لبنان... عائلات على حافة الانهيار والمغترب صراف آلي

يحولون 7 مليارات دولار سنويا

Reuters
Reuters
مواطنون لبنانيون يحتجون أمام المصارف في شارع الحمرا، بيروت، لبنان في 8 مارس 2024

لبنان... عائلات على حافة الانهيار والمغترب صراف آلي

بيروت: يعاني لبنان من أزمات عدة، آخرها الحرب الإسرائيلية على الجنوب، لكنه لطالما عانى ليس فقط من توترات أمنية، بل من مشكلات اقتصادية، بلغت حدّها الأقصى في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، ولا تزال مستمرة إلى اليوم، عندما بدأ عهد ما يسمى الانهيار، الذي شهد تدهور قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، وأدّى هذا الانهيار إلى فقدان اللبنانيين قيمة أموالهم، وبالتالي فقدانهم إمكان الوصول إلى الخدمات الأساسية من تعليم وطبابة وماء وكهرباء وغيرها.

ولكن قبل ذلك كله، كان لبنان، ومنذ زمن بعيد، يصدّر شبابه إلى العالم، بحثا عن فرص عمل، وحياة أفضل، وقد مرّ بثلاث موجات هجرة كبرى؛ الأولى خلال فترة الحرب العالمية الأولى وما قبلها، والثانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، والأخيرة هي خلال الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019، ولا تزال مستمرة.

جعلت موجات الهجرة هذه الجالية اللبنانية في الخارج كبيرة جدا، وممتدة في مختلف أنحاء العالم، ومع تفاقم أزمات لبنان على مر السنين، أصبحت التحويلات المالية من المغتربين في الخارج أمرا روتينيا وبديهيا يشكل جزءا كبيرا من الاقتصاد اللبناني، ولهذه التحويلات طبعا فائدة كبيرة على العائلات اللبنانية، إذ تزيد قدرتها الشرائية، خاصة في ظل الأزمات والحروب، ولكن لها انعكاسات سلبية تتفادى السلطة السياسية ووسائل الإعلام مناقشتها بجدّية، وتتجلى هذه الانعكاسات على الاقتصاد، أو على نمط الاستهلاك، كما على المغتربين أنفسهم، إذ تحولوا إلى صراف آلي، وحوالات مالية، ليس فقط بالنسبة إلى عائلاتهم، بل بالنسبة إلى النخبة السياسية والإعلامية، التي لطالما تغنّت بهم وبأموالهم، حتى أصبح عبء إنقاذ البلاد من الانهيار يقع على عاتقهم وحدهم، دون السؤال عن حالهم، والأضرار الجانبية التي تنتج من هذه التحويلات على حياتهم ومستقبلهم.

أصبح عبء إنقاذ البلاد من الانهيار يقع على عاتق المغتربين وحدهم، دون السؤال عن نتائج ذلك على حياتهم ومستقبلهم

تحدّثت "المجلة" إلى مجموعة من المغتربين في دول مختلفة، عن تجربتهم في إرسال الأموال إلى عائلاتهم بصورة مستدامة، ليس فقط إلى الأهل، بل إلى العائلة الكبيرة أيضا، وما إذا كانوا يشعرون بالاستغلال، أو الضغط النفسي، وما الآثار الجانبية الناتجة من عملية إرسال الأموال إلى ذويهم، وكيف يدّخرون، وكيف تتغير أنماط حياتهم. جميع الأسماء الواردة هنا مستعارة، لحساسية الموضوع.

منظومة اتكالية

بلال-كندا: "أرسل شهريا زهاء 600 دولار أميركي الى أهلي، وهذا ينطبق على بقية أخوتي، فيصل ما نرسله مجتمعين إلى 1800دولار، وطبعا هذا المبلغ لا ينفقه والداي وحدهما، بل يُنفق جزء منه على احتياجات العائلة الممتدة أيضا. فقبل بضع سنوات، كنت أرسل الأموال إلى خالاتي وعماتي وجدتي، ليصل إجمالي ما أرسله أحيانا إلى ألفي دولار شهريا، لكنني اضطررت إلى إيقاف ذلك، بسبب الضغوط المعيشية.

لكننا أحيانا نضطر إلى التعامل مع المفاجآت، كمصاريف مستشفى أو دفن، وأشياء أخرى، خاصة تكلفة الألواح الشمسية التي تلجأ إليها عائلات كثيرة بسبب انقطاع الكهرباء الدائم، والتي أصبحت على عاتق المغتربين أيضا، هذه كلها من المصاريف الاستثنائية، غير تلك الشهرية الثابتة التي علينا تغطيتها.

