ترجمة النصوص المقدّسة: جسور بين الثقافات أم جدران عازلة؟

 Lina Jaradat
Lina Jaradat

ترجمة النصوص المقدّسة: جسور بين الثقافات أم جدران عازلة؟

يعتبر فالتر بنيامين، في مقالته الشهيرة "مهمة المترجم" (1923)، أن المترجم الرديء، هو ذلك الذي "ينقل المعلومات" فحسب من لغة الأصل إلى لغة أخرى، معرّفا الترجمة الرديئة، تاليا، بأنها "نقل غير دقيق للمحتوى غير الجوهريّ"، ويقصد بذلك الفروقات الصغيرة الكامنة في اللغة الأصلية، أو في ما وراء تلك اللغة. ويتبدّى ذلك أكثر ما يتبدّى، بحسب بنيامين في مقالته التي كُتبت كمقدمة لترجمة شعر بودلير إلى الألمانية، أن هذه المسألة تتجلّى أكثر ما تتجلّى في ترجمة الشعر. تلك التي وجدها الجاحظ في كتابه "الحيوان" مستحيلة، إذ اعتبر أن المعجز في الشعر العربي يتمثّل في أوزانه وقوافيه، وكيف يمكن نقل ذلك من العربية إلى اليونانية مثلا دون أن يفقد الشعر عنصره المعجز ذاك. وإذ يشير الجاحظ إلى ضرورة إلمام المترجم باللغتين إلماما متساويا، أي أن يكون المترجم مجيدا للغتين، المنقول إليها والمنقول منها، إجادة تامة، فإنه في الوقت عينه يشير إلى جوهريّة أن يكون المترجم عارفا بالموضوع الذي يترجم عنه من لغة إلى أخرى، عالما به، فلا يعقل أن يترجم أمور الطب والفلك والهندسة والحساب، من لا يفقه هذه العلوم، ويحيط بمبادئها ويعرف دقائقها، فكيف إذن بمن يترجم علوم الدين.

خيانة وأمانة

يقول الجاحظ: "هذا قولنا في كتب الهندسة والتنجيم والحساب واللحون فكيف لو كانت هذه الكتب كتب دين وإخبار عن الله – عزّ وجل، بما يجوز عليه مما يجوز عليه، حتى يريد أن يتكلم على تصحيح المعاني في الطبائع. ويتكلم في وجوه الإخبار واحتمالاته للوجوه. وحتى يعرف ما يكون من الخبر صدقا أو كذبا وما لا يجوز أن يسمّى بصدق ولا كذب، وحتى يعرف اسم الصدق والكذب وعلى كم معنى يشتمل ويجتمع، وعند فقد أي معنى ينقلب ذلك الاسم وكذلك معرفة المحال من الصحيح وأي شيء تأويل المحال" إلخ.

فأيّ موضع أنسب للزجّ بكلمتي الكذب (التي تساوي في هذه الحالة ما اصطلح على تسميته بالخيانة) و"الأمانة" (الصدق) من نقل كلمة الله؟ بل إن الكلمة الأنسب لمقتضى الحال، التي وردت على سبيل المثل، في الحكم الذي قضى بإعدام الإنكليزي وليام تيندال في العام 1536 بسبب ترجمته الكتاب المقدّس من الإغريقية إلى الإنكليزية، كانت "الهرطقة"، تلك الكلمة الفضفاضة التي عُلّق الآلاف بسببها على الصليب، والتي توازي في الحكم الآنف الذكر، بين الترجمة والكفر، وتجعل منهما فعلا واحدا أو "جريمة" واحدة.

كان التأويل منذ فجر انتقال النصوص بين اللغات والثقافات، جزءا أصيلا من عملية الترجمة

في حقيقة الأمر لم يعدم تيندال بسبب ترجمة الكتاب المقدس (العهدان القديم، غير المكتمل، والعهد الجديد)، بل إن تهمة الهرطقة التي وجهت إليه كانت بسبب عدم حصوله على ترخيص من السلطات الكنسية للقيام بالترجمة، وأن ترجمته جاءت حافلة بالأخطاء إلى درجة أن "البحث عن أخطائه يعادل البحث عن المياه في البحر"، بحسب وصف معاصره توماس مور، وقد حظرت الكنيسة الكتاب في 1526، قبل اتهام صاحبها بالهرطقة في 1529. أما السبب غير المباشر فهو ما يمكن وصفه بالكيدية السياسية، إذ رفض تيندال تأييد فسخ زواج ملك إنكلترا هنري الثامن من كاثرين الأراغونية، لصالح الزواج من آن بويلين. وهو سبب ربما يودي به إلى الاغتيال، لكنه لا يؤدي به بالضرورة إلى الحرق على الصليب، وهو ما وفرت ترجمته للكتاب المقدس، سببا كافيا له، علما أن – للمفارقة – مور نفسه أعدم هو الآخر قبل تيندال بعام للسبب "السياسي" نفسه.

