فصول مروعة من صراع ملوك آشور مع ملكات قيدار العربيات

بقر بطون الحوامل وإخراج الأجنة منها

ALAMY
ALAMY
مدينة آشورية قديمة تقع على بعد 30 كيلومترا جنوب مدينة الموصل في سهول نينوى في شمال بلاد ما بين النهرين، بين عامي 1250 قبل الميلاد و610 قبل الميلاد تقريبا

فصول مروعة من صراع ملوك آشور مع ملكات قيدار العربيات

على جدار إحدى قاعات المتحف البريطاني، عُلِّقت لوحة مذهلة في قسوتها، تحمل الرمز المتحفي (BM 124927)، من مكتشفات قصر آشور بانبيال (685- 627 ق.م) في نينوى، تمثل جنودا آشوريين يحتلون معسكرا لعرب قيدار قرب أدوماتو (دومة الجندل، شمال المملكة العربية السعودية اليوم)، تظهر فيه الخيام وقد شبت فيها النيران، والجنود يبقرون بطون النساء الحوامل بخناجرهم، ليخرجوا منها الأجنة. وهي لوحة شكّلت علامة فارقة في القسوة الآشورية، الأمر الذي حدا بالدارسين إلى اعتبار ذلك "قسوة مخصّصة"، بسبب الدور الذي كانت تضطلع به نساء وملكات هذا الشعب، في قيادة معارك استحقّت تخليدها في سجلات الملوك.

شعب قيدار

ارتبط العرب القيداريون في وثائق الدولة الآشورية الحديثة بإلإبل، سواء أكان ذلك باللوحات الجدارية التي كانت تمثّل انتصارات الآشوريين، المبالغ فيها، عليهم، أو بالإتاوات التي كانوا يدفعونها لملوك آشور. لكن اللافت في كلّ ذلك أنهم كانوا شعبا كبيرا ينتشر على مساحات واسعة من شمال الجزيرة العربية إلى بلاد الشام، والعراق. ففي إحدى الحوليات ذكر أن القيداريين شنّوا هجوما على الممالك الغربية، من حماة في شمال بلاد الشام، إلى مؤاب في الجنوب، أي ما يتجاوز خمسمئة كيلومتر، مما يعزّز المكانة الخاصة التي كان القيداريون يتمتعون بها في المنطقة، واحتفاء الآشوريين المبالغ فيه بتحقيق الانتصارات عليهم، سواء بالحوليات الملكية التي تتفنّن في سرد أخبار الهجوم عليهم، وتهجيرهم، ونهب ممتلكاتهم، أم بالجداريات التي تزين قصور كالح ونينوى، وتصوّرهم مهزومين، وراكعين تحت أقدام ملوك آشور.ومع كلّ الانتصارات والمذابح التي زعم ملوك آشور أنهم ارتكبوها بهذا الشعب العربي، فإن قيدار توسّعت في ما بعد، وبلغت شرق الدلتا، إذ عثر على كتابات تعود إلى ملك قيداري يدعى قينو بن جشم في تل المسخوطة، قرَّب نذرا لربّته اللات، وثمّة شبه إجماع على أن العرب الذين تحدّث عنهم المؤرّخ اليوناني هيرودوت، وساعدوا قمبيز الفارسي على احتلال مصر، كانوا عرب قيدار.

 ارتبط العرب القيداريون بإلإبل، سواء باللوحات الجدارية التي تمثّل انتصارات الآشوريين، المبالغ فيها، عليهم، أو بالإتاوات التي كانوا يدفعونها لملوك آشور

