"المجلة" في مخيمات لبنان... مأساة اللجوء وأطياف غزة

وقائع العيش على حافة الفقر والموت والانتظار

AL_MAJALLA
AL_MAJALLA

"المجلة" في مخيمات لبنان... مأساة اللجوء وأطياف غزة

تكثّف الحرب في غزّة هالة التخويف المحيطة بالمخيمات الفلسطينية في لبنان، إلى جانب مخاوف متصاعدة من تمدّد جبهة الجنوب إلى عموم البلاد. الطيران الإسرائيلي الذي يخرق الأجواء اللبنانية هنا وهناك، كفيل بشدّ الأعصاب والتفكير في الأسوأ. يفيد التذكير بأنّ للبنان تاريخا لم يتعافَ من الحروب مع إسرائيل، تتراكب ضمنها حرب أهلية، وحروب داخل المخيمات الفلسطينية وضدّها، ودمل طائفية ممتلئة بمسألة التوطين.

هذه العوامل مجتمعة تساهم في تصلّب الحاجز النفسي، بين المخيمات الفلسطينية الـ12 ومجتمع البلد المضيف، الذي يُعدّ موئل شتات الفلسطينيين بعد نكبة 1948. منذ 76 عاما، تلازم صيت المخيمات في لبنان نظرة أحادية تعزّز الشروخ، من "الكبسولات الأمنية" و"الغيتوهات"، تحكمها التنظيمات السياسية، والجماعات المسلحة المتفقة على الاختلاف.

في ضوء سيطرة الشائع على الواقع، قررنا أن نخطو خطوة داخل المخيمات، في الجنوب والشمال، مرورا ببيروت، وهي مخيمات عين الحلوة، برج البراجنة، البداوي، ونهر البارد. على لسان أهل المخيمات، ستتداعى آراؤهم وآمالهم وهمومهم وتاريخهم الشفوي. حدثت تلك اللقاءات غالبا دون مواعيد، حيث كنا ننشد الحدّ الاقصى من التلقائية في وجوه ومشاهد النبض اليومي، وتأثرها بالحرب في غزة.

مخيم عين الحلوة

العزل والذاكرة الأمنية يحفّزان الشعور بالترقب. نتوجه ربع ساعة جنوبا من مدينة صيدا التي تعرف باسم "عاصمة الجنوب" اللبناني، لنبلغ مدخل منطقة "درب السيم"، حيث يطلب عناصر الجيش اللبناني إشهار الأوراق الثبوتية، والتدابير سارية على المداخل الثلاثة الباقية. هنا أيضا يرتفع سور عازل بارتفاع 9 أمتار وحوله أشرطة شائكة.

مال المساعدات بمثابة مسكنات للفلسطينيين. الوقت يمرّ والحرب طويلة. وحلّ الدولة يخيف إسرائيل

وليد، لاجئ فلسطيني

يقوم مخيم عين الحلوة على هضبة بمساحة كيلومتر مربع، يقطنه أكثر من 85 ألف لاجئ، ويبتعد 67 كيلومترا عن الحدود مع فلسطين. يواصل أهالي المخيم يومياتهم بين صفيح الحرب في غزة والجنوب اللبناني، وسيطرة الأمن الذاتي القابل للانفجار دون إنذار، داخل "عاصمة الشتات الفلسطيني" في لبنان. آخر الاشتباكات خاضتها مجموعات دينية وحركة "فتح" بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول 2023، وخلّفت 10 قتلى وعشرات المصابين ودمارا واسعا. وبعد أيام اشتعلت غزّة، ومعها بلدات قريبة في الجنوب.

الأمن

تنطلق الجولة برفقة جمال.

أمضى هذا اللاجئ الستيني في شبابه القسط الأشدّ وقعا من حياته داخل المعتقلات الاسرائيلية. حيفا أولا، ثم سجون الجلمة والرملة وشطة. بيت القصيد عنده: "...و لم أعترف بأي شيء". يزاول حياة هادئة نسبيا. يسرح داخل التلال الخضراء المحيطة. يقطف أعواد الهليون، ويضمّها في باقات. ينتظر الموسم ليبرش قطعا من قشور الأكيدينا المنتشرة في حقول صيدا فوق طبق من الفتوش. يسكن مع زوجته في بيت ملاصق للمخيم، لأن تحركاته مقيدة بالانقسامات، "لا أدخل حارة أهلي بالمخيم إلا نادرا، فأجواؤها تعارض انتمائي السياسي. الاحتراز واجب، من قنص، أو غدر، أو تهور من الشباب". يضحك: "والآن لن نذهب في ذلك الاتجاه، إلا إذا كنت تريدينهم أن يطلقوا النار عليّ".

