كيف وصف جغرافي إغريقي ساحل البحر الأحمر قبل 2200 عام؟

تحدث عن الجزيرة العربية ووصف حياة السبئيين

Shutterstock
Shutterstock
البحر الأحمر في دهب، مصر

كيف وصف جغرافي إغريقي ساحل البحر الأحمر قبل 2200 عام؟

في القرن الثاني قبل الميلاد وضع جغرافي إغريقي يدعى أغاثارخيدس الكنيدوسي كتابا بعنوان "عن البحر الأحمر" وصف فيه بصيغة المتكلم جغرافيا البلدان المحيطة بهذا البحر، وهو ما أعطى انطباعا بأن الكتاب أتى نتيجة رحلة شخصية شملت الإقليم بكامله، ومنه وصف غير مسبوق لساحل المنطقة الغربية من المملكة العربية السعودية واليمن، الأمر الذي شجع غالبية الجغرافيين الرومان والإغريق الذين أتوا بعده على الاقتباس منه بشكل مسهب أو مختصر. لكن، ومن سوء حظنا وحظ أغاثارخيدس، أن كتابه فقد منذ القرن التاسع الميلادي، ولم تصلنا منه سوى تلك الاقتباسات.

عن البحر الأحمر

من المرجح أن أغاثارخيدس ولد في مدينة كنيدوس وهي مدينة صغيرة على ساحل كاريا القديمة بالقرب من مدينة مارمريس التركية المعاصرة، ومن هنا جاءت تسميته بالكنيدوسي. استقينا معلوماتنا الضئيلة عن حياته من البطريرك القسطنطيني، ذي الأصل الأرمني، فوتيوس (820- 893م)، صاحب موسوعة "المكتبة" التي جمع فيها كل ما وصله من آداب وفنون الإغريق في مرحلتهم الوثنية بعدما أحرقت أو أتلفت الكنيسة معظم مؤلفاتهم، ومما عرفناه أن أغاثارخيدس، كان يعمل مساعدا للسياسي البطلمي المصري هيراكليدس ليمبوس، الشهير بأنه صاحب المعاهدة التي أنهت الصراع الطويل بين البطالمة في مصر والسلوقيين في سوريا عام 169 قبل الميلاد، وأن له كتابين معروفين بالإضافة الى كتابه "عن البحر الأحمر" موضوع مقالتنا هذه، هما: "شؤون آسيوية" في عشرة فصول، و"شؤون أوروبية" في تسعة وأربعين فصلا، وهي مؤلفات مفقودة لم تنج منها سوى شذرات لا تكفي لأن يكوِّن المرء عنها أدنى فكرة.

ثمة جدال قديم حول كتابه "عن البحر الأحمر" والغاية من تأليفه، فقد أوحت دعوته في الفصل الأول إلى غزو الأراضي الواقعة جنوب مصر، إلى الاستنتاج بأنه كان شخصية سياسية مهمة في عصره، وأنه ربما كان مربيا لأحد أبناء الملك بطليموس الثامن (182- 116 ق.م)، ولذلك يجادل بعض الباحثين المعاصرين بأن هذا الكتاب هو تلخيص لنتائج بعثة استكشافية بطلمية شارك فيها أغاثارخيدس الذي ناقش في الفصل الأول تسمية البحر الأحمر، ومن أين أتت، وفي الفصل الخامس تحدث عن سواحل الجزيرة العربية، ووصف حياة السبئيين، وطريقة حياة "أكلة السمك"، وكذلك طرق العمل في مناجم الذهب في جنوب مصر بالقرب من البحر الأحمر، والتي نسخها بالكامل، الجغرافي الشهير ديودور الصقلي (90- 30 ق.م). كما يعزى إليه أقدم وصف للزرافة التي أطلق عليها اسم "الجمل النمري"، وكذلك لوحيد القرن، وربما كان أول الإغريق الذين اكتشفوا السبب الحقيقي لفيضان نهر النيل سنويا.

