"العدل الدولية"... قضية "الاحتلال الإسرائيلي" لا تحظى باهتمام واسع

تأخر طرحها نصف قرن

Reuters
Reuters
متظاهرون يرفعون العلم الفلسطيني أمام مقر محكمة العدل الدولية في لاهاي في 26 يناير

"العدل الدولية"... قضية "الاحتلال الإسرائيلي" لا تحظى باهتمام واسع

لا تزال الأحداث في الشرق الأوسط تطغى على الأخبار العالمية لهذا الأسبوع، حيث تتصدر عناوين الأخبار حتى في بريطانيا. وكان من بين هذه الأخبار زيارة القس الدكتور منذر إسحاق، القس اللوثري من بيت لحم، إلى لندن والجدل الدائر حول رفض رئيس أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي استقباله، في مثال آخر على اتساع المواقف الحذرة بين الشخصيات الدينية البريطانية، كما يسميها القس إسحاق نفسه.

وفي انحراف ملحوظ عن القاعدة، أعرب ولي العهد البريطاني أمير ويلز ويليام عن أمله في إنهاء العنف في غزة، في تدخل نادر للعائلة الملكية في الشؤون السياسية. وأثارت هذه الخطوة استهجانا واضحا من جانب أنصار النظام الملكي، الذين يركزون انتقاداتهم في العادة على أخيه الأصغر هاري.

وكان من المقرر بالأمس أن يناقش برلمان المملكة المتحدة وقف إطلاق النار، لكن الإجراءات تحولت إلى مهزلة، عندما غادر بعض الأعضاء القاعة احتجاجا على الطريقة التي جرى بها ترتيب التصويت. ويبدو أن الضحية الأكثر ترجيحا لهذه العاصفة سيكون رئيس البرلمان، السير ليندسي هويل، الذي كان من المفترض أن يكون فوق النزاع في كل الأوقات، ولكن يبدو في هذه المناسبة أنه تصرف لصالح حزبه القديم، "حزب العمال". كما أنه لم يفعل شيئا لإصلاح صورة الطبقة السياسية في بريطانيا بعد أن خرج مشهد التصويت على مسألة بهذه الخطورة عن مساره.

في هذه الأثناء، شهدت لاهاي عودة محكمة العدل الدولية إلى عناوين الأخبار مرة أخرى، بعد جلسة الاستماع الأخيرة التي انعقدت بناء على الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا مدعية أن إسرائيل متورطة في عملية إبادة جماعية. ومن المقرر أن تحضر نحو 52 دولة جلسة الاستماع لتقرر ما إذا كان ينبغي اعتبار احتلال إسرائيل لبعض الأراضي الفلسطينية غير قانوني. قد يبدو هذا لأول وهلة أمرا غير ضروري، إذ عادة ما يشار إلى الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية بشكل روتيني على أنه غير قانوني بالفعل. المشكلة هي أن قرار الأمم المتحدة عام 1967، الذي دعا القوات الإسرائيلية إلى الانسحاب، لم يشر على وجه التحديد إلى الاحتلال باعتباره غير قانوني. ولهذا السبب، عاد القضاة إلى هذه المسألة بعد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022.

ولكن المرجح أن لا تحظى هذه القضية المنفصلة بالقدر نفسه من الاهتمام الذي حظيت به القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا في الأسبوع الماضي، بسبب الحساسية التي تتمتع بها جريمة الإبادة الجماعية باعتبارها أكبر الجرائم على الإطلاق. إن الاتهام الموجه ضد إسرائيل، الدولة التي تشكلت في أعقاب الإبادة الجماعية النازية، بارتكابها الجريمة عينها ضد شعب آخر، يقدم طبقة معقدة من المفارقة التاريخية. وقد ألقى إدوارد سعيد سابقا الضوء على الرواية المأساوية للفلسطينيين باعتبارهم ضحايا لضحايا سابقين. ولا يخفى على أحد أن "حزب الليكود" الحاكم، منذ بدايته، كان له موقف ازدراء لتطلعات "العرب".