تستقبلنا مقابر تمدّدت على مراحل. المدخل عينة أمينة عن الداخل، أمن، حنين، موت، فصائل، حرب، عزل. إلى جهة اليمين تتلاحق "غرافيتي" تصور قرى فلسطينية، وفي موازاتها بورتريهات لقادة "فتح" حسب التسلسل، ولكن ليس دون توازن في القوى، إذ ترتفع الشعارات الصفراء الداعمة للمقاومة. وعلى الجدران نُشرت ملصقات نعي للشباب مع صورهم، وعبارة "على طريق القدس"، و"طوفان الأقصى" التي تظهر أنهم انخرطوا في معارك غزة.

تحضر غزّة في الأساليب الأمنية. أو بوصف أدقّ، الروايات الأمنية هنا، تبدو مقتبسة من تكتيكات الحرب هناك. فقد يشاع خبر، بأنّ هذا المسجد في المخيم أو ذاك وضعته إسرائيل على اللائحة السوداء لأنه مخزن للسلاح.

مخيم عين الحلوة في صيدا، جنوب لبنان

نسمع رواية اللاجئ حسان اليوسف، الذي كان يلوّح لنا بيده، ثم يصوّبها نحو نافذة مسدودة بالنايلون. ينهض الرجل الثمانيني بصعوبة من كرسيه، مستندا إلى عكازته، تحني ظهره الأيام والورم الخبيث. يروي: "تغلغلت المجموعة المسلحة في المبنى والزقاق الملاصق، فضرب الفريق الثاني بيتي من التلة فوق". المفارقة أنّ حسان ينتمي الى المنظمة التي ضربت بيته.

غالبية المباني متشققة وبعضها مهجور. شبان يحملون الرشاشات، يقفون أمام مقار الفصائل المسلحة والمكاتب السياسية المسيطرة، ولن يخفضوا أسلحتهم حين يمشون في الشارع. يعترض طريقنا شاب ملتحٍ، بيده رشاش، طالبا الحديث. يقاطعه جمال "ابتعد، أنت تقبض المال"، فيردف المسلّح ضاحكا "لازم غيري يوكول (يأكل) كمان".


"الأونروا"

نتوغل أكثر داخل الأحياء. أسماؤها تحاكي أحياء فلسطينية، أو مقاتلين وقادة ومعارك، إلا "زقاق الحليب". يستذكر جمال: "في طفولتي، كانت الأونروا تقيم هنا مطعما للأطفال. يوزّعون أكياس الفطور، والحليب، فعرف الزقاق بهذا الاسم". يستطرد: "اليوم، ترتفع على سطوح الأونروا المركزية في بيروت وصيدا إشارات فوسفورية، للتنبيه بعدم قصفها".

ندخل صالون حلاقة رجالي، صاحبه الحاج وليد. يشكو خمود الحركة في المخيم: "نحن في مواسم القطاف، وكان مالكو البساتين المجاورة يستعينون بالفلسطينيين. لقد استغنوا تقريبا عن خدماتنا، مفضّلين اليد العاملة السورية لأنها أرخص. ولنكن صريحين، تعوّدنا على تلقي المال دون مجهود".

يشرح وهو منكب على الحلاقة لأحد الزبائن: "نتقاضى المساعدات من الأونروا، وهناك مال المنظمات الفلسطينية. لولا هذه الرواتب، لوقعت الطامة، لكنها في المقابل جعلتنا اتكاليين".

يخشى وليد انتهاء دور الأونروا "لأنها أساسية في تقديم الخدمات وتشغيل الفلسطينيين. والمؤكد أنّ الضغط الدولي على الأونروا هو لدعم اسرائيل. فالمنظمة هي الشاهد الوحيد المعترف به للقضية الفلسطينية وحقنا بالعودة".