كان أغاثارخيدس يعمل مساعدا للسياسي البطلمي المصري هيراكليدس ليمبوس، الشهير بأنه صاحب المعاهدة التي أنهت الصراع الطويل بين البطالمة والسلوقيين 

خليح اللحيانيين والأنباط

يبدأ أغاثارخيدس وصفه لساحل الجزيرة العربية من البحر الأحمر، مبتدئا بموقع مدينة بوسيدون التي بناها الإغريق عند مدخل خليج العقبة أو خليح اللايانيين (κόλπος Λαιανίτης)، كما يسميه، والمقصود هنا على الأرجح اللحيانيين الذين كانت مملكتهم في زمن صاحب الكتاب تحتل الجزء الشمالي الغربي من منطقة الحجاز. ويشير إلى أن بطليموس الأول سوتير (367 ق.م.-283 ق.م) حاكم مصر، أرسل شخصا يدعى أريستون لاستكشاف شبه الجزيرة العربية حتى المحيط الهندي، فأنشأ في ذلك الموقع على شرف رحلته، معبدا مخصصا لإله البحر بوسيدون بيلاجيوس. ويبدو أن هذا الخبر يفسر ظهور الإله الإغريقي بوسيدون على عملات مملكة عمانا في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد.

ويقول أغاثارخيدس إن محيط هذا الخليج مأهول بقرى كثيرة للعرب الذين يعرفون بالأنباط. ويضيف أن هذه القبيلة تشغل جزءا كبيرا من الساحل باستثناء الجزء الممتد إلى الداخل، وأن عدد أفرادها لا يمكن حصره، وأن لديها قطعانا ومواشي كثيرة لا يمكن تصورها. لكنه يشير إلى أن هؤلاء الأنباط الذين كانوا يمارسون القرصنة البحرية في زمنه (169 ق.م)، كانوا في ما مضى يراعون العدالة ويكتفون بالطعام الذي يتلقونه من قطعانهم، ويُرجع سبب لجوئهم للقرصنة، إلى ملوك الإسكندرية الذين سيطروا على التجارة عبر الطرق البحرية.

واحة النخيل

ويحدد أغاثارخيدس موقع واحة النخيل الكبرى التي ذكرتها المصادر الكلاسيكية في محيط المنطقة التي يتحدث عنها، أي مقابل جزيرة تيران في أقصى الشمال الغربي للمملكة العربية السعودية. ويقول إن هذا المكان يحظى بتقدير كبير وبشكل استثنائي من السكان الأصليين، بسبب الفائدة المستمدة منه، فهو يحتوي على عدد وافر من أشجار النخيل المثمرة والينابيع الشديدة البرودة، على الرغم من ارتفاع حرارة المنطقة المجاورة وجفافها. ويشير إلى وجود حرم مقدس قديم مصنوع من الحجر الصلب يحمل نقشا بأحرف قديمة وغير مفهومة، يرعاه رجل وامرأة يشغلان منصبهما المقدس مدى الحياة. ويقول إن سكان هذه الواحة من طويلي الأعمار، وإنهم ينامون في عليات مرتفعة مصنوعة من أغصان الأشجار بسبب خشيتهم من الحيوانات المفترسة.

اللافت أن المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس تحدث عن هذه الواحة بعد نحو سبعة قرون، حيث أشار إلى أن ملك الغساسنة أبو كرب بن جبلة أهدى هذه الواحة إلى الإمبراطور البيزنطي جوستينيان.

ويستطرد الجغرافي الإغريقي في وصف المنطقة التي تلي هذه الواحة جنوبا، فيقول إنها سهول مقطوعة ينمو فيها في فصل الربيع غطاء نباتي متنوع ممرع، وبسبب خصب هذه المنطقة تكثر الإبل البرية، وقطعان عديدة من الظباء والغزلان، وأسراب كثيرة من الأغنام، وأعداد لا حصر لها من الحمير والماشية. ولكن إلى جانب هذه الخيرات، ثمة شر موازٍ، إذ تزخر المنطقة بالأسود والذئاب والفهود، حتى أن الرعاة يضطرون إلى قتلها لتفادي أضرارها.