في هذا السياق يلفت الباحثان كيفن ويندل وأنتوني بيم في دراسة لهما (ضمن "كراسة أوكسفورد حول الترجمة الأوروبية العلمانية"، 2011)، إلى حادثة أخرى، قريبة زمنيا من حادثة إعدام تيندال، وهي إعدام الفرنسي إتيان دوليه عام 1545، أيضا بتهمة "سوء ترجمته" لمحاورات أفلاطون. وكان دوليه الذي اعتبر أن من يترجم النصوص حرفيا "مفتقر إلى الحكمة"، قد أوّل عبارة أفلاطون "بعد الموت لا يعود لك من وجود"، فأضاف إليها عبارة "ولن تكون شيئا على الإطلاق"، وهذا التأويل عدّته السلطات الكنسية في ذلك الوقت إنكارا للحياة الآخرة، وما يستتبعه ذلك من تكفير وإقامة لحدّ السيف.

عملية تبادلية

تؤكد هذه الوقائع وغيرها الكثير، أنّ التأويل كان منذ فجر انتقال النصوص بين اللغات والثقافات، جزءا أصيلا من عملية الترجمة، سلبا أو إيجابا، فالكلمات في ذاتها، حمّالة أوجه، والكلمة نفسها، معزولة عن أي سياق وأي تجاور، قد تعني أيّ شيء وكلّ شيء، بيد أن اجتماع سلسلة كلمات في عبارة أو أكثر، يمنح تلك الكلمات حياة أخرى، تنتظم فيه كل واحدة منها، في معنى ما، دون أن يعني ذلك البتة نهائية المعنى أو انتهاء التأويل. فكما يقول عبد السلام بنعبد العالي ("إعادة الترجمة لماذا؟، "المجلة" فبراير 2024)، فإن "من النصوص، حتى إن ظلت 'سليمة' عند نشرها ولم تمسسها يد محرفة، فإنها تعرف تحولات كبرى في فهمها وتأويلها والقيمة التي تُعطى إياها، بل إن منها ما لم يفتأ يعرف قراءات متجددة"، ويضيف: "لذا علينا أن نستبعد الاكتفاء بالقول إن تعديل الترجمات يرمي أساسا إلى تجاوز "أخطاء" الترجمات السابقة. ربما ينبغي لفهم تحول الترجمات أن نتخلى عن الصواب والخطأ معيارين لجودة الترجمة أو رداءتها. فليست هناك ترجمات خاطئة وأخرى صائبة. ربما يمكننا أن نكتفي بالقول في هذا الصدد، إن هناك ترجمات غير ملائمة، وأخرى أكثر ملاءمة".

فالترجمة هي، في نهاية المطاف، عملية تبادلية بين المترجم والمتلقي، مثلما أن الكتابة بأشكالها المختلفة، عملية تبادلية بين الكاتب والقارئ. هذه الخاصية هي التي تجعل النص عملا في عملية تأويل لا تنتهي، لأن قراءته أو بالأحرى قراءاته لا تنتهي، ويظل النص الأصلي، وذلك المترجم، ناقصين، من دون عملية التلقي. فمنذ اللحظة التي تبدأ فيها رحلة النص من لغة إلى أخرى، ومن ثقافة إلى أخرى، ومن عصر إلى عصر، يغدو شأنه شأن النص الأصلي، مقروءا بلغته الأولى، متغيرا بتغير متلقيه وظروف التلقي. وهذا ربما ما يوجب الحذر عند الكلام على "صحة" الترجمة و"خطئها"، وهذا بالضبط ما رأيناه في النقاشات المستفيضة حول أولى ترجمات الكتاب المقدس، سواء تلك التي اعتمدت مصادر عبرية أو إغريقية أو لاتينية، أو استندت إلى لغات أوروبية بينية، حيث ينتقل النقاش من كونه لغويا لسانيا، إلى كونه لاهوتيا وأحيانا سياسيا.

