التمرد في الشعر العربي بين الشكل والمضمون

من المعلقات حتى الحداثة

Lina Jaradat
Lina Jaradat

التمرد في الشعر العربي بين الشكل والمضمون

يحيا الشعر على التمرد، أي الخروج على النظريات أو القوانين التي تحاول أن تضع له التحديدات والضوابط، أو تسعى إلى توجيهه انطلاقا من أفكار أو معتقدات جاهزة. والشعر، الذي يسعى في طبيعته إلى التجديد والابتكار، كثيرا ما يتعرض للتضييق عليه من ناحية القِيَم السائدة والقائمين عليها، فيجد نفسه في مواجهة التقاليد على أنواعها. والشعر العربي منذ بداياته عرف الكثير من المصاعب التي اعترضت سبيله، وفي الأخص من الجهات التي حاولت توظيفه لهذه المصلحة أو تلك. فلم يجد، في مراحل ازدهاره وتألقه، سوى سبيل التمرد، لكي يقاوم ضد الجمود والتقليد، لكي لا يستسلم لِما هو مغلَق أو نهائي.

ما قبل الإسلام

الشعر، في ما عُرف بالعصر الجاهلي، الذي يضم أولى القصائد التي وصلتْنا ووجدنا فيها بدايات ما نعرفه من الشعر العربي، ينطوي في مجمله على نزعة إلى الانعتاق والتمتع بالحرية والإقبال على الحياة. وهذه النزعة تظهر بوضوح في المعلقات، التي هي قصائد طويلة تتشابه في الظاهر، وتختلف الواحدة عن الأخرى في العمق، اختلافات ليست بالقليلة.

فالمعلقة التي تحتوي على أغراض معروفة، كالوقوف على الأطلال وتذكّر الأحبة، ووصف الطبيعة أو الحصان، والتغزل بالحبيبة أو الحبيبات، والكلام على الحرب أو السيل ... أو غير ذلك، تنحو نحو التعبير عن جانب أساسي من جوانب الحياة العربية في المجتمع القبَلي في الصحراء، فيربط بين أجزائها أو مقاطعها خيط من الدلالات التي تُفضي إلى ذلك الجانب الذي تنحو نحوه. في ضوء هذا، من يتعمّق في قراءة المعلقات، يلاحظ مثلا أن معلقة طرفة هي قصيدة الفرد أو الفردية، ومعلقة لبيد هي قصيدة الرجولة، ومعلقة عنترة هي قصيدة الفروسية، ومعلقة عمرو بن كلثوم هي قصيدة الجهل (بمعنى الشدّة أو البأس)، ومعلقة الحارث بن حلّزة هي قصيدة المسؤولية، ومعلقة زهير هي قصيدة العقل أو التعقل، أما معلقة امرئ القيس فهي قصيدة الوجود أو التأمل الوجودي...الخ. هكذا تكون المعلقات غير متشابهة في العمق، وإن كانت متشابهة في أغراضها. وهذه الأغراض ليست سوى عناوين كبيرة، ففي تناولها من قِبل شعراء المعلقات، تظهر التباينات أو التمايزات الكبيرة. فحصان امرئ القيس لا يشبه حصان عنترة في شيء، والحب عند الأول لا يشبه الحب عند الثاني في شيء... وهكذا نجد الشاعر الجاهلي سيد موضوعه، يظهر من خلاله كأنه ينصّ على القِيَم بدلا من الخضوع لها. هو الذي يوجِّه، وليس الذي يتلقّى التوجيهات.

هناك في الشعر الجاهلي قصائد تعبّر عن تمرّد في المستوى الاجتماعي، تمرّد على نظام القبيلة. وهذا ما نجده خصوصا في شعر الصعاليك

إلى جانب المعلقات، هناك في الشعر الجاهلي قصائد تعبّر عن تمرّد في المستوى الاجتماعي، تمرّد على نظام القبيلة. وهذا ما نجده خصوصا في شعر الصعاليك، وفي الأخص في "لامية العرب" للشنفرى، الشاعر الذي خرج من قبيلته وحاربها واتخذ من حيوانات الصحراء أهلا له:

     ولي دونكم أهلونَ سِيدٌ عمَلّسٌ       

وأرقَطُ زهلولٌ وعرْفاءُ جيْألُ

     همُ الأهلُ لا مستودعُ السرّ ذائعٌ      

لديهمْ ولا الجاني بما جاء يُخْذَلُ

   قد يصح لنا الاستنتاج أن الشعر في العصر الجاهلي انطوى على التمرد، أو على ما يشبه التمرد من إقبال على الحياة وتمتع بالحرية.

