الذكاء الاصطناعي فيلسوفا

الذكاء الاصطناعي فيلسوفا

في ما يخص تجربة التحدّي التي كان الفيلسوف الفرنسي رافائيل إينتوفن قد خاضها ضدّ الذكاء الاصطناعي، "تشات جي. بي. تي"، حول أحد الموضوعات التي طرحت في امتحان البكالوريا للدورة الماضية، والذي كان يتعلق بالسؤال عمّا إذا كانت السعادة شأنا عقليا، ينبغي أن نسجّل بداية أنّ منظّمي تلك المباراة ظلوا سجيني مفهوم معيّن عن الفلسفة، وهو المفهوم الذي كان التقليدُ الألماني أوّلَ من كرّسه، حيث صار الفيلسوف أساسا أستاذا جامعيا، وغدت الفلسفة معرفة وتأريخا ومحاضرات، لكي تصير مباريات و"إنشاءات" واقتباسات. سيجعل الفرنسيون في ما بعد الإنشاء الفلسفي Dissertation لموضوع البكالوريا حدثا من أحداث تاريخ فرنسا ومعالمها ومميزاتها، حيث تنقل محطّات الأخبار جميعها نصوص الأسئلة المقترَحة، وتعلن اسم المرشّح الذي نال أعلى نقطة، وكذا عن جنسيته (الظاهر أن سنة 2023 كانت هي السنة الأخيرة لهذا التقليد لأن التلميذ في قسم البكالوريا أصبح، في الإصلاح الأخير، يُحاسَب في مادة الفلسفة على ما يسمّى المراقبة المستمرة).

كان هذا التحدّي، حسب علمي، ثانيَ تحدٍّ من نوعه يواجه الإنسانَ بالآلة على مستوى الفكر: المباراة ضدّ الحاسوب، وكانت حول لعبة، أمّا هذا فكان حول إنشاء فلسفي يعالج قضيّة ترتبط بالإنسان وعوالمه، وما يتعلق به من قيم.

الحاسوب كائن "طيّب"، أو لنقل، على الأقل، إنّه لا يستطيع أن يراوغ، ولا أن ينصب المكائد ويحتال

تساءل جان بودريار: "ما الذي جعل كاسباروف ينتصر في مباراة الإياب؟"، فردّ: "إنّ أوّل جواب نجده عند البطل نفسه عندما صرّح: "أنا ألعب من غير أن أفكّر، يداي تفوقان تفكيري سرعة". إضافة إلى تدخّل الإنسان بكل جوارحه في اللّعب، وفضلا عن أنّ في إمكانه أن يراوغ ويتماطل وينصرف بذهنه خارج اللّعبة، ويبتعد عن منطق الحساب، فإنّ الاختلاف الأساس بالنسبة إلى كاسباروف، وما ميّزه أساسا عن الآلة، هو وعيه بأنّه أمام خصم، وبأنّه في مواجهة آخر. الحاسوب كائن "طيّب"، أو لنقل، على الأقل، إنّه لا يستطيع أن يراوغ، ولا أن ينصب المكائد ويحتال. يمكن أن نقول إنّه ذكيّ، لكنّه يغرق في حساباته، وسنرى أنّه لا يعطي نفسه المهلة كي يخطط ويدبّر المكائد وينصب الحيل، لأنّه تحت دفق المعلومات، فلا يمكنه إلّا أن يلعب Jouer بينما الإنسان يمكنه أن يراوغ ويسهو Déjouer، و"يخرج عن الموضوع" كما تقول العبارة المدرسية المعهودة التي نستعملها عمدا هنا تذكيرا بطقوس الامتحانات المدرسية الذي سجنتنا تجربة المسابقة داخل أسوارها. هذا الخروج يدل على أنّ في إمكان الإنسان أمام الآلة أن يسلك أكثر من طريق، يمكنه أن ينهج استراتيجيات خارج كلّ منطق، أو على الأقلّ، خارج المنطق الذي يتقيد به الحاسوب، منطق الحساب.

لم يقبل إينتوفن، باعتباره ممثّلا للإنسان في هذا الامتحان، لفظ "المنافسة". عندما كان الأمر يخصّ لعبة الشطرنج، فإنّ كاسباروف نافس الآلة، أمّا الفلسفة، فلا يمكن أن تكون محل منافسة بين إنسان وآلة، لأنّها، كما أكد المرشح، "ممارسة تتمّ أوّلا، وقبل كل شيء، من طريق القلب". لا يقول إينتوفن الجسد ولا اليد، مثلما قال كاسباروف عن يده التي تسبق تفكيره، وإنّما القلب. ربّما لن نفهم بسهولة ما الذي يقصده الفيلسوف الفرنسي، ما لم نستحضر المقابلة بين السياق الديكارتي، وعبارة باسكال التي يقول فيها: "إن للقلب أسبابَه وحججه التي لا يقوى عليها العقل".

في الكتاب الذي أصدره إينتوفن الشهرَ الأوّل من السنة الحالية بعنوان "الذهن الاصطناعي: لن تكون الآلة فيلسوفة قط"، قارَنَ حال الذكاء الاصطناعي بحال طالبة مسرحية "الدرس" لأوجين يونيسكو (التي سينتهي أستاذ الرياضيات بقتلها) والتي تظهر عاجزة عن القيام بأبسط عمليات الحساب. ولكن، تعويضا عن هذا النقص، خطرت ببالها فكرة غبيّة وهي أن تكون على علم بالنتائج الممكنة لعمليات الضرب جميعها. لم يتمكن الأستاذ من أن يجعل تلميذته تفهم حاصل طرح ثلاثة من أربعة، لكن عندما يسألها عن حاصل ضرب أيّ عدد مهما كان تعقيده في عدد لا يقلّ عنه تعقيدا، فإنّها تعطي الجواب الصحيح. عندما يسألها الأستاذ كيف تتوصّل إلى هذه النتائج المعقدة وهي لا تعرف مبادئ الحساب؟ تجيبه: الأمر بسيط، فبما أنّني لا أثق في عملياتي الذهنية، حفظت عن ظهر قلب النتائج الممكنة لعمليات الضرب جميعها. يستنتج إينتوفن: "هذه هي حال "تشات، جي. بي. تي"، فهو يتوفّر على مليارات المليارات من البيانات، لكنه غير قادر على بلورة إشكالية".