الملكة الأولى التي يرد ذكرها في الحوليات الآشورية هي زبيبة، إذ ذكرتها حولية للملك الآشوري تجلات فليصر الثالث للعام 738 ق.م، ضمن قائمة طويلة من ملوك بلاد الشام، قدموا الجزية لهذا الملك الآشوري الغازي الساعي لضمّ هذه البلاد إلى إمبراطوريته.ومن سوء حظنا أن المعلومات عن هذه الملكة شحيحة، ولا تتجاوز ما ورد في الحولية السابقة، لكنّنا نستطيع أن نستنتج من متن الحولية أن الملكة زبيبة كانت ملكة لجميع القبائل العربية، وأنها كانت تتمتّع ببعد نظر، كونها ارتضت أن تدفع الإتاوة إلى الملك الآشوري على الرغم من أنها كانت قادرة على الامتناع عن ذلك، فهي لم تشأ أن تتعرّض الخطوط التجارية التي تستخدمها قوافل مملكتها لأيّ مشكلات قد يفتعلها الآشوريون. أمّا الإتاوات التي شاركت الملكة زبيبة في تقديمها الى الملك الآشوري فهي: "الذهب والفضّة والرصاص والحديد، وجلود الفيلة، والعاج وملابس القماش الملون والكتان والأرجوان الأزرق والأحمر، والخشب المستوي وخشب شجر القيف النفيس، وكلّ أصناف الخزائن الملكية الثمينة، ونعاج حية، صوفها لونه أرجواني أحمر، وطيور ذات أجنحة أرجوانية، وجياد، وبغال، وأبقار، وقطعان ماشية، وجمال ونوق مع صغارها، تستلم سنويّا في آشور".

الملكة شمسي المقاتلة

الملكة الثانية التي يظهر اسمها في الحوليات الملكية الآشورية هي الملكة شمسي، أو ربما شمسة، وهي على الأرجح خليفة الملكة زبيبة، ولكن لدينا الآن تفاصيل أكبر عنها، فقد عاصرت ملكين آشوريين هما تجلات فليصر الثالث، وشاروكين الثاني (722-705 ق.م)، ومرّت علاقتها بالمملكة الآشورية في منعرجات عديدة، ففي العام 732 ق.م أثارت شمسي غضب تجلات فليصر الثالث الذي اتهمها بخرق قسمها العظيم لإله الشمس الذي تحمل اسمه، ولا نعرف علام أقسمت، ولكن يمكن الاستنتاج أنه قسم على اتفاق سياسي مع آشور. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنها ربما هبّت للدفاع عن طريق للقوافل سيطرت عليها القوات الآشورية بعد غزوها لجنوب بلاد الشام، وإحكام سيطرتها على مملكة أدوم، أو ربما لأنها ساعدت ملك دمشق رحيانو الذي أعلن الثورة على الآشوريين، فيما يذهب آخرون إلى أنها ربما استثقلت الإتاوة المفروضة على شعبها، فقرّرت المواجهة في معركة كبيرة لم تكن تحسب نتائجها بشكل جيد. ومهما تكن الأسباب فقد دخلت الملكة شمسي في حرب كبرى مع الآشوريين، انتهت بهزيمتها، ووقوع مدنها الرئيسة تحت الاحتلال، في حين أجبرت هي نفسها على الفرار إلى الصحراء. وقد اضطرّت الملكة المعتدّة بقوتها إلى التواضع أمام الآشوريين، فدفعت الجزية الثقيلة التي قدمها أربعة من كبراء شعبها.

ALAMY

وبحسب المؤرّخ ألبرت أولمستيد (1880- 1945) فقد صُوّر هذا الانتصار على لوح يظهر فيه فارسان آشوريان يحملان رمحين، ويتعقبان هجانا عربيا يركب جملا، وتحت سنابك خيل الجنديين الآشوريين، وأمامهما جثث للمقاتلين العرب الذين سقطوا قتلى على الأرض، ويظهر شعر رؤوسهم طويلا، ولحاهم كثّة، وأجسامهم عارية إلّا من مئزر شدّ بحزام، كما صُوّرت الملكة شمسي حافية القدمين، مشعّثة الشعر، بينما توازن بحذر واحدة من الجرار الإحدى عشرة للقرابين التي قيل إنها قدمتها، بعدما كسر روحها الجوع.