يتابع: "لكن مال المساعدات بمثابة مسكنات للفلسطينيين. الوقت يمرّ والحرب طويلة. وحلّ الدولة يخيف إسرائيل. لن ترضى إسرائيل بأن تعيش مع قنبلة ديموغرافية فلسطينية".

النكبة

نكمل السير. أمّ نمر على كرسيها، تقتنص شمس الظهيرة التي امتدّت خارج الدار. الدار هو غرفة مظلمة فيها كنبة وسرير، وعلى الطاولة كوب من الشاي.

تعاني السيدة البالغة 86 عاما، من أمراض الضغط والسكري والقلب والغدة، وكوّنت "الماء الزرقاء" على عينها اليمنى غشاء أزرق. حين نسألها عن الحرب، تستعيد الأحداث التي وقعت قبل 76 سنة. هجّرت النكبة أمّ نمر من قريتها "الجشّ"، في قضاء صفد: "كانوا يقصفوننا بالطائرات وقت أذان المغرب. خرج الناس من بيوتهم، وخرجنا مع أمي. كان عمري عشر سنوات، ومعي أخواي الصغيران. سألها ابن عمّها 'وين رايحة بهالولاد؟'، لكنني ألححت عليها بالهروب، فأجابت 'محل ما بيروحوا الناس بدنا نروح'. لحقنا بالهاربين إلى الوادي، تفيّأنا الشجر، وكانت الصواريخ تضرب القرى. مضينا نسير بحذر ونرتاح، ونتابع سيرنا، حتى بلغنا يارون (قرية في جنوب لبنان). هناك التقينا جيراننا الذين استأجروا بيتا. شربنا عندهم ماء، وواصلنا السير. دخلنا بنت جبيل، وأقلّتنا الحافلات المزدحمة إلى المخيمات. بعضنا أنزلوه في مخيم "البص"، الذي كان يسكنه الأرمن، قبل أن ينتقلوا إلى مناطق أخرى ويسكنه الفلسطينيون. أنا كانت حصتي مخيم البداوي".

تتلاحق "غرافيتي" تصور قرى فلسطينية، وفي موازاتها بورتريهات لقادة "فتح" حسب التسلسل، ولكن ليس دون توازن في القوى

في سنّ الـ13، تزوّجها ابن عمّة أمها، اللاجئ إلى عين الحلوة من حطّين، "الحمد لله على قسمته، 8 صبيان، و4 بنات".

تنهي اللقاء بـ"يسعدِك"، وترافقنا إلى الخارج، ويبقى نظرها مصوّبا إلينا على طول الطريق. تنحدر سيارة الأجرة نحو وسط صيدا، يقودها شاب من المخيم. يستنتج أنّ الوجهة بيروت.

- وهل في بيروت تسمعون الزنّانة مثلنا؟

- الزنّانة؟

- طائرة الاستطلاع الاسرائيلية.

مخيم برج البراجنة (بيروت)

تتقاطع الممرّات والمتاهات الضيّقة، وعلى جوانبها مساكن متلاصقة تلاصقا كئيبا. هنا مخيم برج البراجنة، الذي يسكنه فلسطينيون في طبيعة الحال، ولاجئون سوريون، بالاضافة إلى البنغال والأثيوبيين وأكثرهم عمال في بيروت، وحتى لبنانيون يبحثون عن إيجار بيت من 100 إلى 200 دولار شهريا. تستذكر أخبار الموت صعقا بالكهرباء، وأمامك وحولك الأسلاك المتشابكة والمتدلية، ومعظمها يتداخل مع أنابيب المياه النافرة، ويتمدد على الجدران وفي الفضاء، فتشعر بأنّ الموت فوق رأسك، وربما على مسافة خطوة ناقصة أو لفتة غير متأنية. ومنذ عام 2000، حصدت هذه الآفة المزمنة 86 ضحية، معظمهم من الأطفال.

في 23 أبريل/ نيسان 2002، أنجبت فادية خربيطي ابنتها البكر. الأم اللاجئة من عكا، سمّت الطفلة بيسان، ولكن اسمها يذكرها بمجزرة جِنين التي سبقت الولادة بأيام. يعرفها المخيّم بـ"أمّ الكلّ".

