ثلاثون عاما على مجازر رواندا... الإبادة الجماعية ما زالت قضية بلا حل

عمليات القتل الجماعي بلغت أعلى مستوياتها منذ عقدين

أ ف ب
أ ف ب
نساء روانديات يحملن الشموع أثناء المشاركة في إحياء الذكرى الثلاثين للإبادة في كيغالي في 7 ابريل

ثلاثون عاما على مجازر رواندا... الإبادة الجماعية ما زالت قضية بلا حل

بدأت عمليات القتل في 7 أبريل/نيسان 1994، عندما باشر أفراد الحرس الرئاسي باغتيال زعماء المعارضة والمعتدلين في الحكومة. وما هي إلا أسابيع قليلة حتى جرت إبادة جماعية لأقلية التوتسي في رواندا. وكانت هذه العملية من بين أسرع عمليات القتل الجماعي في التاريخ، فقبل انقضاء 100 يوم، قُتل ثلاثة أرباع السكان التوتسي في رواندا، وهم نحو 500 ألف شخص، معظمهم لم يقتل على يد الجيش، بل على أيدي أفراد عاديين من قبيلة الهوتو، التي تشكل الأغلبية في البلاد. ووصف الصحافي الأميركي فيليب غوريفيتش هذه الحالة قائلا: "قام الجيران بضرب جيرانهم حتى الموت، وقتل الأطباء مرضاهم، وأجهز المعلمون على تلاميذهم".

ولم تقم قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في رواندا، والتي يبلغ قوامها نحو 2500 جندي، بأي إجراء تقريبا. وكانت أغات يولينجيمانا، رئيسة الوزراء المعتدلة المنحدرة من قبيلة الهوتو، من بين أوائل من لقوا حتفهم. وكان يحرسها 15 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، لكنهم استسلموا. واتصل لاندو نداسينغوا، الزعيم من إثنية التوتسي للحزب الليبرالي، بقوات حفظ السلام، قائلا إن الجنود يستعدون لمهاجمة منزله، فوعده أحد الضباط بإرسال مفرزة، لكنه كان لا يزال على الهاتف معه عندما سمع إطلاق النار، فقال لاندو له: "فات الأوان".

وقف العالم متفرجا. وكان الجنرال الكندي روميو دالير، قائد قوات حفظ السلام، قد تلقى مسبقا تحذيرا يتعلق بمخطط الإبادة. وفي برقية أرسلها إلى كوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس قوات حفظ السلام آنذاك، أبلغه بأنه خطط لمداهمة مخابئ الأسلحة واستباق الإبادة الجماعية. لكن أنان رفض إعطاء الإذن وأمره بعدم القيام بأي إجراء "يمكن أن يؤدي إلى استخدام القوة". وبعد مرور ثلاثة أسابيع من بدء الإبادة الجماعية، صوت مجلس الأمن على سحب جميع قوات حفظ السلام، باستثناء نحو 270 جنديا. وكتب الجنرال في وقت لاحق: "هذه الهيئة العالمية ساعدت وحرضت على الإبادة الجماعية".

استمرار الكابوس

وبعد مرور ثلاثين عاما، لا تزال الإبادة الجماعية في رواندا تُذكر باعتبارها واحدة من حدثين جريا في التسعينات ودفعا العالم المثقل بالذنب إلى التعهد بعدم الوقوف مكتوف الأيدي والسماح بارتكاب مجازر جماعية مرة أخرى. أما الحدث الآخر فكان المذبحة التي ارتكبها صرب البوسنة ضد الآلاف من الرجال والفتيان المسلمين في سربرينيتسا في العام التالي. وفي عام 2005، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع مبدأ يقضي بأن تتحمل جميع البلدان "مسؤولية حماية" الشعوب من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، وذلك باللجوء إلى القوة إذا لزم الأمر. كان الحلم هو أن تؤدي أهوال رواندا إلى نشوء عالم يخضع لرقابة جيدة.

لكن، بدلا من ذلك استمر الكابوس. فمن إثيوبيا وميانمار إلى السودان وسوريا واليمن وأماكن أخرى، وقفت القوى العالمية مكتوفة الأيدي تقريبا بينما تعرض ملايين الناس للضرب والقصف بالغاز والتجويع. وعلى نحو مماثل، أدى الصراع في غزة إلى دفع التوترات بين المبادئ والجغرافيا السياسية إلى الذروة، مع انتشارالادعاءات والردود بشأن الجرائم التي ترتكبها "حماس" وشرعية الحملة العسكرية الإسرائيلية المدمرة المستمرة منذ ستة أشهر في وسائل الإعلام والقنوات الدبلوماسية والمحاكم الدولية.