في المراحل الإسلامية

 انكفأ الشعر في المراحل الأولى من الإسلام. وذلك لأسباب أبرزها ظهور القرآن تحديا للشعر وتشريعا للحياة العربية الجديدة في مختلف جوانبها. وتراجعت مكانة الشاعر الذي صار مدعُوّا إلى التزام القيم الإسلامية في سلوكه وشعره. ولأن المذاهب والأحزاب تكاثرت في العصر الأموي، ظهر الشعر السياسي مترافقا مع نشأة علم الكلام، الذي انبثق من جدالات في القضايا الفكرية والعقائدية والبلاغية... وغير ذلك. ومع بدايات العصر العباسي، راح علماء اللغة والبلاغة ونقّاد الشعر يعملون على صياغة نظرية تضع الحدود والمعايير للحكم على الشعر، ولتمييز جيّده من رديئه. ولم ينته القرن الرابع الهجري قبل أن تكون النظرية النقدية "عمود الشعر" قد تبلورت بصيغتها النهائية على يد المرزوقي، صاحب كتاب "شرح ديوان الحماسة لأبي تمام". وكان قد مهّد لها نقّاد وبلاغيون كالجاحظ وقدامة بن جعفر وأبي هلال العسكري والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني... وغيرهم.

   هذه النظرية هي أقرب ما يكون إلى تشريع للشعر، يُضاف إلى غيره من تشريعات إسلامية في مناحي الحياة المختلفة. ربما يصح القول إنها نظرية أخلاقية أكثر منها نظرية فنية أو شعرية. وقد استفاد النقّاد في وضعها من جهود اللغويين والفقهاء وعلماء الكلام وبعض الفلاسفة. لكن الشعراء البارزين في العصرين العباسيين الأول والثاني لم يأبهوا بها، بل تمرّدوا عليها وعلى ما رمتْ إلى تقييدهم به من تحديدات أو معايير أو مقاييس... أو ما شابه ذلك. وكان من أبرز المتمردين بشار بن برد وأبو نواس، وبعدهما أبو تمام والمتنبي وأبو العلاء. هذا على سبيل المثل لا الحصر. وكان لكل من هؤلاء الشعراء طريقته الخاصة في التمرد وفي قول الشعر. وفي تمردهم تمثلت حركة التجديد أو الحداثة (العباسية)، التي نهضت بالشعر بعد تراجع أو انكفاء.

وجوهٌ للتمرّد

لن أخوض هنا في تفصيل الكلام على كل واحد من الشعراء الذين سبَق ذكرهم. وإنما سأشير إلى أبرز ملامح التمرد التي تجلّت في أشعارهم.

   بشار وأبو نواس تمرّدا على نحو فكري، وقد تمثل ذلك في دعوة الأول إلى عقلانية تُشكك في ثقافة "النقل" برمتها، وتمثل لدى الثاني في تعبيره عن مواقف صريحة من العروبة والإسلام، هي مواقف مناقضة أو سلبية إزاءهما. وقد وجد أبو نواس في الخمرة وتمجيدها سبيله إلى التعبير عن مواقفه تلك، التي تنحو أحيانا منحى فلسفيا. وقد امتدّ به الأمر إلى السخرية من عادات الشاعر العربي، وفي الأخص عادة الوقوف على الأطلال وذكر الأحبّة:

         عاج الشقيُّ على رسْم يسائلهُ      

وعجْتُ أسأل عن خمّارة البلدِ

   أما أبو تمام فقد وجد في البيان والتصوير مجاله الأثير لتمرّده على ما نصّت عليه النظرية "عمود الشعر" من مقاربة في التشبيه، أو مناسبة المستعار منه للمستعار له، فكان له بذلك أن يُحدث ثورة في الشعر طابعها الأبرز هو الطابع البلاغي.