تقول: "أولادنا يحتاجون إلى شبكة عناية وأمان، ولذلك أسّست الحضانة". الدوافع هي "غياب المساحات العامة الآمنة، وحتى ملعب كرة القدم الوحيد يطلب تعرفة. والأهم أنّ فلسطين غائبة في مناهج التاريخ والجغرافيا بمدارس الأونروا".

هذه السنة ليست كسابقاتها: "لم يعد منهجنا فقط عن البلاد الحلوة، والتي حين تعودون إليها ستعرفون جمالها، في الطبيعة والناس، والتراث. عدّلنا الدروس والانشطة ليعرف الأطفال عن الحرب. كانوا يأتوننا بالمشاهد والأخبار الدامية من غزة، محقونين بمشاعر الخوف والغضب. سعينا لمساعدتهم على التعبير والتفريغ من خلال الفنون"،  توضح المسؤولة التربوية رولا.

مخيم برج البراجنة، بيروت

تنقل الطفلة إيليا من غرفة الصف مشاهد من غزّة: "تدمّر إسرائيل البيوت، تقتل المعلمات والصحافيين والأطباء. لكننا سندافع عن فلسطين"، والطريقة هي "نحب بعضنا بعضا، ونقاوم، ونتعلم".

لم تكن ثلاثية "الحب والمقاومة والتعلم"، من بنات أفكار الفتاة. هي تجسيد لأضلاع "المثلث"، بعدما أثار انتشار المثلثات الحمراء والصفراء على الشاشات فضول الأطفال. شرحت المعلمة معناها، ثم أحضرت طلاء ولعبة على شكل دبابة "ميركافا". غمس الأولاد ريشهم باللونين، وضربوا الدبابة بلطخات الريشة. عاد الأطفال أدراجهم وأخبروا أهلهم "نحن اليوم ضربنا إسرائيل".

تنضم إلينا الطفلة مرام، وتخبرنا عن هوايتها "أصنع الزهور، وأعلّقها على الحائط". هي تنتظر الربيع لتصنع الزهور، وتردّد الأغاني الفلسطينية "يللا نغنّي للربيع، عطره الحلو فاح. لجبال بلادي الخضرا للأرض وللفلّاح"، وأغنية عن الأرض "إجا وقت الحصيدة ونزلنا على الساحل، جينا مع أهالينا نحصد خير وسنابل"، وهناك أغنية الجدات أثناء الخياطة "يا مريومة في الكرومة، وسبع هدوم مفصّلات"...

في الخارج يتحلّق تلامذة حول براد مثلجات. كل شيء هادئ في المجمل، تنحسر دورة الحياة قرابة صلاة الجمعة. 

اشتباكات

عند التاسعة مساء من اليوم نفسه، تتناقل مجموعات "واتساب" الخبر: "إشكال كبير داخل مخيم برج البراجنة بين عدد من الفلسطينيين، استخدمت خلاله الأسلحة الرشاشة". بدأنا الرسائل والاتصالات، فوصلتنا 4 نسخ مختلفة عن الحادثة:

رولا تجيب "نحن بخير. كلمت زميلاتي، لم يسمعن شيئا".

فاجأت الرسالة فادية. تغيب قليلا لتستفسر: "وقعت حادثتان، الأولى مشكلة فردية وسط المخيم، والثانية في حي الأكراد البعيد عن منزلي".

مخيم برج البراجنة، بيروت

"أدمن" المجموعة الإخبارية لم يلاحق التفاصيل. يصلنا بالسيد "س.أ.ع."، مسؤول مكتب أمن داخل المخيم، فينفي "الخبر مضلل، هذا وقع في مخيم صبرا، بسبب إشكال بين أب وصهره".

محمّد، مدير مركز شبابي بالمخيم، يقول: "أعتقد أن الإشكال بسبب ممنوعات، ونعرف أنها موجودة. لكنني أتوقف عند التضخيم. كيف يكون الإشكال 'كبيرا' ولم نسمع به؟".