كلمة الله

في العودة إلى اللغة والمقدّس، ظلّ النص الديني ردحا طويلا من الزمن هو الدافع الأول إلى الترجمة، بداية من ترجمة التوراة إلى اليونانية، ثم إلى اللاتينية، مرورا بترجمة العهد الجديد، ثم القرآن الكريم، وغير ذلك من الكتب المقدّسة. واللافت أنه في حين يراد من تلك الترجمات أن تنشر النصّ المقدّس خارج حدوده اللغوية المعهودة، إلى أقوام ناطقة بلغات أخرى، وبالتالي إيصال "كلمة الله" وربما التبشير بها، في تلك اللغات، فإن فعل الترجمة نفسه، حين يتعلق الأمر بتلك النصوص، يمكن عدّه أحيانا، شكلا من إقامة الحدود بين الأديان، بالتوازي تماما، مع تلك الجسور المراد تشييدها بين البشر. المسألة تغدو أشدّ إشكالية حين نحصر الأمر في نطاق الديانات السماوية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، حيث تعمل بعض الترجمات ضمن المنطق والسياق نفسه، وبالتالي تؤدّي الغرض نفسه الذي كانت تلك الديانات تعمل به وتؤديه، فنراها تخلق التمايزات وتعزز الاختلافات، بدلا من أن تبحث عن المشتركات حيث توجد.

 تؤدّي بعض الترجمات الغرض نفسه الذي كانت اتجاهات دينية تؤديه، فنراها تخلق التمايزات وتعزز الاختلافات، بدلا من أن تبحث عن المشتركات

نلاحظ في هذا السياق أن ترجمة التوراة مثلا، لم تكن في أساسها تستهدف الثقافات الأخرى، بل تقصد أتباع اليهودية، المنتشرين في الأرض، ولا سيما في أوروبا، ومن هنا كانت الترجمة إلى اللاتينية على أيدي رجال دين يهود، والأمر عينه ينطبق على الإسلام الذي تستهدف ترجمته في الغالب، لا سيما الرسمية منها (بالحري شبه الرسمية لأنه ليس هناك ترجمات رسمية)، المسلمين أنفسهم في ثقافات أخرى لا تتحدّث العربية، هذا مع العلم أنها تشترك مع المسيحية، على عكس اليهودية، في فكرة التبشير ونشر الديانة إلى أقوام لا تتبعها أو تتبع ديانات أخرى. لعلّ أوضح مثل على ذلك هو ترجمة لفظ الجلالة نفسه. وسأتوقف حصرا عند الترجمة من العربية إلى الإنكليزية، دون الغوص في الجذور الأنثروبولوجية واللغوية والثقافية في اليهودية والمسيحية، امتدادا من العالم القديم والعالم الإغريقي، إلى يومنا.

ترجمات القرآن

أول ترجمة مؤرخة للقرآن إلى الإنكليزية (بعد ترجمات سبقتها إلى الفرنسية والإيطالية والألمانية والروسية والإسبانية) هي ترجمة الأسكتلندي ألكسندر روس (1590 - 1654) ولم تكن مباشرة عن العربية، بل جاءت من ترجمة أندره دي ريير، قنصل في الإسكندرية، إلى الفرنسية. بصرف النظر عن نظرة روس أو من سبقوه أو تلوه إلى ترجمة القرآن، منذ القرن الثاني عشر للميلاد حتى القرن العشرين، إلى الإسلام نفسه، وهي نظرة يدخل الكثير منها في باب "اعرف عدوك"، أو في باب المحاججات اللاهوتية، أكثر مما تشكل مسعى حضاريا لبناء الجسور. بصرف النظر عن ذلك، ما يهمنا هو ترجمة لفظ الجلالة، وهو يرد في نسخة روس وفقا للكلمة الإنكليزية (الألمانية الجذور) God، ولا يرد منقحرا (النقحرة أو "الحرفنة"، وهي النقل الصوتي للغة ما إلى لغة أخرى) كما بتنا نجد في ترجمات عديدة لاحقة، أي Allah.