من إثيوبيا وميانمار إلى السودان وسوريا واليمن وأماكن أخرى، وقفت القوى العالمية مكتوفة الأيدي تقريبا، فيما يتعرض ملايين الناس للضرب والقصف بالغاز والتجويع

ولفهم كيف انهارت الجهود العالمية لمنع القتل الجماعي، وما إذا كان من الممكن إحياؤها، من المفيد البدء برواندا، التي عززت قضية المدافعين عن حقوق الإنسان على مستوى العالم. بعد ذلك، يمكننا دراسة عودة السياسة الواقعية الساخرة.
كانت بداية التسعينات سنوات مليئة بالأمل، حيث أتاحت نهاية الحرب الباردة ازدهار الديمقراطية في أوروبا الشرقية وأفريقيا، وأدت حرب الخليج الأولى إلى طرد جيش صدام حسين من الكويت، وكان ذلك بمثابة إشارة إلى أن حروب التوسع لن يجري التسامح معها أبدا. كما قامت القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة بإرسال قواتها إلى الصومال الذي كان يعاني من المجاعة، لحراسة البعثة الإنسانية التي كانت تتعرض لهجمات من قبل أمراء الحرب، مما يدل على أن اهتمامها لم يكن مقتصرا على النفط بل كانت تهتم أيضا برفاه الجائعين. وبدا في حينه أن انتشار الديمقراطية الليبرالية لا يمكن إيقافه.

أ ف ب
رئيس رواندا بول كاغامي يضيء شعلة ذكرى المجزرة في نصب الإبادة في العاصمة كيغالي في 7 ابريل

ولكن، كان للواقع رأي آخر. فقبل ستة أشهر من وقوع الإبادة الجماعية في رواندا، انسحبت أميركا من الصومال بعد مقتل 18 من أفراد قواتها الخاصة في العاصمة مقديشو. وألقت المعركة بظلالها الكثيفة: حيث صدرت تعليمات لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في البوسنة بعدم الرد بقوة عند إطلاق النار، خشية "عبور خط مقديشو" والتورط في القتال. وانقلب بِيل كلينتون، رئيس أميركا، ضد عمليات حفظ السلام ما لم تضمن المصالح الوطنية الأميركية.
لكن رواندا لم تتماش مع هذا الأمر. وحذر محامو وزارة الخارجية المسؤولين من وصف الجرائم هناك بالإبادة الجماعية، خشية أن يجبر ذلك الحكومة "على اتخاذ إجراءات ما". وحذر سفير بريطانيا لدى الأمم المتحدة من تقديم "وعد بما لا يمكن الوفاء به" في ما يتعلق بحماية المدنيين.
ومع ذلك، بعد أن أصبحت جرائم الإبادة الجماعية واضحة بشكل كبير، أثارت هذه الحسابات القاسية الناخبين والنخب السياسية في الغرب. تروي سامانثا باور، الصحافية السابقة التي ترأس الآن وكالة المعونة الأميركية، في مذكراتها أن الرئيس جورج دبليو بوش كتب عبارة "ليس في ولايتي" على مذكرة تلخص مقالا كتبته عن فشل أميركا في التدخل في رواندا. ويقول ريتشارد جوان، المراقب الأممي المتمرس في نيويورك في مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، وهي مؤسسة فكرية: "كان هناك جيل من السياسيين مثل توني بلير وديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي في فرنسا، الذين رأوا إخفاقات أسلافهم، والتي شكلت استجاباتهم للأزمات اللاحقة". ففي عام 2000، أرسل بلير، رئيس الوزراء البريطاني، قوات إلى سيراليون، لوقف المتمردين الذين كانوا يقطعون أيدي الناس.
وكان المبدأ القائل بأنه لا ينبغي للدول أن تتدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض هو الأمر الذي يقف في طريق مثل هذه التدخلات. إذ يحظر ميثاق الأمم المتحدة، الذي وقِّع عليه عام 1945، التدخل في "الشؤون التي تقع أساسا ضمن السلطة الداخلية لأي دولة".