عندما أراد المرشّح في ما بعد أن يفسّر ما يعنيه بأنّ "ممارسة الفلسفة تتمّ من طريق القلب"، قال: "إنّنا ينبغي أوّلا أن نرغّب التلاميذ، وأن نعوّدهم على حبّ الفلسفة". علاقة التلميذ بقضايا الفلسفة ينبغي أن تُبنى على رغبة، وعلى فضول معرفي، على محبّة، وقديما قيل، أن تُبنى بهدف رفع الدهشة. وهذه أمور لن ترتقي إليها الآلة في طبيعة الحال.

 أما العقل البشري فهو يواجه مواقف عينية ويدبّرها. وهو يدبّرها لا كعقل مجرد، وإنّما كإنسان له جسد ينخرط في العالم ويمتد في التاريخ

في هذا الصّدد، يمكن أن نطرح على الفيلسوف الفرنسي سؤالا يرتبط بما سبق أن لاحظناه في ما يخص السياق العام الذي نظّمت فيه المباراة عندما قلنا إنّه سياق الأستاذية والمعرفة والإنشاءات والنقاط. فهل من شأن هذا السياق أن يستجيب لما يزعم المرشح أنّه رغبة في ممارسة الفلسفة من طريق القلب؟ ألا يختزل هذا السياق الممارسة الفلسفية، ويجعل من الفلسفة مسألة تاريخ أفكار واقتباسات، مسألة معرفة ومعلومات؟ والحال أنّها، كانت، قبل أن تنحصر ضمن أسوار الجامعات، تواجه "مواقف" وأوضاعا، ما كان بعض الوجوديين، الذين مارسوا الفلسفة خارج الجامعات التقليدية، يدعونه الإنسان-الموقف، مع ما يفترضه ذلك من امتلاك، ليس لعقل يحصّل معارف ويحسن الاقتباسات، وإنّما لجسد معيش هو الشرط لتوفّر الشعور بالالتزام في وضعية معيّنة. صحيح أنّ الذكاء الاصطناعي يتوصّل إلى حلّ مشاكل، إلا أنّ ذلك يتمّ بكيفية مجردة معزولة عن أيّ  مسلسل طرح للإشكالات، أما العقل البشري فهو يواجه مواقف عينية ويدبّرها. وهو يدبّرها لا كعقل مجرد، وإنّما كإنسان له جسد ينخرط في العالم ويمتد في التاريخ. في هذا المعنى نفسه سبق أن سقنا تصريح بطل الشطرنج بعد انتصاره: "أنا ألعب من غير أن أفكّر، يداي تفوقان تفكيري سرعة". تدبير المواقف لا يكتفي بتجريدات العقل، وإنّما يخوضها الإنسان بكل جوارحه. تقول العبارة الفرنسية Il faut avoir une peau pour sauver sa peau ينبغي أن يكون للمرء جلد لكي ينجو بجلده، وهذا لا يتمّ دوما إلاّ في موقف، موقف تاريخي، هو ما كان الوجوديون يدعونه تاريخية الإنسان Historicité. وما دمنا في السياق الوجودي لا بأس أن نذكّر بما كان يقوله سارتر عن الإنسان من كونه مشروعا وارتماء في المستقبل، بما يعنيه ذلك من تعليق للماهية وانسلاخ عن كل التحديدات المجمِّدة، وسعي دائم وراء الابتكار والتجدّد. الإنسان مشروع، وليس برنامجا ينفِّذ، بما يملكه من المعطيات، عملية معقدة قوامها سلسلة إجراءات وصولا إلى حلّ مشكلة.

هنا لا بدّ من الانتباه إلى الفاصل الزمني الكبير بين المدّة التي استغرقها الإنسان، وتلك التي استغرقتها الآلة. فقد استغرق الفيلسوف في تحليل السؤال المطروح ساعة وربع الساعة، بينما لم يتجاوز "تشات جي. بي. تي" الدقيقة وربع الدقيقة. الآلة استطاعت أن تفرغ ما في جعبتها دفعة واحدة ومن "غير رويّة". فكأنّما كانت خاضعة لدفق المعلومات التي ما كان يمكنها أن تتباطأ وتتروّى، ولا أن تنسى. هذا ما قيل أيضا عن مواجهة كاسباروف للحاسوب: إن الحاسوب لم يكن يتردد، لم يكن يلعب، أو كما قال أحدهم "لم يكن هناك لعِب في لعبه، Il n'y avait pas de jeu dans son jeu". التردد والحيرة أمام تعدّد الاختيارات، وكذا القدرة على النسيان هي الأمور التي يظهر لنا أنّها تعوز الآلة كي ترتقي إلى مرتبة الإنسان الحرّ الذي يملك أن يعزل ويميّز، وأن ينسى، فلا يستحضر كلّ شيء، مثلما يملك ألّا يجيب إجابة وحيدة عن السؤال، بل حتى ألّا يجيب، فيكتفي بتحويل السؤال إلى سؤال آخر أكثر تعقيدا وتركيبا. فوحده الإنسان هو القادر على الفكر المركّب.

font change
مقالات ذات صلة