 اتفقت الفصائل والعشائر على ضبط الأوضاع. مَن يخرق هذا الاتفاق يُعاقب فورا، بينما الدولة اللبنانية متساهلة مع التدهور الأمني المتفشي

أحمد، لاجئ فلسطيني

يتابع: "هذه المصادفة، تعطيك عينة عن الأخبار التي تساهم بعزل المخيمات. ولكن الحال ينسحب على لبنان. يعتقد الناس في الخارج أنّنا نعيش في حالة طوارئ، ونحن نتابع يومياتنا بشكل عادي".

حادثة الليل طواها النهار. وستتلاحق نهارات أخرى عادية في المخيم، وقد يترك فيها الليل رواسب لحوادث أمنية مبهمة.

مخيم البداوي

نصل إلى البداوي المتاخمة لطرابلس شمالا. أنشأت "الأونروا" المخيّم عام 1955، على هضبة بمساحة كيلومتر مربع، ثم لم يعد مدى المخيم مضبوطا بسبب التمدّد العمراني، الذي سرّعه استقطاب المخيم للاجئين السوريين، وقبلهم لنازحين بصورة مؤقتة من مخيم نهر البارد.

المخيم مفتوح، مما يعزّز انصهاره بمحيطه اللبناني بل تأثيره عليه. يمكن ملاحظة أعلام فلسطينية ولافتات دعم لغزة على أوتوستراد البداوي العام، وداخليا ضمن "جبل البداوي"، وهو الامتداد الشرقي للمخيم، وتلتحم به منطقة "المنكوبين" التي يختصر اسمها أحوالها، وتتشاطر أوضاع المخيم اجتماعيا واقتصاديا، ونموذج الأمن الذاتي.

مخيم البداوي، شمال لبنان

لا إجراءات أمنية، لكن الوافد إلى البداوي سيمر بحاجز للجيش. نجتاز مدخل المخيم الجنوبي الواصل مع "المنكوبين". نلاحظ امتدادا مكثفا للمظهر العشوائي، مع حضور طاغٍ لصور قيادات فلسطينية.

على بعد خطوات من المدخل، يجلس مهدي زيد أمام محله لبيع الإلكترونيات. يسهل عليه التعرف الى وجوه الزائرين. يقترح كوبا من الشاي.

الامتناع عن الفرح

"عمري من عمر لجوئي. نحن من صفد، وأكبر العائلات الفلسطينية اللاجئة في لبنان"، يقول مهدي.

يروي أنّ ابنه جود (9 سنوات) لم يرضَ شراء قالب حلوى في عيد ميلاده، "عشان غزة"، قال لأبيه. وكان لأخيه كريم القرار نفسه في عيده خلال شهر فبراير/شباط الماضي. أمّا عليّ، فاستحوذت غزة على تركيزه فتراجع أداؤه في المدرسة، "كان يوقظني عند الفجر وموبايلي بيده، قائلا 'فيق يابا. يابا حرب، عم يقتلوا الولاد يابا'". لكن الأب أعاد توجيه انتباه ابنه للدراسة، فهو يعتبر أنّ عدم إجادته الإنكليزية أعاق ترقيته ضمن منظمات إجتماعية عمل فيها، ويريد لأولاده أن يعيشوا حياة أفضل.

لم يمتنع الأطفال وحدهم عن الفرح.

نوال، ربة منزل رافقتنا لاحقا في الجولة، تلتزم قرارها: "ما دامت الحرب قائمة في غزّة، ما بيطلع من بيتي دخان طهي اللحوم". لا رأي لها بالحلول السياسية، المهم "أن تتوقف الحرب ويعيش الناس... مَن سيبقى من الناس".

يعدّ شيّ اللحم علامة فرح في المخيم، ونوال لجمت فرح العيد وفرحها الخاص. هي حفظت في الثلاجة وجبة مميزة في انتظار عودة ابنها الوحيد من السفر، لكنها لن تنقض قسمها، "ففي غزة يموت الناس جوعا، ويأكلون علف الحيوانات". 

ولم تحتفل نوال بعرس ابنها الوحيد، فاكتفت العائلة بإشهار الزواج، وبصُوَر فوتوغرافية التقطت أمام قلعة طرابلس.

لجوء فلسطيني-سوري

يطلّ أحمد، لاجئ في المخيم وطالب التصميم الداخلي. يتحرّى صورته في عيون الغرباء "كيف وجدتِ المخيم؟".

