الجسد، لكنه لم يرَ ماذا حلّ بذاك الجسد. قال إننا "مرضى"، لكنه لم يرَ احتضارنا، أو لعلّه رأى منذ ذلك الحين احتضارنا الطويل، واختار أن يسمّيه مرضا، لعلّ يكون بعدئذ شفاء. رأى ابن الثالثة والعشرين ربيعا أننا على شفير عالم يتغيّر، وأننا – سياسة واجتماعا وثقافة ولغة – لن نكون، ببساطة، جزءا من هذا العالم، إن لم نهدم ألف عام من التحجّر والتقوقع والتخلّف والفوات. استخدم في بيانه ذاك كلمات بالغة الوضوح، تحدّث عن العنصرية والمذهبية والتعصّب والانحطاط، وتحدّث عما هو أبعد وأعمّ، ما قد يكون سببا لكلّ ذلك وأكثر منه، غياب الحرية. كيف لنا أن نتخيّل ذلك في 1960؟ أيّ ملاك أو شيطان كان يقف على كتف أنسي الحاج وهو يرى مستقبلنا في حاضره؟

الجنون

في خريف ذلك العام، 1960، تساءل أنسي الحاج: "وسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب، أمام أمواج السمّ التي تُغرق كلّ محاولة خروج، وتكسر كلّ محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة الجذور في السخف، أمام بعث روح التعصّب والانغلاق بعثا منظّما شاملا، هل يمكن محاولة أدبيّة أن تتنفّس؟ إنني أجيب: كلا. إنّ أمام هذه المحاولة إمكانين، فإما الاختناق وإما الجنون". وهذا ما كان خلال الستين عاما ونيف الماضية. لم نصل إلى الجنون بالمعنى الذي قصده أنسي الحاج، الجنون الذي يتيح ولادة جديدة، وبداية جديدة، الجنون الذي يجعلنا نصرخ ونصدم ونرجّ أركان العالم، لم يفض إلى شيء، إن كان جنون بهذا المعنى في المقام الأول، فكان الاختناق مصيرا شبه محتوم. واليوم، في 2024، أيّ كلمة أفضل من الاختناق لوصف حال بيروت وأخواتها. الاختناق لعلها كلمة ملطّفة لوصف هذا الاحتضار الطويل بعدما أخفقت الشعوب العربية في الخروج من "ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون"، على حدّ وصف أنسي الحاج.

أما الشعر، بل قصيدة النثر، التي كتب عنها أنسي الحاج كوليد جنينيّ جديد في مطلع الستينات، فقد تعاقبت أجيال منذ ذلك الحين على كتابتها، أصبح هناك العشرات إن لم يكن المئات ممن يصنّفون أنفسهم شعراء قصيدة نثر، لكنّ قصيدة النثر نفسها، لا تزال في حقيقة الأمر، عند نقطة البداية تلك. قلة يقرأون اليوم بيان أنسي الحاج، الذي لا يزال، في كلّ  تفصيل من تفاصيله، يمتلك وجاهة كاملة، بل ربما ازدادت وجاهته قوة وتماسكا، وقلّة أكبر، إن قرأت بتمعّن ذلك البيان، أدركت حقا ما ذهب إليه أنسي الحاج من تطلّعات ورؤى. مدهش كم يليق توصيفه لاستقبال هذه القصيدة في وقته، بوقتنا هذا: "أما عندنا، فأخفّ ما تنعت به (يقصد قصيدة النثر)، على العموم، أنها هجينة، وأرصن ما يقول فيها المترصّنون أنها سحاب زائل (...) خارج بضعة من المرافقين المتفهّمين، يمكننا أن نرى المهلّل الذي يهلّل لكلّ جديد سعيا خلف إرواء ظمأ سطحيّ إلى إثارة كإثارة الزيّ، والصعلوك الذي يعلق كحشرة بجسم كلّ انتفاضة تعشّقا منه للتهريج والظهور(...) هل للتحفّظ مبرّر هنا؟ أجل ما دام مدّعو قصيدة النثر، ممن هم على جهل تامّ بها، وإساءة إليها، وإسفاف فيهم، يتصدّرون الواجهة (...) وما دام العطاء الحقيقي ضمنها، لا التقريبي والصّدفيّ، لم يأخذ بعد طريقه إلى الناس؟".

جوهر المشكلة

كلام دالّ أيضا عن "المحافظين" و"التقليديين"، في ما يتعلق باستقبال قصيدة النثر، لا يقلّ وجاهة، اليوم، عن لحظة قول أنسي الحاج له: "إن معارضة التقدّم عند المحافظين ردّ فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدّم، لمن ليس مؤمنا بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلّدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يتردّدون، فيحتمون بالماضي، ويسحبون جميع الأسلحة من التعصّب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي (...) فلم يروا في تاريخ الشعر غير ما يؤيّد رجعتهم (...) إرادتهم البقاء حيث هم، وإنقاذا لأنفسهم من عجلات النهضة".

تلك النجمة التي سطعت يوما في سماء الشعر العربي، تلك التي اسمها أنسي الحاج، لا تزال تسطع بالقوة نفسها إن لم يكن أقوى

لم يفت هذا الأب الحقيقي لقصيدة النثر العربيّة، نظرية وممارسة معا، التنبّه إلى أصل المشكلة وجوهرها: لا تقدّم أدبيّا ولا ثقافيا ولا علميا، حقيقيا، دون تقدّم اجتماعي وسياسي حقيقي، والعكس صحيح بالقدر ذاته، فلا تقدّم اجتماعيا وسياسيا حقيقيا، دون تقدّم أدبي وثقافي وعلمي حقيقي، فكلاهما متداخل تداخلا عضويا لا فكاك منه، أي لا تقدّم في أيّ مجال من مجالات عيش الإنسان، وحاضره ومستقبله، دون تقدّم الإنسان نفسه، ودون انتفاضة حقيقية يحقّقها وعيه وفهمه لنفسه وللعالم. وبذلك وضع أنسي الحاج باكرا أصبعه على الجرح العربيّ المستفحل، الذي جنبا إلى جنب العوامل الخارجيّة من هيمنة استعلائية غربيّة، نرى أوضح تجلياتها، وأحقر ممارساتها اليوم، في حرب غزة، أدّى إلى انهيار المدن والعواصم العربية، واحدة بعد أخرى، وقد طحنتها عجلات التخلّف والتعصب والتبعيّة، بدلا من أن تنقذها تلك التي سماها أنسي الحاج "عجلات النهضة" الموعودة.

أنسي الحاج

وبعد، فإذا كانت قصيدة النثر، عند أنسي الحاج، "خليقة هذا الزمن، حليفته ومصيره"، في مطلع ستينات القرن العشرين، فالأحرى أن تكون كذلك اليوم. السرطان لا يزال مستفحلا في الجسد العربي، "نثرا وشعرا وكلّ شيء"، وإذا كان من عزاء، فإن تلك النجمة التي سطعت يوما في سماء الشعر العربي، والثقافة العربية، تلك التي اسمها أنسي الحاج، لا تزال تسطع بالقوة نفسها إن لم يكن أقوى، وليس علينا، الآن كما في مطلع الستينات، سوى أن نفتح أعيننا وقلوبنا وعقولنا ومخيلتنا، ونقرأ.

font change

مقالات ذات صلة