ورغم أن مجلس الأمن يستطيع أن يأذن باستخدام القوة، فإن المقصود من ذلك هو الرد على العدوان، وليس منع وقوع المجازر. وكانت البلدان الأفريقية المستقلة حديثا نالت كفايتها من القوى الاستعمارية التي كانت تدوس على سيادتها، لذلك، في عام 1963، وعند تشكيلهم لمنظمة الوحدة الأفريقية، ألزم الأعضاء أنفسهم بمبدأ "عدم التدخل".
إلا أن رواندا غيرت هذا الأمر. ففي عام 2003، أعطى الاتحاد الأفريقي (خليفة منظمة الاتحاد الأفريقي) لنفسه سلطة التدخل لمنع ارتكاب الجرائم الخطيرة. وذهب آخرون إلى ما هو أبعد من ذلك: حيث بدأت أميركا وبريطانيا والكثير من الدول الغربية الأخرى تطالب بالحق في استخدام القوة من جانب واحد دون الرجوع إلى سلطة مجلس الأمن الذي زعموا أنه بات مشلولا بسبب تمتع كل من أعضائه الخمسة الدائمين- أميركا وبريطانيا والصين وفرنسا والاتحاد السوفياتي (روسيا الآن)- بالقدرة على استخدام حق النقض. وفي خطاب ألقاه في شيكاغو عام 1999، حدد بلير الخطوط العريضة لمبدأ الحروب العادلة "التي لا تعتمد على أي طموحات إقليمية، بل على القيم"، وأصر على أن العالم لا يمكن أن يسمح ببساطة بارتكاب جرائم القتل الجماعي. ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المبدأ سياسة. وفي عام 2018، احتفظت الحكومة البريطانية بالحق في منع ارتكاب المجازر دون إذن من مجلس الأمن، إذا كان شلله سيؤدي إلى "عواقب وخيمة" على السكان المدنيين.

ملائكة بطائرات "إف-16"

تجمع كل هذا في تيار فكري يعرف باسم "التدخل الليبرالي". ففي كوسوفو عام 1999، قصف حلف شمال الأطلسي ما كان آنذاك جزءا من صربيا، دون تفويض من مجلس الأمن، لوقف الإبادة الجماعية ضد الألبان. وفي وقت لاحق، حكمت لجنة دولية بأن حملة القصف تلك كانت "غير قانونية" ولكنها مع ذلك "مشروعة"، لأنه لم تكن هناك طريقة أخرى لوقف قتل المدنيين. ومع ذلك، شعر كثيرون بالقلق من أن الدول القوية تسيء استخدام سلطة قصف الآخرين باسم حقوق الإنسان. وكانت الدول الأضعف تشعر بالقلق من أن يبرر ذلك "التدخل الاستعماري الجديد".
وسعى أنان، الذي كان يشغل آنذاك منصب الأمين العام للأمم المتحدة، إلى التوفيق بين السيادة وحماية المدنيين. وطرح في عام 2000 تساؤلا مهما: "إذا كان التدخل الإنساني يشكل حقا اعتداء غير مقبول على السيادة، فكيف ينبغي لنا أن نرد على ما حدث في رواندا، أو سريبرينيتسا؟" وكان الجواب هو مبدأ المسؤولية عن الحماية، الذي هدف للتوفيق بين تطلعات أنصار التدخل الليبرالي ومخاوف الدول الأضعف. وينص قرار المسؤولية عن الحماية، الذي أقرته الأمم المتحدة بالإجماع عام 2005، على أن الدول تتحمل مسؤولية التدخل، ولكن فقط عندما يأذن بها مجلس الأمن. واعتبر السير مارتن جيلبرت، المؤرخ البريطاني، أن هذا "أهم تعديل للسيادة الوطنية منذ 360 عاما". أما غاريث إيفانز، وزير خارجية أستراليا السابق وأحد مهندسي المسؤولية عن الحماية، فيعتقد أن هذا التأكيد مبالغ فيه، ومع ذلك، فهو يصف مبدأ المسؤولية عن الحماية بأنه "مشروع ناجح إلى حد كبير".
يرى إيفانز أن المسؤولية عن الحماية أوجدت معيارا جديدا: لا يمكن لأي مسؤول اليوم أن يتجاهل علنا الإبادة الجماعية لأسباب تتعلق بالدول، كما فعل هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أثناء تملقه للخمير الحمر في كمبوديا عام 1975. وفي الوقت نفسه، منذ مجازر رواندا، صدرت الأوامر لكافة قوات الأمم المتحدة تقريبا بحماية المدنيين- على الرغم من أنها نادرا ما كانت تُمنح ما يكفي من القوات للقيام بذلك، كما يقول آلان دوس، الذي أدار مثل هذه المهام في ليبيريا والكونغو. ويرى المنتقدون أن مبدأ المسؤولية عن الحماية لا يفرض أي التزامات على البلدان. ويقول إيدان هيهير من جامعة وستمنستر إن هذا المبدأ هو "شعار... تعترف به الدول بحماس، لكنه خال من الجوهر".

