النُخب الديمقراطية وعطالتها

النُخب الديمقراطية وعطالتها

في البلدان المتميزة بحياة سياسية/ديمقراطية مقبولة بشكل ما في منطقتنا والتي تشهد مستويات معقولة من الحريات السياسية وتُجرى داخلها عمليات انتخاب حُرة ونزيهة إلى حد بعيد، وبشكل دوري. مثل تركيا ولبنان والمغرب والعراق، ماذا لو عرضنا المجموع الكامل لآراء ومواقف مختلف الزعماء السياسيين والقادة الحزبين والحكوميين وأعضاء الطبقة السياسية العليا في أي من هذه البلدان، سلطة ومعارضة، حول القضايا الأكثر عمقا مما هو سطحي ومباشر وملموس، عن بعض الأفكار السياسية المجردة والنزعات الأيديولوجية والمفاهيم العامة حول التعليم والحريات المدنية والفردية والآراء الفكرية، ومثلها مسائل متعلقة بالفنون والثقافة وشكل الروابط مع العالم الخارجي وما بحوزتنا من معطيات وحلول للمسائل الكونية، تحديدا تجاه المسألة البيئية.

ماذا لو أخذنا تلك السلة من المعطيات، وسألنا بعض المطلعين العموميين في هذه المجالات سؤالين بسيطين: هل في كل هذه المجموعة من المعطيات ما يُمكن تصنيفه كفكرة ورؤية أعمق مما هو يومي وملموس وسطحي تماما، وهل يمكن معرفة أي من هذه المواقف والمعطيات لأي من القوى السلطوية، وأيها لنظيرتها المعارضة؟

أغلب الظن، سيكون جواب السؤال الأول بالنفي تماما، أما الثاني فلن يتمكن أي مختص من الإجابة عليه بشكل صحيح، إلا صُدفة، مهما كانت درجة اطلاعه واندماجه ومتابعته للحياة السياسية في هذه البلدان.

سيحدث ذلك لثلاثة أسباب في ذوات أعضاء هذه النُخب السياسية في بلداننا الديمقراطية: أولا لأنها طبقة ترى في نفسها، ومنذ زمن بعيد، أنها في حلٍ تام من تلك المسائل، تعتبرها ترفا وممارسة لأشياء لا طائل منها. فكل الأفكار والنظريات السياسية الأكثر عمقاً مما هو مباشر وعياني ومصلحي، ومثلها المواقف الواجبة تجاه أكثر القضايا قداسة وتأثيرا على المجتمعات والدول، مثل الحريات العامة وفلسفة التعليم والعلاقة مع العالم الخارجي والموقف من مستقبل البيئة والكون، وصولا لأكثرها إلحاحا، كالبعد الفكري والأيديولوجي الواجب في الخيار الاقتصادي وسياسات الصحة العامة، هي بالنسبة لهذه النُخبة أشياء لا معنى لها، ولا دور أو طائل منها، وعلى الأغلب تراها أدوات لتفكيك ما تمتاز به من صلابة.

السبب الآخر، هو مدى التطابق الكارثي بين أعضاء هذه الجماعات السياسية في الجوهر، في مواقفها وآرائها من كل هذا الطيف من القضايا الشائكة. فهل لأحد مثلاً أن يُخبرنا ما الفرق بين خيارات ومواقف القيادي البارز في السلطة العراقية نوري المالكي من الحريات العامة والمدنية وما يناظرها من خيارات ومواقف لزعيم المعارضة مقتدى الصدر؟ وأية فروق واضحة بين آراء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من المسألة الخيار والفكر الاقتصادي في تركيا، وما يقابلها من آراء لرئيس أكبر أحزاب المعارضة أوزغور أوزيل؟ وما هي المسافة بين مواقف وخيارات مختلف أعضاء النخبة السياسية اللبنانية، على تنافرهم، من المسألة البيئية ومستقبل التعليم الوطني والصراع الطائفي في لبنان؟ هذا لو وجدت هذه المواقف والخيارات أولا.