يقرّ الشاب بـ"أنّ المخيّم تنتشر فيه المخدرات والسلاح، ولكنه آمن. لقد اتفقت الفصائل والعشائر على ضبط الأوضاع. مَن يخرق هذا الاتفاق يُعاقب فورا، بينما الدولة اللبنانية متساهلة مع التدهور الأمني المتفشي حولنا".

مخيم البداوي، شمال لبنان

يستحوذ على أحمد الهمّ المعيشي، "شقيقي موظف في "الأونروا"، وهي وظيفة لائقة. لكن وضع المنظمة بات مهددا، فصرنا نخشى أن يستغنوا عن الموظفين".

ويردّ السبب العام للتدهور المعيشي في المخيم الى "اللجوء السوري".

بحسب إحصاءات لجنة الحوار-اللبناني الفلسطيني عام 2017، استقطب مخيم البداوي 6193 لاجئا سوريا في لبنان، أي ما يناهز 30% من سكان المخيم. يتركّز هؤلاء ضمن "الكم التحتاني"، حيث تتدحرج تحديات البطالة والبنى التحتية والخدمات والاندماج الاجتماعي.

منذ 76 عاما، تلازم صيت المخيمات الفلسطينية في لبنان نظرة أحادية تعزّز الشروخ

شكّل المخيم ملاذا مؤقتا للفلسطينيين الذين نزحوا من مخيم نهر البارد الواقع على مسافة 12 كيلومترا فقط شمالا، وذلك على إثر المواجهات الدامية بين الجيش اللبناني وجماعة "فتح الاسلام" المتطرفة عام 2007، وتسبّبت بحسب "الأونروا" بدمار 95% من المخيم، ولجوء نحو 15,000 فلسطيني إلى مخيم البداوي.

تؤكد نوال ضغط اللجوء السوري على المخيم، وتتدارك "بعض أهالينا استغلّ السوريين ورفع إيجار العقارات، فاشتد الخناق على الجميع، خاصة أنّ الفلسطينيّ ممنوع من التملك في لبنان".

نرافق نوال إلى بيتها، تحضّر الطعام لابنها الذي سيعود الى الغربة. ستزوّده "المطبق"، وهو خبز فلسطيني من طبقات العجين، تتخلّلها خلطة الصعتر والسماق والبصل وعصير الليمون.

مخيم نهر البارد

منذ عام 2007، لا تزال أم هالة ترمم دار حماتها في مخيم نهر البارد، بعد دماره خلال المعارك العنيفة التي دارت بين الجيش اللبناني و"فتح الاسلام"، وشرّدت 27,000 لاجئ، وجعلت المخيم أثرا بعد عين.

ما قبل الحرب ليس كما بعدها. انقطع تقريبا الشريان التجاري بين المخيم وجواره وصولا الى طرابلس، وصار يضمّ "الكم القديم" و"الكم الجديد"، على رفات شواهد ومعالم حفرت عميقا في ذاكرة اللاجئين، ومعظم هؤلاء من شمال فلسطين، فحملت الأحياء أسماء قراهم، صفورية وسعسع والدامون والسموع وعمقا...

نحن على مسافة 16 كيلومترا من طرابلس شمالا، نجاور الحدود اللبنانية-السورية. يسري التشديد الأمني من قبل الجيش اللبناني. يطلب العناصر بلطف إبراز الهويات والتصاريح، وقد يلجأ الى التفتيش.

مخيم نهر البارد، شمال لبنان

ضمن هذا المجال الطولي الموازي للأوتوستراد الدولي، وغربه البحر، تنعزل يوميات لاجئين فلسطينيين. التغريبة  معطوفة على "التطرف" الذي رسم ملامح المكان، في الجغرافيا والأمن والأوجاع.  

قوارب الموت

يقفل بسام واجهة دكانه ويتوجه إلى حديقة الدار، تنتظره زوجته هالة وأمّها. تتداعى ذاكرته المشحونة بالغائبين، فيستحضر مع رفيقه رامي رفاق الصف الذين قضوا في "قوارب الموت".

"يا زلمة، كأنّ الكون لا يريدنا. عدّد معي: أسامة، نافذ، جلال...".