خليج عجيب

يتحدث أغاثارخيدس عن نهاية هذه المنطقة الخصبة المحددة بواد غزير المياه (في وقته)، هو على الأرجح مجموعة الوديان بين عينونة وشرما التي تدل هيأتها على غزارة المياه الجارية فيها في العصور القديمة. ويقول إنه بعد هذه المنطقة ثمة ساحل يمتد على مسافة 500 غلوة (نحو 95 كم) ينتهي بخليج محاط بحواجز عجيبة خشنة صعبة ولها فم يقسم المدخل الذي لا يمكن الدخول إليه ولا السباحة خارجه، وهي مواصفات تنطبق تمام الانطباق على المنطقة التي تضم جزر شيبارة، والعذراء، وأمهات الشيخ، جنوب ميناء الوجه. ويقول إن أولئك الذين يعيشون في البلاد الواقعة على هذا الخليج، يطلق عليهم اسم "بني زوميني" (Βανιζομενεῖς) (ربما قصد بني سميذع) لو افترضنا أن ثمة اشتباها في النسخ بين حرفي النون والتاء في اليونانية القديمة، ويقول إنهم يحصلون على طعامهم من طريق الصيد وإنهم أسسوا معبدا مقدسا يكرمه جميع العرب، وبالقرب من شاطئهم توجد ثلاث جزر قريبة، وميناء. ويلاحظ وجود صحراء مجاورة لهذا الشاطئ بها بيوت حجرية قديمة وأعمدة منقوشة بأحرف غير مفهومة.

 يبدأ أغاثارخيدس وصفه لساحل الجزيرة العربية من البحر الأحمر، مبتدئا بموقع مدينة بوسيدون التي بناها الإغريق عند مدخل خليج العقبة

بلاد الثموديين

ويشير أغاثارخيدس إلى أن الشاطئ خلف هذه الجزر، والممتد على مسافة 100 غلوة (نحو 190 كم) يمتاز بالوعورة والخشونة، ويتحدث عن اقتراب الجبال من الشاطئ في هذه المنطقة، ويقول إن العرب الذي يسمون الثموديين (Θαμουδηνοί) هم سكان هذا الساحل المغطى بالكثبان الرملية التي اسودت بفعل الطقس. ويقول إنه في محاذاة هذه المنطقة الجبلية، هناك منطقة سهلية يسكنها عرب يطلق عليهم اسم ديباي (Δέβαι) (قد يكون الضباع)، بعضهم من البدو مربي الجمال، والبعض الآخر من المزارعين. ويقول إن نهرا ثلاثي الشعب (ثلاثة وديان) يتدفق في بلادهم ويحمل شذرات الذهب الكثيرة، حتى أن الطين الذي يترسب يلمع من بعيد. ويقول إن سكان هذه المنطقة غير ماهرين في صناعة هذا النوع من المعدن، لكنهم مضيافون جدا للغرباء. ومواصفات المكان تنطبق بشكل كبير على منطقة مهد الذهب الواقعة إلى الجنوب الشرقي من المدينة المنورة في ثلث المسافة بينها وبين مكة المكرمة، مع فارق الجفاف الذي ازداد في الألفيتين الأخيرتين.

البلد التالي الذي يصفه لنا أغاثارخيدس، يقع إلى الجنوب من بلاد عرب الدباي (الضباع)، والذي يسكنه فقط العرب العليئيون (ربما العلهيون)، والغساسنة. ويصف أرضهم بأنها خصبة حتى في فصل الصيف، ويقول إن فيها مناجم للذهب لكن لا يوجد صاغة مهرة لصياغته. وبعد بلاد الغساسنة والعلئيين، يحدثنا عن جماعة يسميهم الكربيين، يتلوهم السبئيون الذي يصفهم بأنهم أكثر الشعوب العربية إنسانية، ويستطرد في وصف النباتات العطرية التي تنتشر في بلادهم.

font change

مقالات ذات صلة