كذلك الأمر بالنسبة إلى أول ترجمة مؤرّخة للقرآن الكريم من العربية إلى الإنكليزية يقوم بها مسلم، بحسب مسرد ترجمات القرآن المتوافر على الشبكة العنكبوتية، وهو هندي يتبع المذهب الأحمدي يدعى محمد عبد الحكيم خان ونشرت في 1905، وهي لا يعتدّ بها كترجمة، سواء من حيث اتساعها وحجمها، فهو لا يترجم القرآن الكريم كاملا، أو من حيث جودتها. إلا أن ما يهمنا في ترجمته تلك، أن هدفها الضمني كان الردّ على الديانات الأخرى، سيما المسيحية. وفي مقدمته القصيرة لا يغفل "المترجم" الربط بين اللغة والمقدّس، في إشارة دالة إلى "استحالة" ترجمة النص القرآني فعليا: "إن تسامي لغة القرآن وعمقها، ليس ممكنا لأي إنسان التعبير عنها تماما بأي لغة بشرية، إلا إن قاد الوحي كلّ كلمة من كلماته". لينتقل في ترجمته (بالأحرى تفسيره) للفاتحة، إلى تعريف "أل التعريف" العربية، وذلك ليس في معرض إثباته كلمة Allah بدلا من God كما نرى في كثير من المحاججات الراهنة، بل في معرض شرحه المجمل للآية الثانية "الحمد لله رب العالمين" التي يترجمها إلى All the Praises are for Allah. وفي حين يعتبر أن إثبات الكلمة المنقحرة Allah لا تحتاج إلى تعليل فإنه يعللها في "الحمد لله" all Praises: "الكلمة العربية (أي الحرف) الـ تتضمن الشمولية وهي تشير إلى جميع القوى السامية والصفات التي تتشكل منها الألوهة، والتي لا يستحق أن يوصف بها إلا الله". ثم يدلي بموقف ديني يعلل سبب إسباغه كلّ هذه القدسية على كلمة "الحمد" بالقول: "في الطبيعة الفاسدة وحدها، وفي الضمير المنحرف، والثقافات الخرافية، ينسب المرء قوى عليا إلى أي كائن، سواء أكان إنسانا أم شمسا أم نجما أم قمرا أم صورة". ليكون ذلك بمثابة ردّ ضمني على المسيحية، وسواها.

 Lina Jaradat

وقد جاءت الترجمة التالية من مسلم في العام 1911، بحسب مصادر، أو 1912 في مصادر أخرى، على يد رجل دين من البنغال (بنغلادش اليوم) يدعى ميرزة أبو الفضل، ومن الواضح أنه كان يتقن العربية والإنكليزية، وإن شابت ترجمته، على غرار جميع من ترجموا القرآن قبله، أخطاء ومواطن ضعف كثيرة، يعترف بها المترجم، ويعزو بعضها إلى "شيطان المطبعة الهندية"، أي إلى الأخطاء المطبعية، وإن كانت المسألة تتجاوز ذلك بكثير. إلا أنه يبقى المهم أن الرجل قرّر ترجمة لفظ الجلالة إلى كلمة God الإنكليزية التي تدلّ عليها، ولم يختر كما وجدنا قبله وبعده، وإلى يومنا، استبدالها في أحايين كثيرة بكلمة Allah، ولا أعرف ما الذي دفعه ومن قبله إلى هذا الخيار، إلا أنه بدا على الأرجح الخيار العقلاني والمنطقي الوحيد.

المسلمون غير العرب

يبدو لافتا أن جميع ترجمات القرآن إلى الإنكليزية، وهي تربو على العشر، حتى النصف الأول من القرن العشرين، أنجزها مسلمون غير عرب من الهند أو ماليزيا أو باكستان. وهناك ترجمتان أنجزهما بريطانيان، أحدهما اعتنق الإسلام، لتأتي الأولى من شخص "عربي" (بالمعنى الحضاري والجغرافي)، في 1956 على يد العراقي اليهودي نسيم يوسف داود (1927 - 2014)، وهي الترجمة التي لا تزال الأكثر مبيعا بين ترجمات القرآن إلى الإنكليزية (70 طبعة إلى وقتنا هذا)، وقد اشتغل داود عليها بعد إنهاء دراسته بموجب منحة من الحكومة العراقية في 1945، حيث درس الآداب الإنكليزية في جامعة لندن، ليدعوه ناشر "بنغوين" السير ألن لاين إلى ترجمة "ألف ليلة وليلة" (1954) ثم ترجمة القرآن الكريم.

يبدو لافتا أن جميع ترجمات القرآن إلى الإنكليزية حتى النصف الأول من القرن العشرين، أنجزها مسلمون غير عرب

بعد ذلك تأتي نحو 17 ترجمة للقرآن إلى الإنكليزية جميعها من المناطق الجغرافية الآنفة الذكر، وأنجزها مسلمون من تلك البلاد (أن المسلمين العرب 20 في المئة من مسلمي العالم)، حتى صدرت ترجمة إنكليزية أنجزها عرب في لبنان عام 1980، بتكليف من المجلسين السني والشيعي، وقد أنجزته مجموعة من أساتذة الجامعة الأميركية ببيروت، بمشاركة وإشراف البروفسور محمد يوسف زايد (توفي في 1994)، التي يرى بعضهم أنها ليست إلا تنقيحا للترجمة التي أنجزها نسيم يوسف داود، وأن الترجمة الجديدة لا تحلّ حتى بعض المعضلات الترجمية والغموض الذي انطوت عليه في بعض المواضع.

