الأردن... خبرة متراكمة لتجاوز الاختبارات و"اليوم السابع"

تحاول الدولة احتواء المظاهرات بالقانون وتحاول قوى التأزيم الإقليمي إشعالها بالفتنة

أ ف ب
أ ف ب
الملك عبد الله الثاني (على اليمين) وولي العهد الأمير الحسين (في الوسط) ووزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي (على اليسار) خلال اجتماع مع رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في عمان، في 2 أبريل

الأردن... خبرة متراكمة لتجاوز الاختبارات و"اليوم السابع"

المشي حول الجمر وعلى أطراف الأصابع، ربما يكون التشبيه الأكثر دقة لتوصيف تفاعل الحالة الأردنية مع محيطها الإقليمي بكل تعقيداته.

ففي ظل احتقان داخلي تختلط فيه مؤشرات اقتصادية حرجة ونسب بطالة مرتفعة ومحاولات إصلاح سياسي وإداري جدية تحاول الخروج من رحم استحالات الواقع، مما يشكل ثغرات ينفذ منها "الخارج الإقليمي"، فإن الأردن في سباق محموم مع الوقت للخروج بأقل الخسائر دوما.

ومع دخوله مئويته الثانية كدولة فإن مختبر التاريخ الأردني المعاصر مليء بالخبرة المتراكمة في التعامل مع الأزمات، الداخلية منها والخارجية، وهو ما يضع آخر الأزمات التي يشهدها الأردن حاليا في رصيده الكبير من خبرة المعالجة والتخطي: أزمة تداعيات الحرب على غزة.

في الحسابات السياسية، كان العقل السياسي للدولة الأردنية وبرصيده الهائل من خبراته الطويلة في الإقليم، يدرك مسبقا حدوث انفجار وشيك قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقد وقف الملك عبدالله الثاني قبل ثلاث أسابيع على منبر الأمم المتحدة يخاطب العالم محذرا بجدية بالغة من انفجار وشيك منطلقه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

قوى فصائلية تحاول جر الأردن نحو فتنة تضرب "الوحدة الوطنية" من خلال الضرب على عصب "الهوية"

وعليه فإن حرب غزة لم تكن مفاجأة صاعقة للدولة الأردنية، وكانت خياراتها محسوبة ومحسومة سلفا بدعم سياسي كان التصعيد فيه واضحا ضدّ العدوان الإسرائيلي المتوحش على قطاع غزة منذ الأيام الأولى للحرب. كان خيار الأردن "شديد الحساسية في الحسابات": مواجهة إسرائيل من دون الوقوع في فخ "محور المقاومة" الذي بدوره وضع الأردن على شاشة الاستهدافات كخيار استراتيجي لتصدير الأزمة إليه وقت الضرورة. ويبدو أن الضرورة حان استحقاقها الآن بحسابات التوقيت "المحلي" في طهران. فمع تزايد المأساة الإنسانية في غزة وتراجع خيارات "حماس" وصولا إلى الإفلاس في مناورات الاستمرار، فإن نقل "الأزمة" وتكبيرها إقليميا يحقق الهدف القديم بخلق اضطرابات تتجاوز مساحة غزة إلى المنطقة كلها بدءا من الأردن.

استفزاز مقصود

الثغرة التي اختارتها "حماس" تحديدا، وغيرها من قوى تأزيم الساحة الأردنية، كانت في منطقة الرابية بالعاصمة الأردنية عمان، وهو الحي الذي يوجد فيه مقر السفارة الإسرائيلية، والمبنى بأكمله مهجور منذ بدايات العدوان الإسرائيلي على غزة، وبقرار رسمي أردني اشتمل أيضا على استدعاء السفير الأردني في تل أبيب.
وكانت خطوة "تعليق العلاقات" الدبلوماسية مع إسرائيل، قد تزامنت مع تصعيد سياسي أردني شديد اللهجة بدأه الملك عبدالله الثاني نفسه في أول زياراته المكوكية إلى أوروبا، وفي ألمانيا تحديدا، حين تحدث عن رفضه القاطع لفكرة "الترانسفير" الفلسطيني بمجملها، الفكرة التي حاول وزير خارجية الولايات المتحدة أنتوني بلينكن تسويقها في الشرق الأوسط كحالة "إنقاذ" مؤقتة للمدنيين.

أ ف ب
صورة نشرها الجيش الأردني في 3 أبريل، وتظهر مساعدات إنسانية يتم إنزالها جوا من طائرة عسكرية فوق قطاع غزة

