الطريق... تجليات عدّة منذ الكتب المقدسة حتى الإنسان المعاصر

سبيل التواصل الذي لا تغيب عنه القسوة

AFP
AFP
الفيلسوف والكاتب الفرنسي المولود في جنيف جان جاك روسو

الطريق... تجليات عدّة منذ الكتب المقدسة حتى الإنسان المعاصر

ترتبط الطرق بالقسوة والشقاء. لا نقصد فحسب عناء الراجل الذي يعبر مسافاتها الطويلة، ولا محنة الدرّاجي الذي يتسلّل إلى منحدراتها ويتسلّق مرتفعاتها، وإنما نشير أساسا إلى شقاء مكسّري الصخور الذين تُشَقّ الطرق بفضل "أعمالهم الشاقة". فما أكثر الطرق التي بنيت بفضل سواعد أولئك السجناء الذين كانوا يرصّفونها والسلاسل تقيّد أرجلهم (أصل اللفظ الفرنسي الدال على الطريق route مشتق من اللغة اللاتينية ruptaا الآتية من الفعل rumpere الذي يعني: فصل وكسّر).

فتْح الطرق يحيل الى الفتوحات والغزوات والحروب. وهو المعنى الذي لا تزال اللغة الإنكليزية تحتفظ به في لفظ road الذي يحيل إلى الهجوم والغارة raid. وقبل أن تتخذ الكلمة الفرنسية routiers معنى مستخدمي الطرق و"سادتها" الذين لا يفتؤون يربطون بين القارات، والذين يمضون معظم أوقاتهم يسوقون شاحناتهم الضخمة في الطرق، يعيشون فيها ويعرفون حكاياتها وأسرارها، فإنها كانت تدل على الجنود غير النظاميين الذين كانوا "قطّاع طرق" متمرّدين.

بين طريقين

احتفظت الديانات بهذا المعنى السلبي لاستخدام الطرق. فالقرآن الكريم يميّز "طريق جهنم" عن الطريق المستقيم. كما تربط المسيحية الضلال بسلوك "الطريق الخطأ"، وارتكابَ الخطيئة pécher بـ"القيام بخطوة سيئة" (peccatum) (أو، كما يدلّ الأصل الإغريقي للكلمة: بالوقوع في الفخّ skandalon). غير أنّ الطريق قد يكون صراطا مستقيما فيغدو طريق خير ووئام. لكي يحلّ رؤساء الكنيسة البروتستانتية مشاكلهم فإنّهم يقيمون مجلسا جماعيا synode، أي أنّهم "يأخذون الطريق جماعة" (sun odo) اهتداء إلى "سواء السبيل".

ترى الإبستمولوجيا المعاصرة أن طريق الحقيقة ليس دوما "طريقا مستقيما"، وليس هو "أقصر بعد بين نقطتين"

ترى الإبستمولوجيا المعاصرة أن طريق الحقيقة ليس دوما "طريقا مستقيما"، وليس هو "أقصر بعد بين نقطتين"، فغالبا ما نتوصل إليها "في جوّ من الندم الفكري"، بعد "لفّ ودوران"، وبعد طعن في المباشرة، و"رجوع على بدء".

إذا كانت الطرق تخترق الطبيعة، وتعكّر صفوها، وتخنق أصواتها، وتخلخل نظامها، فإنّها، على العكس من ذلك، تخلق تواصلا بين البشر، وتنسج العلاقات بينهم. غالبا ما يكون ثمن هذا الوصل باهظا، فهو قد يتلف غابات، ويغيّر مجاريَ ووديانا، ويقضي على جمال مناظر، إلا أنّه يسمح بمختلف أشكال التبادل بين البشر، من نقل للسلع، وربط بين الأجناس، وتلاقح بين الثقافات.

الانفتاح والانغلاق

ذلك أنّ ما يميّز الطريق هو انفتاحها. فعلى عكس الأزقة التي تتميز بتجاعيدها (rue,  ruga : ride) وانغلاقها، فإن الطرق تتشابك لتنسج "شبكة" مفتوحة. فكما كتب أحدهم: "إذا كانت سلطة الأزقة تملي على الحاكمين تصرفاتهم، فإن حالة الطرق ترسم نهج الفاتحين". في هذا المعنى، فالطريق مفتوحة ممتدة لا حدود لها، وأفقها بعيد. لا عجب أن ترتبط بالخروج والانفتاح والحرية. هذا الربط نجده في ثلاثية سارتر التي يقرن عنوانُها الطرقَ بالحرية: "دروب الحرية" les Chemins de la liberté  . يعيب جان جاك روسو على من يسمّيهم "فلاسفة الأزقة" كونهم "يدرسون التاريخ الطبيعي داخل مكاتبهم، يراكمون معلومات لا قيمة كبيرة لها، وهم يعرفون أسماء، إلا أنّهم لا يمتلكون أيّ فكرة عن الطبيعة"، ومن أجل ذلك، هو ينصحهم بأن يخرجوا و"يرتادوا الطرقات" و "ألاّ يلتصقوا بالأزقة".

wikipedia
جورج سيميل

كان عالم الاجتماع الألماني جورج سيميل قد بيّن، في بداية القرن السابق، أن شقّ الطرق وقف على البشر. فالحيوانات لا تعرف "طرقا"، وهي تكتفي بالمسارات. إنّها تجهل الطرق التي تعمل في الاتجاهين، فتؤدي إلى غاية، وتسمح بالعودة. الطرق قابلة للانعكاس، إنها تسمح بالذهاب والإياب. "صحيح أن الحيوان يتغلّب على المسافات ويقهرها، وبطريقة بارعة شديدة التعقيد في بعض الأحيان، إلا أن نقطتي الانطلاق والوصول تظلان عنده غير مرتبطتين في ما بينهما، فلا تولّدان معجزة الطريق التي تعطي الحركة شكلا واقعيا يولد فيها ويعود إليها". المسار مسار خاصّ، أما الطريق فهي ملك للجميع، إنها ملك "عمومي" لا يحقّ لأحد أن "يقطعه" أو يقتطع منه. وهو ملك لا يلحقه التلف. إنّه وسيلة الاتصال التي لا تمّحي من فرط استعمالها. الطريق تظل مفتوحة حتى وإن تقادمت، وحتى وإن هُجرت ولم تعد تستعمل، فإنها تظل مرسومة تنتظر من "يأخذها".

