"الامتناع" الأميركي في مجلس الأمن وسقوط التغاضي عن وضع الفلسطينيين

تحول كبير في موقف واشنطن منذ "7 أكتوبر"

أ ف ب
أ ف ب
سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد تصوت بالامتناع عن التصويت على قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة خلال اجتماع لمجلس الأمن في 25 مارس

"الامتناع" الأميركي في مجلس الأمن وسقوط التغاضي عن وضع الفلسطينيين

ربما يكون مجلس الأمن الدولي قد احتاج إلى أكثر من خمسة أشهر لإصدار قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة. ولكن تمكن المجلس في النهاية من معالجة هذه القضية حقيقةٌ تثبت التأثير المتنامي الذي يتركه الصراع في غزة على مجموعة من المؤسسات العالمية.

قبل الهجوم الفتاك الذي شنته "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كان النزاع الممتد بين إسرائيل والفلسطينيين قد استحال إلى حالة من الشلل التام. وبينما واصلت إسرائيل جهودها لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، كانت توسع برنامجها الاستيطاني في الضفة الغربية، فيما كانت تتناءى شيئا فشيئا وتغيب عن الذكر.

من اللافت للنظر أن موضوع الدولة الفلسطينية ظل بعيد المنال منذ التوقيع على "اتفاق أوسلو" قبل ثلاثة عقود من الزمن، وتفاقم هذا الموضوع بسبب الانقسامات الحادة داخل القيادة الفلسطينية، وخاصة بين "حماس" في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وكان الاهتمام الضئيل بالقضية الفلسطينية في المسار المستقبلي للشرق الأوسط واضحا بشكل صارخ في "اتفاقات أبراهام"، التي توسطت فيها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والتي شهدت قيام كثير من الدول العربية بتطبيع العلاقات مع إسرائيل دون معالجة القضية الفلسطينية بشكل كبير.

أ ف ب
الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الأميركي بيل كلينتون ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين أثناء توقيع "اتفاق أوسلو" في سبتمبر 1993 في البيت الابيض

أما الآن، وفي أعقاب الصراع في غزة، فنرى أن الحاجة الملحة إلى حل القضية الفلسطينية ترتقي بسرعة لتغدو أولوية قصوى بالنسبة لزعماء العالم، الأمر الذي يسلط الضوء على الاعتراف الجماعي الجديد بالحاجة إلى حل دائم. وقد أصبح هذا التحول واضحا بشكل خاص في الأمم المتحدة، حيث يعكس الإجماع الساحق على وقف الأعمال العدائية في غزة واحدا من أهم التحولات السياسية فيما يتصل بالمنطقة منذ عقود من الزمن.

تقليديا، دافعت الولايات المتحدة بقوة عن تصرفات إسرائيل في الأمم المتحدة، بغض النظر عن طبيعتها، وكان الموقف الافتراضي للولايات المتحدة هو الدفاع عن الإسرائيليين، بغض النظر عن مدى استفزاز أفعالهم. ويمتد هذا الاتجاه من الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 إلى العمليات العسكرية الأخيرة في جنوب لبنان وغزة. وعبر مختلف الإدارات، الديمقراطية والجمهورية، قدمت الولايات المتحدة باستمرار الدعم الدبلوماسي لإسرائيل، حتى في الحالات التي كانت هناك انتقادات مفتوحة للأفعال الإسرائيلية.

ولذلك، فإن اختيار إدارة بايدن الامتناع عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على وقف فوري لإطلاق النار في غزة، إلى جانب إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين الذين تحتجزهم "حماس"، هو بكل تأكيد لحظة محورية في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وقد يكون لهذا القرار آثار دائمة على المشاركة الأميركية الأوسع في المنطقة.