وفي مؤتمر القاهرة للسلام في 21 أكتوبر الماضي كان الملك عبدالله قد رفع درجة التصعيد في خطابه منطلقا من رؤية "إقليمية" تتجاوز تحجيم ما يحدث في غزة كحالة معزولة عن المنطقة. وهو ما صار عنوان السياسة الأردنية القائمة على أن يكون التصعيد من دولة معروفة تاريخيا بالاعتدال كالأردن سلاحا لتغيير المواقف الدولية للوصول إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة، وإدخال المساعدات.
الشرط الأول لم يتحقق كما يريده الأردن، لكنه تجلى في عمليات هدنة مرتبطة بتبادل أسرى أديرت في قطر، حيث تقيم غالبية أعضاء المكتب السياسي لـ"حماس". أما بالنسبة للمساعدات الإنسانية فقد كان الأردن عراب كسر العناد الإسرائيلي لقبول التنسيق بإنزالات جوية فتحت الباب لسلسلة من الإنزالات العربية والعالمية كانت كلها تتم تحت مظلة أردنية.
التحرك السياسي والعملياتي الأردني، والمدفوع بقرار سياسي على أعلى مستوى بفضح العدوان الإسرائيلي وإدانته إلى حد تغيير ملموس في مواقف دولية عديدة، لم يكن كافيا عند قوى التأزيم الإقليمي ورأس حربتها سياسيو "حماس"، فكانت أحداث الرابية التي خضعت منذ أول الأزمة إلى مختبر التجارب الأردنية التاريخي في مواجهة الأزمات الحساسة التي حاولت "حماس" فيها تأجيج الشارع الأردني معتمدة على "الحركة الإسلامية" وقوى فصائلية متعددة خبيرة في تأجيج الشارع، وذلك لجر الأردن نحو فتنة تضرب "الوحدة الوطنية" من خلال الضرب على عصب "الهوية" في الأردن.
مع الاستفزاز المقصود في الاحتجاجات أمام رجال الأمن الأردنيين في هتافات وصلت إلى حد لا يمكن القول أنه غير مسبوق لكنه خطير في توقيته ومكانه، خصوصا أنه تزامن مع تسريبات صوتية لمجهولين يتحدثون عن تحريض واضح لعمليات اعتداء "بالطعن" تستهدف رجال الأمن الأردنيين، مع هذا الاستفزاز كان رد الفعل الطبيعي حاضرا بحركة "شارع" مضادة تعكس قلق اليمين الأردني التقليدي، من خلال طوفان شعبي مقابل أساسه عشائري وشرق أردني.

معادلة الدولة الأردنية صعبة وشاقة، واقتصادها المنهك بالكاد يحتمل أكلاف "اقتصادية" لتثبيت الأمن والسلم المجتمعي

الدولة بمختبرها التاريخي من التجارب أدركت كرة الثلج قبل تدحرجها، وشرعت ولا تزال بنشر فكرة سيادة القانون وتطبيقه، كفكرة احتواء للأزمة التي حاول التيار الإسلامي "مدعوما بخطابات فصائلية بائدة"، ترويجها لإشعال الشارع.
وفعليا، فالتيار الإسلامي في الأردن - كما في كل العالم - أكبر من حزب عادي يؤمن بالدولة وتداول السلطة في العمل الديمقراطي، فما الحزبية عنده إلا أداة من أدواته العديدة للهيمنة والوصول إلى السلطة وتحقيق برنامجه "الأيديولوجي" الذي لا يخرج عن معالم طريق عرابه الفكري سيد قطب. 

الطلاق المشروع

وتيار "الإخوان المسلمين" العالمي لم يعد جماعات بائسة وفقيرة تعمل تحت الأرض. هو اليوم واحد من أكبر "الأخويات" الأيديولوجية في العالم، ويستحوذ على ثروات هائلة وظفها في خلق وإنتاج أدوات تواصل وهيمنة وتأثير واستقطاب، لا في العالم العربي وحسب، بل في العالم كله، منطلقا من رؤيته الأساسية بأنهم "هم وحدهم" مستخلفون على الأرض باسم الله.

رويترز
من المظاهرات بالقرب من السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية عمان، 30 مارس

وبذكاء المتمرس، كتيار دخل التجاذبات السياسية في كل الدول العربية وبنسب متفاوتة، استطاع التنظيم الإسلامي الذي يرى في نفسه جماعة واحدة، أن يتموضع بمرونة مع كل نظام حكم تخاصم معه أو تصالح. ولم يكن أبدا في يوم من الأيام في حالة تحالف دائم مع أي جهة. 
في الأردن، كان فرع "الجماعة" الأكثر حظا في التموضع السياسي، إذ من الصعب تاريخيا أن تجد حالة طلاق سياسي بين "الدولة الرسمية" والجماعة. وقد ساعدت في ذلك التجاذبات الإقليمية في خمسينيات القرن الماضي والتي حشرت الدولة الأردنية في زاوية "اليمين الرجعي" أمام خطاب "تقدمي ناصري يساري اشتراكي" لا يمكن فهم برنامجه بوضوح إلا من زاوية "الشعبوية" الجارفة. لننتهي اليوم بتحالف مشوّه وغريب بين الإسلاميين وإرث ما كان معروفا بـ"التقدمية اليسارية" والمتمثلة بمنظرين فصائليين مصرين على عدم تجاوز التاريخ لهم، ولا يزالون يحملون ذات المفاهيم العدائية للدولة في الأردن.
لكن حالة الطلاق البائن بين "الدولة الرسمية" و"التيار الإسلامي" اليوم قد تكون مشروعة ووشيكة في سياق تغيير إقليمي واسع يراقبه الأردن بحذر ماشيا حول الجمر كما هو دوما وعلى أطراف الأصابع. وذلك مع طموح بخطوات أكثر ثباتا لإنجاز مشروع إصلاح الدولة ومؤسساتها، وهو مشروع تقول مصادر في العاصمة الأردنية عمان أنه وشيك وسيبدأ بتغييرات مؤسسية بعد عيد الفطر.
معادلة الدولة الأردنية صعبة وشاقة، واقتصادها المنهك بالكاد يحتمل أكلاف "اقتصادية" لتثبيت الأمن والسلم المجتمعي. وهذا اليوم السابع، يوم الجمعة من كل أسبوع صار كابوسا إضافيا خلال شهر رمضان مع تلك المظاهرات التي تحاول الدولة احتواءها بالقانون وتحاول قوى التأزيم الإقليمي إشعالها بالفتنة.

font change

مقالات ذات صلة