إن فكرة ويليام بليك عن "التماثل المخيف" توضح بشكل متزايد أوجه التشابه بين المعاناة التاريخية لليهود في أوروبا والمحنة الحالية للفلسطينيين، وهي مقارنة بات الاعتراف بها حقيقة واقعة، على الرغم من كونها مثيرة للجدل ومع ذلك، فإن هذا القياس يمكن أن يثير ردود فعل عكسية كبيرة، كما رأينا في حالة الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا.

أما القضية الحالية فهي أكثر محدودية في نطاقها، حيث تركز تحديدا على احتلال إسرائيل لأراض عربية بعد حرب عام 1967. ونتيجة لذلك، فهي لم تجتذب قدرا كبيرا من الاهتمام في جميع أنحاء العالم وفي إسرائيل نفسها، بل على العكس جرى تجاهلها تماما، كما يؤكد جدعون ليفي، المحلل السياسي والكاتب في صحيفة "هآرتس"، حين قال في مقابلة تلفزيونية": "وسائل الإعلام الإسرائيلية تساعد في تجاهلها [جلسات المحكمة الدولية]، ويمكنك دائما الاعتماد على وسائل الإعلام الإسرائيلية في إخفاء كل ما هو سلبي أو غير سار لإسرائيل عن مشاهديها وقرائها... لم تعتبره أي محطة تلفزيونية مهما أو مثيرا للاهتمام بدرجة كافية".

هذا ليس احتلالا بالمعنى المعروف، فقد أُخِذت الأراضي من مصر والأردن وليس من دولة فلسطينية ذات سيادة

سياسيون إسرائيليون

وقد يأمل المرء أن يكون الإسرائيليون متفردين في هذا السياق، وعلى الرغم من أن القضية ليست مثيرة كسابقتها، فإنها تأخرت طويلا بلا شك، إذ احتاج الأمر لأكثر من نصف قرن لمطالبة هيئة محكمة العدل الدولية المؤلفة من 15 قاضيا بدراسة ممارسات إسرائيل في ما يتعلق بـ"الاحتلال والاستيطان والضم... بما في ذلك الجهود المبذولة لتغيير التركيبة الديموغرافية، وطابع ووضع مدينة القدس المقدسة، إلى جانب سن القوانين والإجراءات التمييزية ذات الصلة".
وقد جادل السياسيون الإسرائيليون بانتظام بأن هذا ليس احتلالا بالمعنى المتعارف عليه، حيث أُخِذت الأراضي موضوع النزاع من مصر والأردن خلال الحرب، وليس من دولة فلسطينية ذات سيادة. وأفضل رد هو السخرية من هذا الادعاء. أليس افتقار الفلسطينيين للسيادة هو بيت القصيد في نهاية المطاف؟
وها هم ممثلو جنوب أفريقيا في لاهاي مرة أخرى، ويمثلهم هذه المرة سفيرهم إلى هولندا فوسيموزي مادونسيلا، الذي أصر على ضرورة معالجة حالة الإفلات من العقاب التي تتمتع بها إسرائيل منذ فترة طويلة فيما يتعلق بالانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان والأعراف الدولية، منتقدا تصاعد حدة وعنف التصرفات الإسرائيلية.
وشدد إدوارد كرافن، متحدثا باسم غيانا، على أن الاحتلال بطبيعته حالة مؤقتة. ولا تتمتع قوة الاحتلال بأي مطالبة مشروعة على الأراضي، ويُحظر عليها إجراء تغييرات دائمة. وعرّف الاحتلال الدائم بأنه شكل من أشكال الغزو العسكري أو الضم، وهو ما يحظره القانون الدولي صراحة.