موقف إدارة بايدن بات أكثر عرضة للتدقيق بسبب التوترات المتصاعدة مع نتنياهو

ويأتي هذا التحول بعد أن عارضت الولايات المتحدة تاريخيا جهود الدول الأخرى، بما في ذلك روسيا والصين، لتمرير قرارات الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، بحجة أن مثل هذه الإجراءات كانت غير مناسبة وسط هدنة حساسة مستمرة ومفاوضات الرهائن بين إسرائيل و"حماس".
غير أن موقف إدارة بايدن بات أكثر عرضة للتدقيق المتزايد بسبب التوترات المتصاعدة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولا سيما فيما يتعلق بالآثار الإنسانية للهجوم الإسرائيلي ضد "حماس" في غزة. وأفادت المنظمات الإنسانية عن وقوع أكثر من 30 ألف ضحية فلسطينية، بما في ذلك الكثير من النساء والأطفال، مما يزيد من التدقيق في دعم إدارة بايدن المستمر لإسرائيل. وكانت نقطة الخلاف المهمة هي سعي نتنياهو لتوسيع الهجوم العسكري إلى رفح، وهي مدينة في غزة تستضيف ما يقرب من مليون مدني فلسطيني نازح.

أ ف ب
صورة تم التقاطها من رفح تظهر طائرات ورقية تحلق في سماء المدينة بينما يتصاعد الدخان خلال القصف الإسرائيلي على خان يونس في جنوب قطاع غزة، 3 أبريل

وسط الصراع المتصاعد، يؤكد نتنياهو أن الهجوم العسكري في غزة أمر بالغ الأهمية لتفكيك البنية التحتية لـ"حماس"، في حين تحث إدارة بايدن على ضبط النفس، مشيرة إلى تفاقم محتمل للأزمة الإنسانية. وقد دفع هذا الاختلاف الولايات المتحدة إلى اقتراح قرار خاص بها في الأمم المتحدة يدعو إلى وقف إطلاق النار– وهو تحول كبير يشير إلى موقف أكثر صرامة تجاه إسرائيل.
وقد استجاب مجلس الأمن لتعديل سياسة واشنطن من خلال تبني قرار ملزم قانونا لوقف إطلاق النار، والذي شهد 14 صوتا مؤيدا، مقابل لا شيء، وامتناع الولايات المتحدة عن التصويت. كان الامتناع عن التصويت ملحوظا، حيث أوضح المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي أن هذه الخطوة لا تعني "تحولا في سياستنا،" وقال إن الولايات المتحدة أيدت وقف إطلاق النار لكنها لم تصوت لصالح القرار لأن النص لم يدن "حماس". وقال كيربي: "لقد كنا واضحين للغاية، وكنا متسقين للغاية في دعمنا لوقف إطلاق النار كجزء من صفقة الرهائن. هذه هي الطريقة التي تمت بها صياغة صفقة الرهائن، ويعترف القرار بالمحادثات الجارية".

تطالب أميركا وحلفاؤها الرئيسون بأن يكون لأزمة غزة حل سياسي على أساس دولة فلسطينية مستقلة

وأكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ضرورة القرار، مشددا على دوره الحاسم في تحقيق وقف إطلاق النار وتأمين "الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن"، مسلطا الضوء على دفع المجتمع الدولي نحو حل الأزمة وتخفيف المزيد من الآثار الإنسانية.
وعلى الرغم من جهود واشنطن للتقليل من أهمية دورها في تأمين قرار الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار في غزة، إلا أنها لم تسلم من رد الفعل الغاضب الذي صبته عليها حكومة نتنياهو، التي ردت على الفور بإلغاء زيارة كان من المقرر أن يقوم بها وفد إسرائيلي إلى العاصمة الأميركية.
وقال مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي في بيان له إن الامتناع عن التصويت يعد "خروجا واضحا عن الموقف الثابت للولايات المتحدة في مجلس الأمن منذ بداية الحرب"، مضيفا أن الولايات المتحدة "تخلت عن سياستها في الأمم المتحدة اليوم. وفي ضوء التغير في الموقف الأميركي، قرر رئيس الوزراء نتنياهو أن يبقى الوفد في إسرائيل".

