العقل في الشعر العربي

Lina Jaradat
Lina Jaradat

العقل في الشعر العربي

شاعت مفردة العقل كثيرا في الشعر خلال العصرين العباسيين الأول والثاني. ولم يكن ذلك في معزل عن جهود الفلاسفة وعلماء الكلام والبلاغيين والنحويين وغيرهم. وقد برزت هذه الجهود في خضم الصراع أو الجدال بين ثقافتين: ثقافة العقل وثقاقة النقل. وكانت لهذا الصراع أسباب ودوافع كثيرة، جعلت الخائضين فيه يسعون إلى إيجاد مفهوم للعقل، يوضح علاقته بالغيبيات من ناحية، وبالأمور الدنيوية من ناحية ثانية. ونحن، في هذه المقالة، لن نتناول تلك الأسباب والدوافع ولا المفاهيم العقلية التي نتجت منها، وإنما سنحاول استقصاء "العقل" في شعر المرحلة العباسية، وكذلك في الشعر ما قبل تلك المرحلة وما بعدها.

قبل الإسلام

الشعر قبل الإسلام لم ينطو على مفهوم محدد أو واضح للعقل، وإن كان بعض الشعراء في ذلك العصر يتميزون بالتعقل، ويدعون إليه. و"التعقل" هنا إنما يعني حلّ الخلافات، وعدم الانجراف وراء النزوات، وتمجيد القيم التي تميّزت بها الروح القبلية العربية، كالشرف والكرم والوفاء والشجاعة... إلخ. وهذا ما نجده على سبيل المثل في معلّقتي زهير بن أبي سلمى والحارث بن حلّزة. والقصيدة الشهيرة المنسوبة إلى السموأل تقدم نموذجا للتعقل واحترام النفس والشعور بالمسؤولية، ومنها:

إذا المرءُ لم يدنس من اللؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميلُ

وإنْ هو لم يحمل على النفس ضيْمَها

فليس إلى حسن الثناء سبيلُ

تعيّرنا أنّا قليلٌ عديدُنا

فقلتُ لها إنّ الكرام قليلُ

مع ظهور الدعوة الإسلامية صار الشاعر مدعوّا إلى التفكير في الحياة بدلا من الإقبال عليها دون تفكير

الشاعر في ذلك العصر عبّر عن إقبال على الحياة، كان طاغيا على تفكيره فيها. ومع ظهور الدعوة الإسلامية، صار الشاعر مدعوّا إلى التفكير في الحياة بدلا من الإقبال عليها دون تفكير، خصوصا أن القرآن ألح على ذلك، إذْ دعا الناس إلى أن "يعقلوا". فعبارة "أفلا تعقلون" وردت كثيرا في السور القرآنية.

في المراحل الإسلامية

 تراجع الشعر، كما هو معروف، في المراحل الإسلامية الأولى. ربما لأن الشاعر صار مدعوّا إلى التزام تحديدات وقيم مستجدّة. وانكفأ الشاعر إلى ذاته، أو بالأحرى إلى همومه الشخصية. فبرز شعر الحب، أو الغزل. وصار الحب (لدى الشعراء العذريين على وجه الخصوص) مقترنا بذهاب العقل، وصولا أحيانا إلى الجنون. وقد عبّر جميل بثينة عن قوة الحب واستحالة التواصل بين الحبيبين في قوله:

ولو تركتْ عقلي معي ما طلبتُها      

ولكنْ طِلابيها لِما فات من عقلي

مع بدايات المرحلة العباسية، أخذ العقل يحتل في الشعر حيّزا لم يكن له من قبل. وذلك في ارتباط، كما أشرنا سابقا، مع البحث عن مفهوم للعقل، خاضه علماء الكلام والفلاسفة وآخَرون. في تزامن مع محاولات للتحديد ووضع القواعد والمقاييس في جميع المجالات، من قِبل الفقهاء واللغويين ونقّاد الشعر... وغيرهم. وكان الشعراء في طليعة العقلانيين الذين قاوموا ضد ثقافة "النقل"، ودعوا إلى ثقافة مغايرة هي ثقافة العقل والبحث وطرح الأسئلة ومجادلة السائد والموروث. وقد ظهرت بوادر هذه العقلانية منذ بدايات العصر العباسي الأول أو بالأحرى منذ بدايات "الحداثة" العباسية في الشعر وفي غيره. يقول بشار بن برد:

شفاءُ العمى طولُ السؤال وإنما      

دوامُ العمى طولُ السكوت على الجهلِ

فكنْ سائلا عمّا عناك فإنما       

دُعيتَ أخا عقل لتبحث بالعقلِ

هذه الدعوة إلى البحث وطول السؤال وإعمال العقل، مشى في ركابها شعراء آخَرون واجهوا البلادة والتقليد والعادة. ودأبوا على تجديد المفاهيم المتعلقة بالخير والشر والعقل والأهواء والشهوات... وما إلى ذلك. يقول أبو العتاهية:

الخير والشرّ عادات وأهواءُ      

وقد يكون من الأحباب أعداءُ

ويذهب أبو العتاهية بعيدا في كلامه على الشك واليقين، ليخلص إلى القول إن اليقين (وهو عند العرب من أسماء الموت) لا مكان له إزاء العقل، الذي ينبغي أن يقاوم الشهوات. يقول:

كأنّ يقيننا بالموت شكُّ     

وما عقلٌ على الشهوات يزكو

نرى الشهوات غالبة علينا    

وعند المتّقين لهنَّ ترْكُ

لهوْنا والحوادث واثباتٌ        

لهنَّ بما قصدْنَ إليه فتْكُ

تلقّف أبو تمام هذا الاتجاه العقلاني، لكي يتبناه في مواجهة التقليد والركون إلى العادة. وقد برز ذلك لديه في مجابهته للنظرية النقدية "عمود الشعر" التي ساهم في وضعها نقاد وبلاغيون عديدون، ورموا من خلالها إلى تقييد الشعر، وتاليا إلى تحديد آفاقه. 

كان الشعراء في طليعة العقلانيين الذين قاوموا ثقافة "النقل"، ودعوا إلى ثقافة مغايرة

لقد عُدّ أبو تمام خارجا على عمود الشعر بطريقته الفريدة في ابتكار الصوَر وفي استعمال أساليب البيان على نحو بدا ابتعادا كبيرا عن السائد والمألوف. لقد كان أبو تمام في النصف الأول من القرن الرابع الهجري محورا لمعركة نقدية بين مؤيدين وخصوم له. وذلك لأنه هزّ التقاليد هزّا عنيفا. وهو الذي تهكم على المعتقدات البالية وعلى الشعوذات الشائعة، وخصوصا في قصيدته الشهيرة "فتح عمورية" التي يبدأ فيها بالسخرية من المنجمين وكتبهم، وذلك في الشطر الأول من القصيدة : "السيف أصدقُ إنباء من الكتبِ".

مع المتنبي، صار العقل محورا من محاور التفكير في معنى الوجود، وكذلك في ما يترتب على هذا الوجود من سعادة أو شقاء، وهذا واضح في قوله:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله      

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ

لقد تعالى المتنبي عن الخوض في مشكلات عقائدية أو مذهبية. وهذا الخوض هو ما سيفعله المعرّي. لم يشأ المتنبي أن يخوض في ما بين العقل والنقل من تباينات أو تقاطعات، فمعركته - كما تصوّرها - أكبر من ذلك. هي معركة حيال الزمن أو الدهر. و"العاقل" أو "الفطِن" هو الذي يرميه الزمن أو يصيبه، بل أصحاب الفِطنة هم أغراض لدى الزمن:

أفاضلُ الناس أغراضٌ لدى الزمنِ     

يخلو من الهمّ أخلاهمْ من الفِطَنِ

ولكنّ ما سبق لا يتعارض مع  تمجيد المتنبي للعقل واعتباره فضيلة الفضائل والطريق إلى إثبات التفوّق، التفوّق الذي يمكننا عدُّه عنوانا لمشروع المتنبي في الشعر، وربما في غيره.