السبب الثالث يتمثل في الغياب شبه التام لهذه القضايا عن المتن العام لمجتمعات هذه الدول. فازدراء وتأفف النُخبة السياسية العراقية- على سبيل المثال- من كل طيف القضايا والطروحات الفكرية، ثمة ما يوازيه تماما ويؤدي إليه ضمن السُبات العام للمجتمع. فالعراق بلد "ديمقراطي" لكن ليس فيه صحافة ذات قيمة ودور، وبعضها القليل الموجود كوسائل دعائية للأحزاب السياسية، وهو بهذا مثال نادر على المستوى العام. وليس في العراق جمعيات ومؤسسات للمجتمع المدني ذات مضمون، تختص وتدافع عن بعض القضايا والنزعات الأيديولوجية والفكرية والسياسية، ومثلها أيضا ثمة خواء نقابي وشبابي... إلخ. ومثل العراق تعيش مجتمعات البلدان المذكورة تماما.

ماذا لو عرضنا المجموع الكامل لآراء ومواقف مختلف الزعماء السياسيين والقادة الحزبين والحكوميين وأعضاء الطبقة السياسية العليا في أي من هذه البلدان، سلطة ومعارضة، حول القضايا الأكثر عمقا مما هو سطحي ومباشر

لمجادل أن يقول إنه ليس للطبقة السياسية، في أي بلد كان، سلطة ومعارضة، أن تكون نخبوية فكريا وثقافيا وأيديولوجيا، لأنها في المحصلة مجرد طبقة محترفة وممارسة للسياسة فحسب. وأن يضيف أنه ثمة تطابق ما واضح بين مواقف أعضاء الطبقة السياسية الأوروبية، سلطة ومعارضة، في كثير من القضايا الفكرية والثقافة.
وغير فداحة سوء الاطلاع التي تبني تلك المجادلة رأيها حسبه، فإنها غير صحيحة في ادعائها ومناقضة للأسس الموضوعية لسببين واضحين. 
أولا، لأن المطلوب من النُخب السياسية الحاكمة هو مجموعة من المواقف والآراء الفكرية والعقائدية حول هذه القضايا العامة، تسمح وتفتح لهذه القضايا المجال لأن تكون أكثر رحابة وارتباطا بالكل العالمي، ذات أفق وقائمة على أسس عقلانية لا عُصبوية وهوياتية، يستطيعون عبر ذلك العمق قيادة مؤسساتهم ونقاشهم العام، رسم ما يودون الوصول إليه بمجتمعاتهم. إذ لم يطلب أحد من أعضاء هذه النخبة أفكارا فلسفية وتحليلات فكرية ونظريات عملية عميقة ومجردة وجدلية، حيث إن هذه بالضبط ليست من مهامهم ووظائفهم. شيء شبيه بما هو مطلوب من مشجع ومتابع مباريات كرة القدم، إذ ليس مطلوبا منه أن يكون لاعبا احترافيا وذات بنية جسدية رياضية، لكن من الضرورة أن يكون على معرفة واضحة بقواعد اللعبة وشيئا من ثقافتها العامة، ليستحصل متعة متابعته لها. 
ثانيا، لأنه في الأنظمة السياسية الغربية، ذات الديمقراطيات الراسخة، لا تنحصر عمليات وآليات التغيير الواعي على الأحزاب السياسية والنُخب الحاكمة، بل ثمة ترسانة من الديناميكيات المجتمعية والمهنية والاقتصادية والإعلامية والتعليمية والفكرية، تؤدي وتُنتج عمليات التغيير بشكل دوري ومستدام، تؤثر على السلطة الحاكمة والمجتمع على حد سواء، فتنتج الواحدة منها الأخرى. وهو أمر غير حاضر أبدا في تجاربنا، فالذي يُنتج المجتمع والسلطة وكل أشكال الحياة في بلادنا، هي تلك النُخب الحاكمة، التي تعيش منذ زمن بعيد عطالة مستدامة، فتعطل كل شيء. 

font change