يطول الحديث بعدئذ عن الترجمات المتتالية للقرآن الكريم إلى الإنكليزية (وهي اللغة الغالبة بين اللغات التي ترجم إليها والتي تتجاوز المئة ترجمة)، مع ملاحظة غلبة ترجمة غير العرب، على الناطقين بالعربية، وملاحظة أخرى هي أنه ليس هناك ترجمة عربية "رسمية" للقرآن، بمعنى أن تتبناها بوضوح مؤسسة دينية كبرى، ربما انطلاقا من فكرة أن كلّ ترجمة للقرآن ما هي في نهاية المطاف سوى اجتهاد شخصي للمترجم/المترجمين، ولا يمكنها أن تكون مطابقة لأصالة النص بلغته العربية، بل إننا نجد أن ثمة فتاوى صدرت عن علماء دين كبار تتعلق بمشروعية ترجمة القرآن من عدمه، وجميعها تتضمن هذا التحفظ.

وإذ تتطلب أي خلاصات جادة حول هذه الترجمات، دراسات معمقة، خصوصا أننا أمام أنماط متعددة من الترجمة، منها ما يسمّى تفسيرا ومنها موجزا، ومنها ترجمة نصّية غير شارحة، فإننا نجد أن مبدأ "النقحرة" لا يزال قائما في ترجمة القرآن إلى الإنكليزية، منذ فجر تلك الترجمات وإلى وقتنا هذا، وهو عامل مشترك في أغلب الأحيان بين ترجمات من يمكن وصفهم بالمستشرقين، ومن هم مسلمون.

لفظ الجلالة

وفي ما يتعلق بلفظ الجلالة "الله" على وجه التحديد، فإننا نجد من يحاجج بأن تثبيت لفظAllah في ترجمات القرآن إلى الإنكليزية، عوضا من كلمةGod إنما هو للتمييز عن الديانات الأخرى (المسيحية خصوصا) بأنه ليس "أي إله" بل الله الواحد الأحد، وهذا دور ألـ التعريف بحسب تلك الترجمات، وهو الدور نفسه في نقحرة كلمة "الرب" Alrabb في بعض منها.

إذا كان هذا الواقع معاشا وملموسا داخل الإسلام نفسه، فلا ينبغي أن نتوقع أقلّ من ذلك بين الأديان السماوية المختلفة

واللافت أن الترجمات الاستشراقية التي تعتمد الأسلوب نفسه، فكأنما تتبنّى هذا المنطق، وإن بطريقة مقلوبة، فعبر إثبات لفظAllah يبدو أن الحديث يدور حول إله آخر، إله خاص – وربما غريب - بهذه المجموعة البشرية التي تعتنق الإسلام، وليس الرب أو الإله نفسهGod. ومثل هذا الاستخدام يتخذ شرعيته من استخدام المسلمين أنفسهم له، وفي الحالين فإن النتيجة الإيحاء أو الإيهام بأننا لسنا أمام الرب نفسه، وهو ما يتجلى بخفّة أكبر في الإعلام، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويساهم في خلق هوّة ما زالت تتسع، على الرغم من كلّ مساعي التقريب، بين الديانات والثقافات، وتجد ترجماتها صراعا حول من يعبد الله بالطريقة الصحيحة، ويصلي له ويتقرّب منه (عبر النصوص الدينية) بالطريقة الصحيحة.

في حرب غزة الأخيرة انتشر مقطع فيديو لجندي مقبل على تفجير مسجد في إحدى مدن القطاع، وهو يخاطب جمهوره بالعبرية قائلا إنه لن يذكر في هذا المكان بعد اليوم إلا دعاء مباشرة الصلاة العبرية "اسمعي يا إسرائيل"، بدلا من الآذان الإسلامي أو عبارة "الله أكبر الله أكبر"" التي تصدح من مآذن تلك المساجد. فإذا كان "الضياع في الترجمة" قد ساهم في ولادة تيارات إسلامية متشدّدة، جمهورها وحطبها من غير الناطقين بالعربية (وهم الغالبية) كما رأينا مع تجربة "داعش" أو "القاعدة"، تنظر إلى اللغة بوصفها رموزا طقوسية، لا ناقلة للمعاني والأفكار، أي إذا كان هذا الواقع معيشا وملموسا داخل الإسلام نفسه، فلا ينبغي أن نتوقع أقلّ من ذلك بين الأديان السماوية المختلفة.

font change

مقالات ذات صلة