رأى المنتقدون أن مبدأ المسؤولية عن الحماية لا يفرض أي التزامات على البلدان

في أوائل عام 2011، وفي أول اختبار حقيقي لمبدأ المسؤولية عن الحماية، وافق مجلس الأمن على استخدام القوة من قبل حلف شمال الأطلسي لحماية المدنيين في ليبيا- وفعل ذلك مرة أخرى بعد أسبوعين في ساحل العاج. وقال الرئيس باراك أوباما: "رفضت انتظار صور المذابح والمقابر الجماعية قبل اتخاذ أي إجراء". ومن الأهمية بمكان أن الدول الأفريقية الثلاث الدورية في المجلس (الغابون ونيجيريا وجنوب أفريقيا) انفصلت عن الاتحاد الأفريقي وأيدت القرار. لكن، لم يكن الجميع بالحماس ذاته. إذ وصف جون بولتون، الدبلوماسي الجمهوري السابق، مبدأ المسؤولية عن الحماية بأنه "مبدأ غامض لا حدود له" ولا يتمثل خطره الأكبر في احتمال فشله، بل في احتمال نجاحه الذي قد يؤدي إلى المزيد من التشابكات الخارجية.
وفي هذه الحالة، أثبت ما كان من المفترض أن يكون تبريرا لمبدأ المسؤولية عن الحماية فشله. ففي البداية نجح القصف في ليبيا، حيث منع وقوع مذبحة ضد المدنيين في مدينة بنغازي، الواقعة في شرق البلاد. إلا أن بريطانيا وفرنسا قامتا بعد ذلك بتوسيع السلطة الممنوحة لها من قبل مجلس الأمن، وأطاحتا بمعمر القذافي، الدكتاتور الليبي. وأدت الحرب الأهلية اللاحقة إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها، مما أدى إلى تثبيط حماسة الغرب للتدخل. كما أنها أحيت "الشكوك القديمة حول الدوافع وراء التدخلات الغربية في أفريقيا"، كما تقول كارين سميث من جامعة ليدن، وهي مستشارة خاصة سابقة للأمم المتحدة في مجال المسؤولية عن الحماية. وتحول المؤيدون الأفارقة لهذا المبدأ، مثل جنوب أفريقيا، إلى متشككين. كتب راميش ثاكور، المسؤول السابق في الأمم المتحدة ومهندس المسؤولية عن الحماية، بعد أن باءت الجهود في ليبيا بالفشل: "إن النوايا الحسنة لا تشكل نتائج جيدة تلقائيا... على العكس من ذلك، لا توجد أزمة إنسانية سيئة إلى درجة لا يمكن للتدخل العسكري الخارجي أن يجعلها أسوأ".

أ ب
لاجئون روانديون يعودون إلى بلادهم من تنزانيا على الرغم من المخاوف بتعرضهم للقتل في 19 ديسمبر 1996

بالنسبة للكثيرين، كان توسع مهمة البعثة في ليبيا هو الخطيئة الأصلية التي قوضت مبدأ المسؤولية عن الحماية. يقول إيفانز متأسفا: "هنا بدأت الأمور في الانهيار." ومع ذلك، حتى لو نجحت الحملة الليبية، فمن المحتمل أن يتعثر هذا المبدأ. إذ سئمت الجماهير الغربية "الحرب ضد الإرهاب" التي دامت عقدا من الزمن والجهود غير الناجحة لبناء ديمقراطيات ليبرالية في بلدان لا يبدو أنها تريدها. ويقول جوان، من المجموعة الدولية لإدارة الأزمات: "لدينا الآن جيل من السياسيين الذين شكّلهم فشل التدخل في العراق وأفغانستان."
وأصبح ذلك واضحا في عام 2013 عندما قام الرئيس السوري بشار الأسد باستخدام غاز الأعصاب ضد المدنيين. بحلول ذلك الوقت، كان أوباما أصبح متشككا بشأن استخدام القوة؛ ورغم أنه تحدث عن الخطوط الحمراء إلا أنه لم يتخذ الكثير من الإجراءات عندما جرى تجاوزها، كما أن القوى الغربية الأخرى لم تعد راغبة بالتحرك. ولكن، تبين أن التقاعس عن العمل له تكاليفه أيضا. إذ بحلول عام 2023، كانت الحرب الأهلية في سوريا أودت بحياة 350 ألف شخص وشردت ما يقرب من نصف السكان، مما أدى إلى وصول موجات من اللاجئين إلى البلدان المجاورة وأوروبا.