رويترز
الممثلة البريطانية لدى الأمم المتحدة باربرا وودوارد وممثل الجزائر لدى الأمم المتحدة عمار بن جمعة يصوتان لصالح قرار يطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، نيويورك في 25 مارس

وعلى أي حال، لم يكن الدور الذي لعبته واشنطن في تأمين قرار وقف إطلاق النار التغير المهم الوحيد الذي حدث في النظرة المؤسسية الأميركية فيما يتعلق بالمسألة الإسرائيلية- الفلسطينية. فبينما تواصل إدارة بايدن، مع حلفائها الغربيين، دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد التهديد الذي تشكله "حماس" على أمن إسرائيل في أعقاب هجمات 7 أكتوبر، جرى تحول كبير في موقف واشنطن بشأن القضية الفلسطينية.
لقد تغير هذا الموقف بشكل جذري في أعقاب هجمات "حماس"، حيث تطالب الولايات المتحدة الآن، ومعها حلفاؤها الرئيسون الآخرون مثل المملكة المتحدة، علنا بأن يكون لأزمة غزة في نهاية المطاف حل سياسي يقوم على أساس إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما يمثل نقلة كبيرة عن المواقف الأكثر حيادية التي تبنتها الإدارات الأميركية السابقة فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.

التحولات المؤسسية العالمية الناجمة عن الصراع في غزة لا تقتصر على مجالات الدبلوماسية

وفي هذا السياق، قال كاميرون إن لندن ستدرس الاعتراف بالدولة الفلسطينية كجزء من الجهود المنسقة للتوصل إلى تسوية سلمية نهائية في المنطقة، مؤكدا أن الفلسطينيين لا بد أن يكون لديهم "أفق سياسي حتى يتمكنوا من رؤية تقدم لا رجعة فيه نحو حل الدولتين". كما أن التحولات المؤسسية العالمية الناجمة عن الصراع في غزة لا تقتصر على مجالات الدبلوماسية. ويعكس هذا التطور اتجاها أوسع للتغيرات المؤسسية العالمية التي حفزها الصراع في غزة، والتي تمتد إلى ما هو أبعد من المفاوضات الدبلوماسية لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي.
إن لمحكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية الرئيسة للأمم المتحدة وأعلى محكمة دولية في العالم، دورا مزدوجا: تسوية النزاعات القانونية المقدمة إليها من قبل دول الأمم المتحدة وفقا للقانون الدولي، وإصدار آراء استشارية حول الأسئلة القانونية المحالة إليها من قبل وكالات دولية معترف بها من الأمم المتحدة.
ولكن إسرائيل تنفي بشدة اتهامات الإبادة الجماعية، وتجادل بأن لها الحق في اتخاذ تدابير للدفاع عن نفسها؛ وتدعي أن الأفعال والتصريحات التي أشارت إليها جنوب أفريقيا، التي تلعب دورا قياديا في الإجراء، لم تكن في واقع الحال جزءا من سياسة الحكومة أو السياسة العسكرية ولا تحمل أي نية للإبادة الجماعية.
وباختصار، يظل توقيت صدور رأي المحكمة غير مؤكد، نظرا لإجراءات محكمة العدل الدولية الشاملة والمستهلكة للوقت. ويتوقع خبراء قانونيون أن يصدر الحكم بحلول نهاية العام. رغم أن رأي محكمة العدل الدولية ليس ملزما لمجلس الأمن أو إسرائيل بتنفيذه، إلا أنه يتمتع بنفوذ كبير وقد يمارس ضغوطا إضافية على إسرائيل وحليفتها الرئيسة، الولايات المتحدة، للتوافق مع المعايير القانونية الدولية.
في خضم الأعمال العدائية المستمرة بين إسرائيل و"حماس" في غزة، يرى البعض أن فعالية الأطر القانونية والمؤسسية العالمية المتطورة بشأن المحنة الفلسطينية لا تزال موضع تخمين. إلا أن المجتمع الدولي لم يعد راغبا فعلا في التغاضي عن وضع الفلسطينيين، بصرف النظر عن الحل غير المؤكد للصراع في غزة.

font change

مقالات ذات صلة