Reuters
ألواح طاقة شمسية على سطح أحد المباني، محافظة البقاع، رياق، لبنان

الآن نرسل مبلغا أقل من السابق، لأن التضخم زاد 30% هنا في كندا، فأصبحت الحياة صعبة هنا أيضا.

أرى أن كبار السن، الذين أصبحوا خارج سوق العمل أو تدهورت قيمة رواتبهم، أو الأقارب الذين لا معيل لهم، تجب مساعدتهم، لكن المشكلة تكمن في المشاركة أيضا، فليس جميع المقيمين في الخارج يدفعون، فتجد نفسك تحمل هذه المسؤولية بمفردك، أما المشكلة الكبرى، فهم جيل الشباب في لبنان، الذين تخرجوا من الجامعة ولا يعملون، وأنت تدفع تكلفة معيشتهم.

فالشباب الذين لا يعملون، وينتظرون الأموال من الخارج، ويعيشون بطريقة عادية جدا في لبنان، يولدون نظاما اتكاليا، يشجع هؤلاء الشباب على عدم العمل، أو القيام بأي شيء".

ليس بلال وحده من اضطر إلى تسديد تكلفة تركيب ألواح الطاقة الشمسية لعائلته في لبنان، لتأمين الكهرباء لهم، فهذا خيار لجأ إليه الكثير من العائلات، مع بدء الازمة الاقتصادية عام 2019، إذ انهار قطاع الطاقة في لبنان بصورة سريعة، وهو كان أصلا يعاني من مشكلات منذ تسعينات القرن الماضي، بالاضافة إلى انقطاع مادة المازوت لفترات طويلة عن البلد، مما جعله يدخل في عتمة هائلة، لم تنقذه منها سوى ألواح الطاقة الشمسية التي مولها في غالبيتها المغتربون اللبنانيون، ليتحول كل مغترب لبناني، إلى وزير طاقة لعائلته في لبنان.

ظروف قاهرة

ريما- فرنسا: "لم أكن أعمل قبل الأزمة، وكان وضعنا المادي جيدا إذ كانت أمي تعمل معلمة في مدرسة حكومية، لكنني بدأت بالعمل خلال الأزمة، وبقيت في فرنسا بسبب الأزمة أيضا، ولا تزعجني مسألة إعالة والديّ  وتوفير أدويتهما، فهذا واجبي، وهما لا يطالبانني بشيء.

أما في خصوص الآخرين، فلديّ أختي وابنة أختي، ولا يزعجني أيضا أني أؤمن لهما بعض الحاجيات، وقسط المدرسة الخاصة، على الرغم من أن أختي تعمل، ولكن نعم، ربما هناك بعض الاتكال عليّ، ولكن في الوقت نفسه، الفرص قليلة في لبنان، والرواتب متدنية جدا. لذلك لا أشعر بالاستغلال من قبل عائلتي الصغيرة، ولكن ربما شعرت في بعض الأحيان بالتراخي، أو بارتفاع المصروف إلى حدود يصبح معها عبئا عليّ. أما بالنسبة إلى عائلتي الكبرى، فأساعد بحسب إمكاناتي عندما أكون مرتاحة ماديا، من دون أي التزام شهري.

وجد الكثير من المغتربين أنفسهم مسؤولين عن عائلة بأكملها وصار لزاما عليهم تأمين المصاريف اليومية وأقساط المدارس والدواء

لكن المشكلة التي تتسبّب لي بها التزاماتي الشهرية هي أنني لا أستطيع التقدّم في عملي، فأضطر إلى قبول العمل الذي أحصل من خلاله على المبلغ الأكبر، وليس العمل الذي يفيد مستقبلي المهني، وهو ما يجعل خياراتي محدودة".

ريما ليست استثناء، فالكثير من المغتربين وجدوا أنفسهم مسؤولين عن عائلة بأكملها فجأة، وصار لزاما عليهم تأمين المصاريف اليومية، وأقساط المدارس، والدواء، وهو عبء اقتصادي هائل، يلقى على عاتق شخص واحد يجد فجأة أن لديه أولادا، من دون أن يقرر الإنجاب أو الزواج حتى.

 شعور بالذنب

لميا-سنغافورة: "الاغتراب والأزمة الاقتصادية شكلا لي أزمة، خاصة مسألة الشعور بالذنب، بحيث اعتبرت اني أمنت مستقبلي وحياتي في حين أن أهلي ظلوا في لبنان، وهذا الأمر أدّى إلى أن لا أرفض لهم طلبا، وأن أرسل لهم الكثير من المال، بحيث أني عندما تفقدت مدخراتي، تبيّن  لي أني أرسلت نحو 150 ألف دولار، خلال 4 سنوات، وهذا رقم هائل جدا.

