لماذا يثير "تيك توك" الصيني كل هذا القلق في أميركا؟

ارتياب أميركي مستمر من التفوق التكنولجي الصيني

رويترز
رويترز

لماذا يثير "تيك توك" الصيني كل هذا القلق في أميركا؟

وقَع الرئيس الأميركي جو بايدن على مشروع قانون حظي بإجماع الحزبين داخل مجلسي النواب والكونغرس يجبر الشركة الصينية الأم المالكة "باي دانس" على بيع تطبيق " تيك توك" لملاك من خارج الصين، أو مواجهة خطر الحظر داخل الولايات المتحدة الأميركية، وقد أمهل القانون الجديد الشركة قرابة تسعة أشهر لإتمام عملية البيع أو الحظر داخل أميركا.

إنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها التطبيق الصيني الأشهر مثل هذا التهديد الجدي داخل الولايات المتحدة الأميركية، فقد سبق وأن حاول الرئيس السابق دونالد ترمب في عام 2020 تخيير الملاك بين البيع والحظر، ولكن القضاة الفيدراليون منعوا هذه الجهود، فقد كان من شأن الحظر أن يؤدي إلى إغلاق "منصة للنشاط التعبيري" على حد وصفهم.

تأسست شركة "باي دانس" عام 2012 على يد فريق بقيادة يامن زانغ وروبو ليان، والشركة الصينية هي المالك والمؤسس لتطبيق "تيك توك" الشهير، والواجهة الرائدة لمقاطع الفيديو القصيرة على الهاتف المحمول في جميع أنحاء العالم. يعمل لدى هذه الشركة العملاقة أكثر من 150 ألف موظف حول العالم، في نحو 120 دولة بحسب الموقع الرسمي للشركة.

في عام 2021، وصل عدد المستخدمين النشطين للتطبيق إلى 1.9 مليار شخص شهريا في 150 دولة، بإيرادات مذهلة بلغت 58 مليار دولار. كما ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في أحد تقاريرها، أن التطبيق حُمِّل 3 مليارات مرة على مستوى العالم، وهي بذلك تنافس شركة "ميتا" الأميركية وعائلة تطبيقاتها مثل "إنستغرام".

أصبحت الشركة الصينية الرائدة في عام 2020، الشركة الناشئة الأكثر قيمة على الإطلاق، وتُقدَّر قيمتها الحالية، بحسب مجلة "هارفارد بزنس ريفيو"، بـ180 مليار دولار، إلا أن تقارير غربية أخرى تشير لكون السعر العادل لهذه الشركة يصل إلى 225 مليار دولار مما يصعّب من عملية إيجاد مشترٍ.

أصبحت شركة "باي دانس" الصينية الرائدة عام 2020، الشركة الناشئة الأكثر قيمة على الإطلاق، وتُقدّر قيمتها الحالية بـ180 مليار دولار

وفي عام 2020، صرّح الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترمب، بأنه سوف يقوم بحظر التطبيق في الولايات المتحدة إذا لم تبعه الشركة الصينية لشركة أميركية مثل "أوراكل" أو "ولمارت" حينها، كما جددت إدارة بايدن التهديد، بالقول إنها تريد من مالكة "تيك توك" الصينية بيع التطبيق أو مواجهة حظر محتمل. الجدير بالذكر، أن التطبيق الصيني يستخدمه 170 مليون مواطن أميركي- قرابة نصف عدد السكان، وهو التطبيق الأشهر داخل الولايات المتحدة وخارجها في توثيق وتصوير مقاطع الفيديو القصيرة.

إن مسألة حظر التطبيق داخل أميركا ليست جديدة، فقد بدأت بالفعل الحكومة الأميركية حظر التطبيق، لكن عن أجهزة الحكومة الفيدرالية فقط، بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي الأميركي، وذلك بشأن وجود شركتها الأم في الصين، كما تخشى الولايات المتحدة أن تستفيد حكومة بكين من البيانات المسجلة على تلك الأجهزة، فهي تنظر لهذه الشركة الصينية على أنها في قلب المعركة حول القيادة التقنية والاقتصادية العالمية فضلا عن مخاوف من تسرُّب أسرار الأمن القومي لخصمها الاستراتيجي.

ضمن هذه المعركة توجد تفاصيل كثيرة بين الطرفين الأقدر تقنيا في العصر الحالي، من ضمنها الخوارزميات المتطورة التي يستخدمها التطبيق، إلا أن "تيك توك" باتت تؤثر على توجيه الرأي العام داخل أميركا من قبل منصة ليست غير قابلة للاحتواء فقط، ولكن واشنطن تعدها أداة في يد الحزب الشيوعي الصيني.