حملات ضد ملكات قيدار

الملكة الثالثة التي تذكرها الحوليات الملكية الآشورية، ويفترض أنها أتت بعد الملكة شمسي، هي الملكة يثيعة، وقد عرفناها من خلال حولية الملك سنحاريب بن سرجون الثاني (705- 681 ق.م) التي تتحدّث عن الحملة العسكرية الأولى لهذا الملك، في العام 703 ق.م، حين أرسلت شقيقها بسقانو على رأس قوة عسكرية لمساندة الملك الكلداني من بيت يقين، مردوخ إبلا إدينا، الثائر في إقليم بابل ضدّ سنحاريب.يبدو أن الهزيمة كانت من نصيب الثوار، فقد قبض على أدينو ابن زوجة مردوخ إبلا إدينا، ومعه بسقانو شقيق الملكة يثيعة أحياء كما يرد في الحولية، وصودرت المركبات الحربية، وعربات النقل، والجياد، والبغال، والحمير، والجمال، والجمال بسنامين التي كانت تشارك في المعركة

 نستنتج من الحولية أن الملكة زبيبة كانت ملكة لجميع القبائل العربية، وأنها كانت تتمتّع ببعد نظر، كونها ارتضت أن تدفع الإتاوة إلى الملك الآشوري

ويرد اسم ملكة رابعة تدعى تعلخونو، لكنها لم تكن ملكة فقط، بل أيضا كاهنة وكانت لديها ابنة تدعى تبوعة، هي الأخرى كانت كاهنة، ولها شريك في الحكم هو الملك حزائيل، ملك قيدار. ذكرها الملك سنحاريب في حولية العام 688 ق.م، حين تفاخر بمهاجمة جيش الملكة في الصحراء، وأنه هزمها في المعركة، ثم لحق بها بعد هروبها إلى أدوماتو (دومة الجندل)، فاحتلّ المدينة بعد حصار، وانتهت الحملة بأسر الملكة الكاهنة مع ابنتها، ونقلهما مع تماثيل المعبودات، وغنائم كثيرة من الجمال، والتوابل، والمجوهرات، إلى عاصمة الدولة الآشورية نينوى. لذلك نشأت الملكة تبوعة في القصر الملكي الآشوري في نينوى، حيث مكثت فيه عشر سنوات، قبل أن يُنصِّبها أسرحدون ملكة على بلاد العرب، ويرسل معها تماثيل آلهة العرب التي سبق أن استولى عليها والده، وختم عليها عبارات حول قوة الإله آشور، كما أنه عين يثع بن حزائيل ملكا، وأضاف إلى الإتاوة التي كان يدفعها حزائيل 50 جملا، و10 مينا من الذهب، و1000 حجر كريم، وألف رزمة من الأعشاب أو الطيوب.

The Trustees of the British Museum
نحت آشوري في المتحف البريطاني

الملكة السادسة هي عادية زوجة الملك عويذ بن بردادا ملك قيدار وبلاد العرب (644- 633 ق.م)، ويرد ذكرها في حوليات آشور بانيبال (668- 627 ق.م)، من خلال الحملتين اللتين شنّهما هذا الملك على بلاد العرب. وتخبرنا حولية آشور بانيبال التي كُتبت في العام 648 ق.م أنه غضب غضبا شديدا على عويذ بن يردادا زوج الملكة عادية، الذي أقسم على الولاء لملك آشور، وانقلب على قسمه. ويقول آشور بانيبال في حوليته "إن عادية ملكة بلاد العرب التي عرّضت شعبها لمقتلة عظيمة، أسرتها بأمر الإله آشور وعشتار، واستوليت على الغنائم من معسكرها. عادية ملكة بلاد العرب، لقد أحرقت خيمتها بالنار، أما هي فقد أسرتها حيّة".

font change

مقالات ذات صلة