يتابع رامي: "قضينا ذلك الأسبوع على الحدود، ننقل الجثث التي لفظها البحر إلى طرطوس ونرسل الإسعافات. هناك جثة انفجرت، وأخرى لم نصلّ عليها بسبب الرائحة".

يذكّر اسم رفيقهما أسامة بمأساة "قارب الموت" الذي غرق في 21 سبتمبر/أيلول 2022. كان أسامة حسن القبطان الذي غرق مع زوجته وأطفاله الأربعة، خلال إبحارهم نحو إيطاليا ومعهم مهاجرون غير نظاميين من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، ناهز عددهم 150 شخصا، عثر على 100 جثة منهم.

أسفرت الحادثة عن أعلى حصيلة قتلى منذ تجدد الهجرة غير النظامية عبر شواطئ لبنان الشمالية في عام 2015، متشابكة مع اللجوء السوري، وتكثفت خلال السنوات الأخيرة بسبب الانهيار الاقتصادي.

يشكّل مخيم "نهر البارد" منصّة للمهرّبين الذين يراكمون ثروات عبر البحر، مستغلين يأس اللاجئين ولبنانيين مفقرين، لقاء مبالغ تتخطى ألفي دولار للشخص.

تتلاحق القوارب والمآتم على مرأى أطفال بسام وهالة الثلاثة، صائب وآدم وكريم. يروي الأب كيف تسلل أولاده إلى الشاطئ، نفخوا قاربا مطاطيا وركبوه. شاهدتهم الجارة على مسافة 20 مترا في البحر وأعادتهم إلى أهلهم. أخبروهم أنهم كانوا مسافرين إلى ألمانيا، وأنّ أمّهم ستلحق بهم.

الدولة الواحدة

في 16 سبتمبر/أيلول 1982، وقعت مجزرة "صبرا وشاتيلا"، وفقد بسام أباه وأخويه وأخته. العائلة لاجئة في مخيم "نهر البارد"، لكن انخراط الأب في السياسة رتّب تلك الأقدار، وكان بسام طفلا في الثالثة من عمره.

يقول: "كل لحظة أعيشها هي ثمن لنكبة 1948. غزة تكثيف لقدرنا. شعبنا يقف على شاطئ البحر ينتظر المساعدات، والأدهى أنها تهبط على رؤوسهم وتقتلهم".

يتابع: "غزة كشفت، عرّت، غربلت العالم. أواكب الأحداث كأنني أقرأ العهد الجديد لأقدار الفلسطينيين، ولنظرتنا الى الحياة. جلّ همّي اليوم أن أتفقد أطفالي في أسرّتهم، وأطمئن أنّهم يتنفسون. الناس كلها تعبت. حرب، حرب، حرب... لنتذكر يوما واحدا لم يُقتل فيه فلسطيني منذ حرب غزة في عام 2014".

الحل، في رأيه، هو "الدولة الواحدة. هناك نموذج جنوب أفريقيا، ومليونا فلسطيني يعيشون في دولة إسرائيل. وإن لم يحكمنا الإسرائيلي، فلتأت الأمم المتحدة وتحكمنا".

 يشكّل "نهر البارد" منصّة للمهرّبين الذين يراكمون ثروات عبر البحر، مستغلين يأس اللاجئين ولبنانيين مفقرين

يستشهد بسام بنمط حياة أقاربه من عرب 48، "أتابعهم على 'فيسبوك'، يدرسون في أفضل الجامعات، ويسافرون للسياحة في إسبانيا وتركيا. ما الضير بأن نعيش مثلهم؟"، مضيفا "لا يجب أن نزايد عليهم في الولاء لفلسطين، وهم يعيشون في فم الذئب".

حديقة فاطمة

تطوف هالة على الجالسين بفناجين الشاي بالميرامية. يسرح كلٌّ  بتفكيره في حديقة جدّتها فاطمة، التي تركت وراءها شجر الفواكه المنوعة، من الخوخ والرمان والتين والبرتقال والخرما والجنارك والدراق والموز.

زرعت فاطمة ثلاث شجرات زيتون، كانت تعتاش من ثمارها وتعصر الزيت، وهي الأغلى على قلبها، لأن بذورها من فلسطين. حملت الأمانة سيدة عن طريق الأردن من الناصرة، وتحديدا بلدة صفّوري التي تهجّرت منها العائلة في النكبة، فأطلق الزوج اسم أولاده على الشجرات. حين اندلعت الحرب، قُصفت شجرات الزيتون وماتت.