الطريق السيّار

لكن، ما القول إن حلّ  محلها طريق سيّار؟ ماذا يصنع الطريق السيّار بنا وبطرقنا؟

قبل أن تظهر الطرق السيارة، وقبل أن تدخل الطرق في مخطّط استهلاكي، كانت تختلف في ما بينها وتتباين، تختلف أبعادا وارتفاعا وصعوبة وخطورة وانعراجا. ليست هذه في طبيعة الحال، هي حال الطرق السيّارة التي تتشابه في كل أنحاء المعمورة، بل التي لا تتمايز حتى أجزاؤها في ما بينها. وأنا مأخوذ في الطريق السّيار، أسير في اتجاه واحد، وبسرعة واحدة، لا تتاح لي الفرصة أن أختار التوقف بجانب البحر أو عند النهر أو في أعلى الجبل. كلّ ما في وسعي هو أن أحتمي بدهاليز ومتنفّسات تُدعى عندنا في المغرب "باحات الاستراحة"، وهي كلها مساحات متشابهة في مكوناتها وألوانها ومعروضاتها، كي أستأنف السير، أو كي تأخذني الطريق من جديد وأسلّم نفسي إليها.

المسار مسار خاصّ، أما الطريق فهي ملك للجميع، إنها ملك "عمومي" لا يحقّ لأحد أن "يقطعه" أو يقتطع منه

لا بدّ أن نسجّل مع ذلك بأنّ الطريق السّيار أكثر قسوة من الطرق المألوفة. تتجلى "قسوته" أوّلا إزاء الطبيعة، فهو أكثر إتلافا لرونقها، وأقلّ احتراما لانتظامها. باستطاعته أن يخترق الجبال، ويدكّ الهضاب، ويقسّم الحقول. لكنه، فضلا عن ذلك، أشدّ قسوة على الإنسان. فإن كان هذا الأخير قد آلف أن "يأخذ" الطرق، ويختار في ما بينها، ويقف على جنباتها، ويتوقّف عند باعتها، ويعيّن  لنفسه أماكن راحته، فإنّ الطريق السيّار هو الذي "يأخذه"، وهو الذي يفرض عليه أماكن التوقّف، وحتى شرطة الطريق لا يمكنها أن توقفك وأنت تسير عليه، أماكن التوقف تعينها الطرق السيارة ولا أحد سواها. الطرق السيارة "تهاب التوقّف"، وهي لا تعرف إلا الحركة، وهي التي تعيّن سرعتها في طريق خالية من حركة الراجلين، طريق لا حياة في جنباتها، طريق لا تتمتع بأيّ تفرّد، ولا تختلف إطلاقا عن الطرق السيارة جميعها، أنّى كان موقعها.

ربما لذلك، لا يمكنني أخذ صورة على جنبات الطرق السيارة، ليس فحسب لأن توقّفي مرهون بأماكن بعينها، وإنّما لأنّ العين التي تربطني بهذه الطرق هي عين كاميرا السينمائي الذي لا تهمّه لقطة بعينها بقدر ما تهمّه حركة الصور اللانهائية التي لا تكفّ عن الحركة. وهذا على عكس العين التي تربطني بالطريق عادة، والتي هي عين آلة التصوير، التي تختار مكان التقاط الصورة، وزاويتها، والمناسبة التي تُؤخذ فيها.

 كل هذا لا توفّره لي الطرق السيارة. لأنني عندما أرتادها، لا أخرج منها متى شئت وأنّى شئت. لأنّ الطريق السيار مسلك مغلق لا تملك أن تخرج منه حسب إرادتك، وغالبا ما تكون مجبرا على قطعه بكامله حتى تعثر على منفذ لثني الطريق، أو تغيير الاتجاه. لا يعني ذلك أن هذا الطريق متاهة لا مخرج منها، كل ما في الأمر أنه هو الذي يقودك ويوجّهك، ويفتح لك المنافذ حيث شاء.

Getty Images
مارتن هايدغر 1961

يفضل هايدغر دروب الغابة التي لا تؤدي إلا إلى الغابة، والتي تُختطّ من جرّاء السير عليها، على الطرق التي تُخطّ في غيابنا، ولا يكون علينا إلا أخذها لبلوغ أهدافنا، فما بالك بالطرق السيارة التي هي تأخذنا فتسير بنا وتتحكم في حركاتنا وسكناتنا، وليس من غير مقابل. ذلك أن الطريق السّيّار ليس ملكا عموميا، من يرتاده عليه أن يؤدي الثمن، وأن يشتري "حق السير". فلا عجب إذن أن يظل هذا الطريق بعيدا عن مرتاديه بمعاني الكلمة جميعها: بعيدا جغرافيا، فهو لا يخترق مدننا، وغالبا ما يرمي بنا بعيدا عنها، وبعيدا نفسيا، فهو لا يحفظ لمرتاديه بأيّ ذكرى، وهم لا يذكرون عنه شيئا، وهذا مهما تعدّدت المرات التي يرتادونه فيها.  

font change

مقالات ذات صلة