ما زلت أرسل النقود، لكني وضعت حدودا لهذا الأمر وسقفا ماليا لا أتخطاه، لا يمكنني الاستمرار هكذا، فلدي حياة خاصة وطموحات، خاصة أن مساعدتي لأخي كانت مضرة له، فهو شاب وفي عز حياته العملية، وهذا النوع من المساعدة يشجع على الاتكالية والكسل، وهذا فعلا ما حدث، بحيث أصبح اتكاليا بصورة لا تطاق، ولم أعد أجد طريقة للخروج من دوامة الاستغلال والاستعطاف هذه.

Reuters
مودعون ينفذون احتجاجا أمام المصارف في شارع الحمرا للمطالبة بالافراج عن ودائعهم، 8 مارس 2024

 الآن، بعد 4 سنوات، أصبحت مدركة لهذا الأمر، أحيانا العاطفة العائلية تجعلك تقوم بأمور غريبة جدا، تضر بك شخصيا، لكنك تكون في حالة نفسية يرثى لها، ولا تستطيع إيقاف الأمر".

لا تنحصر مسألة الاستغلال المادي والعاطفي ضمن العائلة الواحدة، بحالة المغتربين فقط، لكنهم من أكثر الأشخاص المعرّضين لهذا الاستغلال، بما أنهم "محظوظون" كما يقال عنهم، ووضعهم المادي أفضل نسبيا، مما يشكل لديهم شعورا بالذنب من جهة، وخوفا حقيقيا على عائلتهم من جهة أخرى، وهذا ما يجعلهم يضحون من أجل العائلة، على حساب مصلحتهم الخاصة.

صحيح أن الديناميكية تختلف من عائلة إلى أخرى، سواء في مسألة الاستغلال أو طلب المساعدة أو عدم طلبها من الأساس، وهنا تكمن الاختلافات بين نوعيات المساعدة الاجتماعية التي يقدمها المغتربون، فمنهم من يقدم مساعدات أساسية كالصحة والتعليم والأكل والكهرباء، وهنا تكمن أهمية هذه المساعدات، ومنهم من يقدم مساعدات مالية لمجرد المصروف والتسلية، خاصة للشباب العاطلين عن العمل، وهذه النوع من المساعدات يولد الاتكالية، ويخلق حالات الاستغلال.

تغيير نمط الحياة

ميريام- دبي: "كانت المساعدة قبل الإنهيار عبارة عن هدية تقدّمها الى أهلك الذين ما كانوا يطلبونها أساسا، لكنها نوع من المبادرة اللطيفة، بعد الأزمة لا يزال أهلي لا يطالبونني بشيء، لكنني أعرف واقع الحال، وأرى مثل غيري كيف تدهورت قيمة الرواتب ومعها تدهور مستوى معيشة أهلي، فأصبحت المساهمة في مصاريف البيت والتأمين الصحي، وكل مستلزمات حياتهم اليومية، أمرا تلقائيا.

 هذه المساعدة تتطلب من الشخص تغيير نمط حياته في الخارج، لكي يتمكن من تسديد هذا المبلغ الشهري لأنه يجد نفسه مسؤولا عن منزلين، وهذا يفرض عليه عبئا كبيرا.

بالنسبة إلى عائلتي الممتدة، ومع الضغوط الاقتصادية المستجدة، وخاصة الأشخاص الذي كان وضعهم الاقتصادي متوسطا أو ضيقا، فإنني أساعد الشباب منهم،  خاصة في ما يتعلق بالتعليم أو الاستشفاء. لست مضطرة إلى ذلك، لكنني لا أستطيع التخلّي عنهم. في النهاية لديّ بعض الأفضلية المادية التي تمكنني من مساندتهم".

AFP
زبائن في محل لتصليح الأحذية في مدينة صيدا الساحلية في 11 يوليو 2023، فقد ازدهرت مهنة تصليح الأحذية في السنوات الأخيرة مع مرور لبنان بأزمة اقتصادية خانقة

يلاحظ أن العبء على المغتربين أصبح أكبر بكثير بعد الانهيار، وهو ما يبدو واضحا من خلال زيادة قيمة التحويلات من الخارج خلال السنوات الأربع الماضية، كما زادت الهجرة أو العمل عن بعد، بسبب نقص فرص العمل في لبنان، والحاجة الماسة إلى الدولار في السوق اللبناني، هذه الحاجة جعلت اللبنانيين، خاصة الشباب، يبحثون عن فرص عمل في الخارج لإعالة عائلاتهم، وجعلتهم يقبلون بأي عرض، فتدنت قيمة الرواتب التي يتقاضاها المهاجرون الجدد، وهذا يضع عليهم ضغطا إضافيا، كونهم هاجروا في المقام الأول لتحسين ظروفهم وظروف عائلاتهم.