AFP
وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي أثناء جلسة حول التبعات القانونية للاحتلال الإسرائيلي في لاهاي في 19 فبراير

وأعادت دول كثيرة توجيه تركيز المحكمة نحو الوضع في غزة، فأدلت ممثلة كوبا، راكيل رودريغيز كاميغو، ببيان قوي، وصفت فيه تصرفات إسرائيل بأنها "أعمال فصل عنصري تموه النية الضمنية لإبادة الشعب الفلسطيني، إما جزئيا أو كمجموعة عرقية ودينية مسلوبة من حق تقرير المصير".
وناشدت المندوبة الكوبية في ندائها المحكمة الدولية بأن لا تتأخر في الإدلاء برأيها، "لأننا نعتقد اعتقادا راسخا أن المحكمة لا ينبغي أن تؤخر قرارها حتى تصبح الإبادة المحتملة لشعب بأكمله حقيقة واقعة". بينما لفتت لانا نسيبة، متحدثةً باسم دولة الإمارات العربية المتحدة، الانتباه إلى الأبعاد الدينية للصراع، وأكدت أن "إسرائيل تعهدت بالحفاظ على الوضع الراهن التاريخي وضمان الوصول إلى الأماكن المقدسة في القدس من خلال اتفاقات مع الأردن والكرسي الرسولي. ومن المقلق للغاية أن إسرائيل قد اتخذت الآن إجراءات تهدد هوية القدس الفريدة وتمحو تراثها الثقافي". 

الحق في تقرير المصير يتطلب قيام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بوضع حد للاحتلال الإسرائيلي على الفور

المحامي الأنجلو-فرنسي فيليب ساندز

وانتقدت نسيبة إسرائيل لانتهاكها هذه الالتزامات من خلال عرقلة الوصول إلى الأماكن المقدسة، وعبرت عن ألمها للأوضاع المزرية في غزة، مشيرة إلى أن "حجم المعاناة في غزة غير مسبوق في التاريخ الحديث"، منبهة إلى أن "الاستراتيجية الإسرائيلية ترقى إلى مستوى العقاب الجماعي ضد الفلسطينيين".
ومن الغرب، لم يخل موقف فرنسا من صراحة مماثلة في انتقاداتها، حيث أصر المحامي الأنجلو-فرنسي فيليب ساندز على أن "الحق في تقرير المصير يتطلب قيام الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بوضع حد للاحتلال الإسرائيلي على الفور". وأشار الى أن ذلك يجب أن يترافق مع معاقبة إسرائيل على الفور: "لا دعم، ولا مساعدات، ولا مشاركة، ولا مساهمات في التدابير القسرية، ولا مساعدات مالية أو عسكرية، ولا تجارة. لا شيء مطلقا".
ومع ذلك لم تكن جميع وجهات النظر المقدمة في الجلسة تنتقد إسرائيل. ممثل المجر أتيلا هيدج، مثلا، سار عكس التيار، وحذر من أن مشاركة المحكمة قد تؤدي عن غير قصد إلى زيادة التوترات، مضيفا: "إن تصرفات القضاة يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الصراع"، مشيرا إلى أن الاستفادة من المحكمة في حرب المعلومات المستمرة قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات القائمة، وإدامة أشد الصراعات خطورة في التاريخ الحديث".
وعارضت الولايات المتحدة، إلى جانب فيجي، فكرة أن محكمة العدل الدولية يجب أن تعلن أن الاحتلال الإسرائيلي غير قانوني. وقال ممثل وزارة الخارجية ريتشارد فيسيك إن التحقيق الذي طرح على المحكمة كان متحيزا، واقتصر في تركيزه على دور إسرائيل في الاحتلال. واقترح، بدلا من ذلك، أن ينصب التركيز على قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي أكدت على مدى العقود الماضية الالتزام بحل الدولتين. وقال أيضا إن المزاعم بأن إسرائيل انتهكت معاهدة جنيف الرابعة بنقل المستوطنين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة يجب أن تعالج من قبل مجلس الأمن الدولي، وليس المحكمة في لاهاي.
ولم يكن من العسير التنبؤ باختلاف المواقف هذا حتى قبل انعقاد المحكمة بزمن طويل، ما يؤكد أن هذا الإجراء لن يتعدى كونه إجراء شكليا. وفي خضم المناورات السياسية والحجج القانونية المعقدة، برز نداء مؤثر بشكل خاص، قدمه المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، الذي استخدم في خطابه خمس خرائط ليوضح بشكل صارخ الانكماش الكبير في الأراضي الفلسطينية عن حدودها الأصلية بموجب انتداب عصبة الأمم عام 1920.

