نتنياهو والهروب إلى الشمال

مثلما هرب من مشاكله الداخلية إلى حرب غزة، يهرب من هذه الحرب إلى تصعيد أوسع

نتنياهو والهروب إلى الشمال

ليست إصابة مراقبين عسكريين أمميين جنوبي لبنان والغارات الإسرائيلية قرب دمشق بعد حلب، سوى حلقات إضافية من التداعيات الإقليمية منذ حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أن هذا التصعيد يعزز الاعتقاد باتساع رقعة المواجهة بين "حزب الله" وإسرائيل، واحتمال نجاح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـالهروب إلى الشمال للهروب من المساءلة والفشل في تحقيق كامل أهدافه في غزة.

منذ بدء هجوم "حماس" على غلاف غزة في 7 أكتوبر، وما تلاه من جنون إسرائيلي، بدا واضحا أن "حزب الله" ليس معنيا بحرب شاملة في جنوب لبنان نجدة لـ"حماس"، حليفته في "محور الممانعة" بقيادة إيران. وضع لبنان الاقتصادي والضغوطات الداخلية للحزب وحسابات إيران الدقيقة إزاء أدوار "أوراقها" في اللعبة الأكبر مع أميركا والإقليم، وقرارها بترك "الحزب"، الورقة الأهم، لمعارك أكبر تخص مصالح حيوية مباشرة لطهران، ورسائل التحذير الأميركية، كلها أسباب أدت إلى عدم انجرار "حزب الله" إلى معركة شاملة، رغم ارتفاع حصيلة القتلى في صفوفه حيث بلغت 270 عنصرا من مقاتليه ونحو 50 مدنيا بينهم أطفال ومسعفون وصحافيون.

من جهته، عبّر نتنياهو، هو ووزير دفاعه يوآف غالانت، أكثر من مرة بعد "7 أكتوبر" عن رغبتهما بالذهاب إلى الحرب في الشمال. لكن ضغط واشنطن ووساطتها لعقد صفقة جنوب لبنان، والتزام "حزب الله" بـ"قواعد الاشتباك"، عوامل أدت إلى تأخر حصول تلك الحرب، رغم بقاء أولوية إعادة 70 ألف مستوطن نزحوا من المناطق الحدودية الشمالية بسبب قصف "حزب الله"، وتمسك حكومة نتنياهو بـ"استعادة الردع"، و"الانتصار في معركة البقاء" بعد مفاجأة أكتوبر.

ملاحقة اسرائيل لإيران في سوريا لا تزعج روسيا كثيرا. فالرئيس بوتين لا يريد لحليفه الإيراني أن يملأ الفراغ هناك

لكن في الفترة الأخيرة، اتسع الاعتقاد بتوفر الأسباب للذهاب إلى مواجهة مباشرة عند الحدود الشمالية لإسرائيل، إذ إن وزير الدفاع الإسرائيلي، قال: "انتقلنا من ضرب حزب الله إلى ملاحقته، سنصل إلى كل مكان يوجد فيه في بيروت وبعلبك وصور وصيدا والنبطية وإلى كل امتداد الجبهة، وأيضا لأماكن بعيدة أكثر مثل دمشق وغيرها. سنعمل في كل مكان يتطلب منا ذلك". 
ترجمة ذلك، كانت بتوسيع إسرائيل لضرباتها وراء حدودها الشمالية. إذ إنها وجهت قبل أيام ضربات واسعة ضد "مواقع إيرانية" في شمال شرقي سوريا، مما أسفر عن سقوط عدد كبير من القتلى. كما أنها شنت غارات قبل يومين، على مواقع سورية وإيرانية وأخرى تابعة لـ"حزب الله" في حلب، شمالي سوريا، أسفرت عن سقوط أكثر من 30 قتيلا من الجيش السوري، وهي أعلى حصيلة ضحايا له داخل الأراضي السورية منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973. 
منذ بدئها بشن غارات في سوريا قبل سنوات، كانت إسرائيل تتجنب استهدافا مباشرا للجيش السوري ومواقعه، إلا في حالات نادرة. كما أنها التزمت بعدم إصابة الجيش الروسي (باستثناء مرة عن طريق الخطأ في 2018)، لكن القصف الأخير على حلب، يدل على قرار إسرائيلي بزيادة الضغط على دمشق لفك الارتباط مع "حزب الله" وإيران. ومثلما أدت عمليات اغتيال قادة إيرانيين في العاصمة السورية، إلى إثارة الكثير من الشكوك بين "الحليفين" وإلى قرار طهران باستدعاء كبار قادة "الحرس الثوري" إلى إيران، فأغلب الظن أن تل أبيب تراهن على دق إسفين إضافي بين "الحليفين" دمشق وطهران. 
ومثلما كانت إسرائيل "تلاحق" إيران في سوريا، باتت حاليا "تلاحق" بعملياتها "حزب الله" في لبنان وسوريا. هذه "الملاحقة" لا تزعج روسيا كثيرا. صحيح هناك حلف بين طهران وموسكو، لكن الرئيس فلاديمير بوتين لا يريد لحليفه الإيراني أن يستغل انشغاله في حرب أوكرانيا، لملء الفراغ في سوريا. بل يريد لحليفه الإيراني أن يبقى بحاجة إليه في سوريا، مثلما هو بحاجة إليه في أوكرانيا. 

التصعيد الإقليمي قد تصل شراراته إلى الضفة الغربية والأردن ولبنان ومصر وبعض الأراضي السورية

ومع قرب معركة رفح بعد عيد الفطر وبدء العد التنازلي للانتخابات الأميركية، فإن هذه المعادلة ستخضع لكثير من الاختبارات الإسرائيلية في الشمال. نتنياهو لم يحقق جميع الأهداف التي أعلنها لدى بدء حرب غزة. لم يستعد الرهائن، ولم يقتل كبار قادة "حماس"، ولم يفكك كامل بنيتها العسكرية، رغم الخسائر المدنية الهائلة والتدمير والتهجير. 
أغلب الظن، أن نتنياهو المعني بمستقبله، يراهن على تصعيد في لبنان وسوريا. ومثلما هرب من مشاكله الداخلية إلى حرب غزة، يهرب من هذه الحرب إلى تصعيد أوسع وأبعد في الشمال. تصعيد إقليمي قد تصل شراراته إلى الضفة الغربية والأردن ولبنان ومصر وبعض الأراضي السورية. نجاح نتنياهو بالهروب إلى الشمال، يتركه في السلطة وخارج السجن والمساءلة، ويبعد الأنظار عن حرب غزة بفشلها ودمارها، ويساعده على حرق الأيام إلى حين حصول الانتخابات الأميركية. هروب يحرره من ضغوطات إدارة جو بايدن على استحيائها، لكن الأهم بالنسبة لنتنياهو أن هذا "الهروب" قد يسمح بعودة دونالد ترمب وأفكاره ومشاريعه. 

font change