الجيد والسيئ

رامي-دبي: "ماذا نشعر؟ أحاسيس مختلفة، الشعور الجيد هو أننا نستطيع مساعدة أهلنا، أما الشعور السيئ فهو أن المسؤولية لن تنتهي أبدا، والقلق من أن ما نرسله ليس كافيا، فالاحتياجات في لبنان تتزايد يوميا مع تناقص خدمات الدولة. لكنني في الوقت نفسه لا أستطيع التوقف عن إرسال الأموال، لأنه لا يوجد مصدر آخر لإعالة عائلتي، وما تغير بعد الأزمة أن الأموال التي أرسلها لم تعد تكفي، بسبب التضخم، والتضخم ليس محصورا بلبنان، بل نراه هنا في دبي، وفي بلدان أخرى، وما نرسله الى أهلنا يكاد يعادل ما يتبقى لنا لنعيش به بعد دفع الفواتير".

ثلاثية الدولة-العائلة-المغترب، يبدو أنها تفتقر إلى التوازن، فعبء تجنّب السقوط التام، بات يقع على المغترب وحده

حال رامي لا تختلف عن الكثير من المغتربين الذين يشعرون بضيق مادي، بسبب مساعدتهم أهلهم في لبنان، وهو ما يصعّب عليهم التقدم والتطور، كما يعقّد إمكان تأسيسهم عائلاتهم الخاصة، ذلك أن كل أزمة في لبنان، تصبح أزمة في دبي ومونتريال وباريس ونيويورك وغيرها بالنسبة إلى اللبنانيين المقيمين هناك.

تنميط اقتصادي

لطالما تعرض المغترب اللبناني للتنميط الاقتصادي، عبر وضعه طبقيا في مرتبة أعلى مما هو عليها، أو عبر توقع ذلك منه، أن يكون مرتاح الحال ماديا، لتُفرض عليه مساعدة عائلته أو أقربائه وحتى قريته، وانتشرت في هذا السياق الكثير من النكات ومقاطع الفيديو الساخرة على مواقع التواصل الاجتماعي، التي تعكس هذه الفكرة النمطية، فنشاهد مقاطع تصور مثلا قيام المغترب اللبناني بقطف الدولارات عن الشجرة، في سخرية تعكس الصورة النمطية المتكوّنة عند الآخرين عنه.

ولا ريب في أن كل ما سبق من مشكلات، يتحمل مسؤولياتها اولا وأخيرا النظام اللبناني السياسي والاقتصادي، خاصة النظام الريعي الذي تأسّس خلال الحرب الأهلية وبعدها (1975-1990).

AFP
مواطنون يصطفون لسحب النقود أمام صراف آلي في العاصمة اللبنانية بيروت

فليست علاقة المغترب بعائلته هي العلاقة النفعية الوحيدة، بل حتى علاقته ببلده وبالدولة اللبنانية، هي علاقة نفعية أيضا، علاقة حب من طرف واحد، فقبل الانهيار تم جذبهم أو خداعهم لوضع أموالهم في المصارف اللبنانية، عبر تقديم فوائد مرتفعة جدا، وقد تبخرت أموالهم مثل باقي اللبنانيين في الأزمة، أما بعد عام 2019، فقد صاروا يحلّون مكان الدولة، من خلال تأمين التعليم والطبابة والكهرباء، لعائلاتهم، كما طلبت منهم مساعدة الدولة خلال أزمة كوفيد19، ومساعدة الدولة في اعادة بناء القطاع السياحي، عبر إعلانات من وزارة السياحة تدعوهم الى زيارة لبنان، فحتى الدولة تبتز مواطنيها في الخارج عاطفيا، وعندما يأتون بالفعل ترتفع الأسعار، وتتجدّد الحلقة المفرغة من الاستغلال.

ثلاثية الدولة-العائلة-المغترب، يبدو أنها تفتقر إلى التوازن، فعبء تجنّب السقوط التام، بات يقع على المغترب وحده، وهذا ما توفره الـ 7 مليارات دولار سنويا، وهي قيمة تحويلات المغتربين من الخارج، التي تساهم في إبقاء البلد واقفا على حافة الانهيار، ولكن لا أحد يعرف إلى متى سيظل هذا الوضع قائما وفق هذه الشروط المجحفة.

font change

مقالات ذات صلة