العقلانية الكبرى في تاريخنا الشعري يمثلها - في نظري - أبو العلاء المعري. فهو لم يترك مسألة من المسائل الفلسفية والدينية والمذهبية إلا تصدى لها في شعره، وخصوصا في لزومياته، التي أرادها مجالا لمناقشة قضايا الحياة والموت والنبوة والإيمان والتديّن والصلاح والفساد... إلخ. وكل ذلك من خلال الاستماع والاحتكام إلى العقل. يقول مخاطبا كلّ فرد من أفراد المجتمع:

أيها الغِرُّ قد خُصِصْتَ بعقلٍ    

فاسْألنْهُ فكلُّ عقلٍ نبيُّ

أو يقول معرّضا بالأئمة من الخطباء الواعظين، وبالناس الذين يُقبلون على الإصغاء إليهم:

يرتجي الناسُ أن يقوم إمامٌ        

ناطقٌ في الكتيبة الخرساءِ

كذبَ الظنُّ لا إمامَ سوى العقلِ 

مشيرا في صبْحه والمساءِ

لقد دعا المعري إلى ثقافة العقل، مواجها أو مجادلا حرّاس ثقافة النقل، التي وجدها متمثّلة بالتديّن (الأعمى).

إثنانِ أهلُ الأرض ذو عقلٍ بلا       

دينٍ وآخَرُ ديّنٌ لا عقلَ لَهْ

ثقافة العقل التي يدعو إليها المعري تنطلق من التفكير والظن والحدس... وانعدام اليقين أو التيقّن:

 أمّا اليقينُ فلا يقينَ وإنما        

أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا

ولهذا، أفصح المعري عن شكه في جميع الفلسفات والأديان، رابطا بين التعصب الديني والفساد الذي ترامى إليه الناس:

قد ترامتْ إلى الفساد البرايا      

واستوتْ في الضلالة الأديانُ

أنا أعمى فكيف أهدي إلى المنهج 

والناسُ كلّهمْ عميانُ

ويذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول إن البشر جُبلوا على الفساد، فهم فاسدون في الأصل، أو بالأحرى خُلقوا فاسدين:

وجِبِلّةُ الناس الفسادُ فضلَّ من      

يسمو بحكمته إلى تهذيبِها

مع المتنبي، صار العقل محورا من محاور التفكير في معنى الوجود، وكذلك في ما يترتب على هذا الوجود من سعادة أو شقاء

بعد هذا كله، يحلو للمعري أن ينعت المتمذهبين على أنواعهم بالبلهاء، في هذا البيت الذي ينطوي على عنصري التهكم والمفاجأة:

 إذا سألوا عن مذهبي فهْو بيّنٌ     

وهل أنا إلا مثل غيريَ  أبْلَهُ

 

في الحداثة المعاصرة

العقلانية التي مثّلها بعض الشعراء العباسيين تردّدت أصداؤها لدى شعراء الحداثة العربية المعاصرة ممتزجة بتأثيرات غربية. تردّدت هذه الأصداء في كتابات هؤلاء الشعراء وفي آرائهم ومواقفهم. فالشاعر العربي في منتصف القرن العشرين، أي مع انطلاقة الحركة الشعرية الحديثة، شعرَ بأنه مقبِل على مرحلة من التغيير في جميع المستويات، ليس في الأدب وحده، وإنما في المجتمع أيضا. لقد شعر بأنه إذْ يحمل لواء التجديد في الشعر، إنما هو يحمل رسالة في تغيير العقليات السائدة، وتاليا في تغيير البنى الاجتماعية التي أفضت إلى نوع من الجمود أو الركود. وربما يكون أدونيس، من بين الأوائل في تلك الحركة، أكثرهم وضوحا في تعبيره عن هذا الاتجاه، وخصوصا في كتاباته النظرية والنقدية. كذلك ركّز في كتاباته الشعرية على الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الشاعر. وتركيزه على هذا الدور يشكل محورا أساسيا في ما كتبه من شعر. يقول في إحدى قصائده: "أنا ساعة الهتْك العظيم أتتْ وخلخلة العقول".

هل أفلح هذا الاتجاه في إحداث التغيير الذي تمناه شعراء "الحداثة" العرب؟ هل استطاع أن يحقق شيئا مما رمى إليه؟ أم وصلت الحداثة العربية المعاصرة، في الشعر وفي غيره إلى المأزق الذي يتحدث عنه الكثيرون؟ هل انطلقت هذه الحداثة من عقلية أو عقليات جديدة حقا؟ كلّها أسئلة يمكن طرحها الآن، بل ينبغي طرحها في حاضرنا الذي يعاني من مختلف المشاكل والمآسي والتعقيدات.

font change

مقالات ذات صلة