على من تقع مسؤولية حمايته؟ 

كان مجلس الأمن عاجزا بسبب التنافس الجيوسياسي. كما يشير البعض إلى مشكلة "مجرمي القوة العظمى،" أي ارتكاب أحد الأعضاء الدائمين في المجلس نفسه للجرائم. غزت روسيا جورجيا في عام 2008، وأوكرانيا في عام 2014 وعلى نطاق أوسع في عام 2022، وكانت مهتمة بشكل أساسي بتقويض المجلس. واستخدمت بين عامي 2011 و2022 حق النقض ضد 17 قرارا بشأن سوريا، ومنعت اتخاذ أي إجراء بشأن أوكرانيا. أما الصين فكانت مترددة في الموافقة على الإجراءات الرامية إلى منع ارتكاب الجرائم، ربما لأنها تحتفظ بالحق في إساءة معاملة مواطنيها. وفيما يتعلق بسوريا، صوتت إلى جانب روسيا، وأصرت على أن العقوبات ستنتقص من سيادة البلاد.
وأعقب الفشل في التحرك في سوريا حالة من السلبية في مواجهة الجرائم التي ترتكب في أماكن أخرى. وفي عام 2017، بدأت القوات الحكومية في ميانمار في قتل واغتصاب الروهينغا، وهي أقلية مسلمة مضطهدة منذ فترة طويلة، في ما وصفته الأمم المتحدة وأميركا بالإبادة الجماعية. ومرة أخرى وقف مجلس الأمن عاجزا، حيث منعته الصين وروسيا من إصدار حتى بيانات طفيفة تعرب عن القلق.

"النوايا الحسنة لا تشكل نتائج جيدة تلقائيا... على العكس من ذلك، لا توجد أزمة إنسانية سيئة إلى درجة لا يمكن للتدخل العسكري الخارجي أن يجعلها أسوأ"

أميش ثاكور، المسؤول السابق في الأمم المتحدة ومهندس المسؤولية عن الحماية

وفي عام 2020 اندلعت الحرب الأهلية في إثيوبيا، وأغلقت القوات الحكومية منطقة تيغراي الشمالية، وتعمدت تجويع سكانها البالغ عددهم نحو 6 ملايين نسمة. وبحلول نهاية الحرب بعد مرور عامين، لقي نحو 600 ألف شخص حتفهم، جميعهم تقريبا من المدنيين. وبقي مجلس الأمن صامتا بشكل شبه كامل، ولم تكن روسيا والصين العائق الوحيد، بل إن الاتحاد الأفريقي نفسه تخلى عن سياسة "عدم الانحياز" تجاه جرائم الحرب وانحاز إلى الحكومة الإثيوبية، ما أدى إلى عرقلة الجهود الرامية إلى إثارة النزاع أمام المجلس. ونتيجة لذلك "من المرجح أن يظل صندوق منع المجازر في أفريقيا مغلقا، تصدأ الأدوات بداخله بهدوء"، كما كتب أليكس دي وال من جامعة تافتس.
يتكرر الوضع اليوم في السودان، إذ تهدد الحرب الأهلية بالتسبب في أكبر مجاعة في العالم، حيث يحتاج ما لا يقل عن 25 مليون شخص إلى الغذاء. يقع جزء كبير من اللوم على القوات المسلحة السودانية، التي منعت تدفق المساعدات إلى المناطق التي يسيطر عليها عدوها (قوات الدعم السريع)، وهي مجموعة من الجماعات شبه العسكرية المتمردة المتهمة بارتكاب جرائم إبادة جماعية. ولمدة عام تقريبا، منعت روسيا والصين حتى إطلاق الدعوات لوقف إطلاق النار، أما باقي العالم فكان غير مبال. يقول السيد جوان: "يبدو أننا ننسى بسرعة الدروس المستفادة من رواندا".