ظهر الشعر السياسي مترافقا مع نشأة علم الكلام، الذي انبثق من جدالات في القضايا الفكرية والعقائدية والبلاغية

  وبعد أبي تمام، عرف المتنبي كيف يستثمر إنجازات المتمردين من قبله، في مشروعه الشعري الذي جسّد شعوره بالتفوق، متعاليا على المشاحنات الفكرية والعقائدية التي شاعت في زمنه، ومعبّرا في الوقت نفسه عن ثقافة عصره، على نحو لم يفرّط بذلك التوازن الفريد في قصائده بين عناصر التأليف الشعري، لغوية كانت أو بلاغية أو بنائية أو غير ذلك.

   وفي نهايات المرحلة العباسية، كان لأبي العلاء المعري أن يجسّد التمرّد في أقصى حدوده، بما نظمه من أشعار في "سقط الزند" وفي "اللزوميات". لقد أفضت به عقلانيته إلى التشكيك في جميع العقائد والمذاهب والفلسفات التي كانت معروفة في زمنه. ولم يكتف بذلك، بل جعل من شعره حقلا للنقاش والمحاججة، فارتضى أن يكون الجانب الفكري طاغيا على قصائده، التي التزمت في معظمها ما لا يلزَم. 

   إلى هؤلاء الشعراء المتمردين في المرحلة العباسية يعود الفضل في تجديد الشعر، وإغنائه بمضامين "حديثة"، وتوسيع آفاقه. إلى هؤلاء تُنسَب الحداثة الشعرية التي كانت بمثابة ثورة من داخل نظام القصيدة، نظامها العروضي والبنائي.

في الحداثة المعاصرة

   بعد المرحلة العباسية، مرّت على الشعر العربي قرونٌ من الاستقرار أو الركود أو التكرار. لم تعرف هذه القرون حالات بارزة من التمرّد الشعري. وفي القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كان قصارى الشعراء العرب أن يعيدوا إلى القصيدة العربية بعض البهاء الذي كان لها في المرحلة العباسية، أو أن يطعّموها ببعض العناصر المستمدّة من آداب أجنبية (كما ظهر خصوصا في الاتجاه الرومانسي الذي بدأه خليل مطران وتابعه شعراء "جماعة أبوللو").

   حركة الشعر العربي الحديث التي انطلقت في منتصف القرن العشرين، على أيدي شعراء كالسياب والبياتي ونازك الملائكة، كانت محاولة للتمرّد على معظم العناصر التي استقرّ عليها الشعر العربي. كانت محاولة للتمرّد على نظام القصيدة من خارجه، وليس من داخله كما حصل مع الحداثة العباسية التي أتينا على ذكرها. لقد كسر الشعر الحديث نظام البيت المؤلف من شطرين، وتخلى عن القافية الواحدة في القصيدة. واقترن ذلك بالدعوة إلى ابتكار الرؤى الجديدة، التي ترمي إلى التغيير.

  شكل التمرّد عنوانا للحركة الشعرية الجديدة، التي راحت تتشعب مع الوقت في اتجاهات متعددة، وفي أشكال غير مسبوقة

والتجديد ليس في الشعر وحده، وإنما في الحياة والمجتمع أيضا. لهذا، يمكننا القول إن التمرّد شكّل عنوانا للحركة الشعرية الجديدة، التي راحت تتشعب مع الوقت في اتجاهات متعددة، وفي أشكال غير مسبوقة منها "قصيدة التفعيلة" و"قصيدة النثر". لكن التمرد كان عنوانا لهذه الحركة، أو شعارا منبثقا من آراء ومفاهيم مستمَدّة من تجارب غربية في جانب كبير منها. وكان لا بدّ من اختبار هذا كله للتمييز بين ما رمتْ إليه الحركة وبين ما حققته. لقد مضى على انطلاقتها أكثر من سبعين عاما، ولا تزال في مرحلة الاختبار كما يرى البعض. أما البعض الآخر فيرى أن الوقت قد حان لتقويم هذه التجربة والحكم عليها، مع الإشارة إلى ضعف النقد، أو تقصيره في القيام بهذه المهمة.

font change

مقالات ذات صلة