تشير أم هالة إلى بنايات خلف الحديقة، وأكثرها غير مكتمل البناء، "قبل إعادة الاعمار، كان المدى مفتوحا، بحيث يمكنك رؤية البحر من كرسيك هنا".

لم ينتظر الزوجان المشاريع الرسمية. باعت فاطمة ذهبها، وباع زوجها سيارة الأجرة، ثم تلقيا مبلغ 2000 دولار من منظمة نروجية.

تروي أم هالة كيف أجرت إحدى الفضائيات مقابلة مع فاطمة، "وراحت تبكي. تكلمت وبكت كثيرا. أسهبت عن كل نكبة ولم تسكت، هكذا تسمي كل الحروب. في اليوم التالي، سكت قلبها وماتت".

تستنتج: "لقد ماتا قهرا"، وهي تعني أنّ الزوجين توفيا خلال سنة بعد حرب "نهر البارد"، وكانا يرددان باستمرار "نكبة البارد أصعب من نكبة فلسطين".

صمت مديد. يبادر بسام بقصة مختلفة "ألا تقول الأغنية 'لو شباكك على شباكي؟'، كان كراجي قبالة كراجها. حين هجّرتنا الحرب الى مخيّم البداوي، كثيرون استأجروا المخازن والكراجات. وكانت هالة وعائلتها يبيتون في الكراج قبالتنا. لفتت انتباه أمّي، فسألتني: لماذا لا تتزوجها؟ أمها تغسّل حماتها وتعتني بها، "دوّر على الأم ولمّ"، قالت. وتزوجنا خلال الحرب".

إعلامية اللجوء

على الطريق العام نمرّ بـ"بناية التعاونية" الشهيرة، وهي حجر زاوية في ذاكرة حرب المخيم، بقيت مهجورة تحتفظ بآثار الدمار. وعند الطرف الجنوبي المتقاطع مع بلدة بحنين، تنتظرنا صفاء موعد، طالبة بكالوريا فلسطينية، جعلت حسابها على إنستغرام منصّة للتفاعل مع الحرب في غزة.

أصدقاء صفاء في غزة يلقبونها بـ"إعلامية اللجوء". أما هي، فتدين لهم بتعليمها مبادئ التصوير. كما نسجت عن طريق صفحتها صداقات من الضفة الغربية والداخل وتعرفت الى أقرباء.

مخيم البارد، شمال لبنان

اهتمام صفاء بفلسطين كان سابقا للحرب: "لطالما استغربت أنّ رفاقي لا يعرفون سوى القليل عن فلسطين، فقررت تنشيط المنصة وتشبيكهم مع البلاد. كما أنني تعرفت الى فلسطين بفضل ذكريات جدتي أم خالد، ترويها كلّما جاءت للمبيت في دارنا".

توفيت جدة صفاء منذ سنتين، تاركة لها قصصا عن فلسطين، ووسائد محشوة بالزهور.

العائلة عموما تحب الزهور. في غرفة الجلوس، نصبت مروة، شقيقة صفاء، مرآة على شكل خريطة فلسطين، وزينتها بالأوركيديا البيضاء الاصطناعية. تشاطرها الأم حب الزهور، فقد كانت تترك في كتب المدرسة وردة "لأن الورود تذكّرني بفلسطين".

تضيف صفاء بفخر: "في خان يونس، قرية اسمها عبسان الكبيرة. رغم الإبادة والدمار، ينبت فيها حقل شاسع من الزهر الأصفر".

"حرب وورود؟"، تتنهد صفاء. تمدّ يدها ليرى الجالسون صورة الحقل عبر شاشة الموبايل. تظهر على الجانب الخلفي للموبايل، كلمات أرسلتها الى صديقة في غزة. حرصت صفاء على حفظها، فكتبتها بالرصاص على قصاصة ورق، ودستها في الغلاف الشفاف:

"أنلتقي؟

في القدس عند

باب الصمود

مع كوب من الشاي

بنكهة الحبّ والحريّة".

font change

مقالات ذات صلة