أ ب
متهمون بارتكاب جرائم حرب والمشاركة في الإبادة في سجن كيبونغو

هذا هو سياق الادعاءات والردود في الشرق الأوسط. فبعد أن هاجمت "حماس" إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقتلت واختطفت 1400 إنسان، أغلبهم من المدنيين، أكد الغرب على حق إسرائيل المشروع في الدفاع عن النفس. ومع ذلك، اندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء العالم على الفور تقريبا ضد إسرائيل، وانتشرت بعد أن أدت حملتها العسكرية إلى مقتل نحو 33 ألف مدني ومقاتل في غزة، وفقا لهيئة الصحة التي تديرها "حماس".

القضاء هو الحكم

ومن زاوية معينة، أدى الصراع إلى إحياء استخدام القانون الدولي للحد من العنف. لقد كان مجلس الأمن غير فعّال، بسبب عرقلة الولايات المتحدة والصين وروسيا قرارات الطرف الآخر (رغم أن الولايات المتحدة سمحت بتمرير قرار في الخامس والعشرين من مارس/آذار يدعو إلى وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن الذين تحتجزهم "حماس"). لذلك، لجأ كثير من الدول إلى المحاكم الدولية، وما زال ذلك يفعل، حيث طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية في لاهاي أن تأمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية، مستشهدة باتفاق الإبادة الجماعية التي وقعت عليها إسرائيل. كما قدمت شكاوى إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي محكمة مختلفة في لاهاي يمكنها محاكمة الأفراد. (كان هذا بمثابة تحول كبير، إذ كانت جنوب أفريقيا تتجه نحو الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية لتجنب احترام أوامر الاعتقال الصادرة عنها). وبينما تستمر محكمة العدل الدولية في إجراءات المحاكمة، فإنها أمرت إسرائيل باتخاذ خطوات بما في ذلك تقديم المساعدات الإنسانية، على أساس أنها "قد تكون" فعلا تنتهك اتفاق الإبادة الجماعية. وبينما تدعي إسرائيل أنها تمتثل للأمر، يشكك كثيرون في صحة هذا الأمر.
ولكن من وجهة نظر أخرى، تسلط قضية محكمة العدل الدولية الضوء على أوجه القصور في القانون الدولي في عصر الانقسامات الجيوسياسية المريرة. إذ تفتقر محكمة العدل الدولية إلى الولاية القضائية على جرائم الحرب غير المتعلقة بالإبادة الجماعية، مما يدفع أصحاب الشكوى إلى ادعاء الإبادة الجماعية حتى في الحالات التي لا تدعم فيها الحقائق مثل هذه الادعاءات. وهذا يقلل من قيمة منع الإبادة الجماعية ويسيء إلى سمعة المحكمة.

خيبت قضية محكمة العدل الدولية آمال بعض الدول الغربية. إذ تقول أميركا إن ادعاءات الإبادة الجماعية "لا أساس لها من الصحة"، بينما تقول بريطانيا إن قرار جنوب أفريقيا برفع القضية كان "خاطئا واستفزازيا"، وإن تصرفات إسرائيل لا يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية. ومن جانبها، قررت الصين، التي عادة ما تكون عدوا للمحاكم الدولية التي تتحكم في الدول، بشكل انتهازي، أنها تؤيد الادعاءات ضد إسرائيل. سيستغرق حل هذه القضية سنوات، ولا تستطيع محكمة العدل الدولية فرض الامتثال لأوامرها دون مساعدة مجلس الأمن المنقسم.
فهل ما زال هناك أمل في التوصل إلى مبدأ عالمي ذي مصداقية لمنع عمليات القتل الجماعي؟ يعتقد السيد إيفانز ذلك، كما يعتقد أن الصراعات الحالية قد تنبه القوى المتوسطة الحجم في العالم الجديد المتعدد الأقطاب إلى ضرورة منع وقوع المجازر. لكن ذلك يبدو مجرد أمنية أكثر من كونه توقعا، فمذكراته التي نُشرت عام 2017 تحمل عنوان "المتفائل الميؤوس منه". ولكن من الصعب أن نختلف مع طموحه، فكما يقول: "لا يمكننا أن نترك الشعلة تخمد".

font change

مقالات ذات صلة