لا توجد فلسطين على الإطلاق على خريطة نتنياهو... فقط إسرائيل

المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة رياض منصور

تتبعت الخرائط تاريخ هذه الأراضي من خلال خطة التقسيم المقترحة ولكن غير الناجحة عام 1947 من قبل الأمم المتحدة، والحدود الإقليمية للضفة الغربية وقطاع غزة في أعقاب صراع عام 1948 الذي شهد إنشاء إسرائيل، إلى المناطق المتفرقة الخاضعة للإدارة الفلسطينية داخل المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية اعتبارا من عام 2020، متأثرة بشدة بعقود من التوسع الاستيطاني الإسرائيلي.
واختتم منصور عرضه بصورة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول، وهو يحمل خريطة أطلق عليها اسم الشرق الأوسط "الجديد" الذي أزيلت فيه كل ما تبقى من الأراضي الفلسطينية.

AFP
قضاة محكمة العدل الدولية في 26 يناير

وقال منصور في الجلسة: "لا توجد فلسطين على الإطلاق على هذه الخريطة، فقط إسرائيل، التي تضم كل الأراضي من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. هذا يوضح الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه الاحتلال الإسرائيلي الطويل والمستمر لفلسطين– الاختفاء الكامل لفلسطين وتدمير الشعب الفلسطيني. لقد عانى الفلسطينيون من الاستعمار والفصل العنصري. وهناك من يغضب من هذه الكلمات، بدلا من أن يغضبوا من الواقع الذي نعانيه".
وما على المرء إلا أن ينظر إلى التصريحات الصادرة عن أعضاء حكومة نتنياهو الحربية ليرى نهاية اللعبة التي تريد إسرائيل الوصول إليها، على الأرجح. إنه طموح يتجاوز بكثير مجرد إنشاء منطقة عازلة؛ بل إن هناك هدفا ضمنيا وهو التهجير الفلسطيني الكامل. وقد أوردت تقارير صحيفة "الغارديان"، التي تدعمها صور الأقمار الصناعية، تفاصيل بناء منطقة مغلقة بالقرب من الحدود المصرية في رفح. وبما أن المليون وأكثر من البائسين الذين يخيمون في رفح ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه داخل القطاع، فسيكون من السذاجة المتعمدة الافتراض بأن صور الأقمار الصناعية كانت كاذبة.

وهكذا فإن معاناة غزة تتعمق مع مرور كل دقيقة. حتى القس من بيت لحم الذي رفض رئيس أساقفة كانتربري استقباله يعترف بأنه ناضل من أجل التغلب على يأسه والصلاة. وقد يُغفر للناس الذين يعيشون في الخيام، ويتحملون البرد والجوع والتشرد والقصف المستمر، قد ينفد صبرهم إزاء كلمات الدعم المنمقة. وفي مرحلة ما، تعجز الكلمات جميعها عن وصف فداحة معاناتهم التي تفوق الوصف.
وكان هذا واضحا جدا في عرض منصور، خاصة عندما تهدج صوته وهو يحلم بمستقبل "ينظر فيه إلى الأطفال"، وهنا توقف لبضع ثوان مؤلمة قبل أن يضيف: "... ليس كأرقام بشرية...". وعندما استأنف الحديث، كان من الصعب تمييز كلامه. 
إن التأثير العاطفي لمشاهدة مثل هذا الحزن العميق لدى المندوب الفلسطيني كان قمينا أن يثير التعاطف لدى أي شخص لديه أدنى أثر للإنسانية. يبدو أن عبارات منصور المتقطعة تعبر عن محنة الناس في غزة بشكل أكثر بلاغة من أي تعبيرات جيدة التصميم عن الغضب العادل، وأكثر إثارة للصدمة من أي شيء سمع منذ خطبة القس إسحاق، الذي افترض أن يسوع الحديث كان سيولد وسط الأنقاض.
ومن خلال خطابه المتعثر، طرح المندوب الفلسطيني المسن سؤالا بسيطا لكنه عميق على العالم: أما آن لهذه المعاناة أن تنتهي؟

font change

مقالات ذات صلة