ارتياب أميركي

تجتمع كل تلك الوقائع في مرحلة تاريخية يرتاب فيها المسؤولون الأميركيون من كل ما هو صيني، واعتباره تهديدا لمكانة الدولة العظمى. إن هذا الارتياب من نيات الصين كما تدعي رؤوس كبيرة داخل المؤسسات الأميركية السيادية، دفع الولايات المتحدة لإعادة النظر في استراتيجية الانفتاح على الصين التي روج لها ونفذها وزير الخارجية والأمن القومي الأميركي الأسبق المفكر هنري كيسنجر واستبدالها بسياسة احتوائية.

في مارس/آذار من عام 2023م، عقد الكونغرس الأميركي أولى جلسات الاستماع للمدير التنفيذي لشركة "تيك توك"، شو زي تشيو، وقالت رئيسة الجلسة في الكلمة الافتتاحية إن مقاطع الفيديو القصيرة التي ينتجها البرنامج تضر بالصحة العقلية للأطفال، كما اتهمت التطبيق الصيني بأنه يشكل تهديدا خطيرا لحياة الأميركيين.

بل أكثر من ذلك، لقد شبَّهت الرئيسة السماح للتطبيق بالوصول إلى الأطفال الأميركان ببرنامج "كرتون يوم السبت" الذي كانت تبثه إحدى القنوات السوفياتية إبان الحرب الباردة، كما دعت لحظر البرامج التقنية الصينية مثل "تيك توك" وشبيهاتها على حد وصفها، وذلك لمنع التجسس على المواطنين الأميركيين من قبل الحزب الشيوعي الصيني، مما يعكس مخاوف الحزبين الجمهوري والديمقراطي بشأن سلطة التطبيق على الأميركيين.

العلاقة مع الصين وضرورة منعها من امتلاك قدرات تكنولوجية متقدمة شكلت حالة إجماع نادرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري داخل الكونغرس

العلاقة مع الصين وضرورة احتواء صعودها عبر منعها من امتلاك قدرات تكنولوجية متقدمة شكلت حالة إجماع نادرة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تحت قبة الكونغرس. كما أن الرئيس الديمقراطي جو بايدن لم يكتف بتتبع نشاطات شركة الاتصالات الصينية الأشهر "هواوي" كما فعل سابقه دونالد ترمب، بل ذهب أبعد من ذلك في مساعٍ جدية لمنع تصدير التقنيات الخاصة بالرقائق الأكثر تطورا والتي تستخدم في معظم الصناعات عالية الحساسية.

أثناء استجواب الكونغرس احتج أحد المشرعين الأميركيين على الرئيس التنفيذي لشركة "تيك توك" بقانون سبق وأصدرته الحكومة الصينية خاص بالتعاون مع الاستخبارات الصينية، والذي يجبر الشركات- بحسب التفسير الأميركي- على تسليم جميع البيانات التي تمتلكها الشركات التقنية الصينية إلى الحزب الشيوعي الصيني عند الحاجة، وذلك وفق قانون يعرف بـ"قانون الاستخبارات الوطنية الصينية"، وتشير المادة رقم 7 من القانون إلى أنه يجب على أي منظمة أو مواطن أن يدعم ويساعد ويتعاون في أعمال الاستخبارات الوطنية وفقا للقانون، وأن يحافظ على سرية أعمال الاستخبارات الوطنية التي يعرفها.

أ.ف.ب
وزير الخارجية الأميريكي أنتوني بلينكن يصافح وزير الأمن العام الصيني وانغ شياو هونغ قبل اجتماعهما في بكين في 26 أبريل/نيسان 2024.

كانت إجابة الرئيس التنفيذي دفاعية، وذكر في معرض رده أنه سنغافوري الجنسية. كما رد على سؤال لأحد المشرعين عن إمكانية تسليم البيانات الخاصة بالمواطنين الأميركيين إلى الحكومة الصينية. قال شو زي تشيو، إن الحكومة الصينية لم تطلب أي بيانات من الشركة، وإن الشركة لم تسلم أي بيانات خاصة، وإن مجلس إدارة "تيك توك" به ثلاثة أعضاء يحملون الجنسية الأميركية من أصل خمسة أعضاء، كما تعهد الرئيس التنفيذي بحماية بيانات المواطنين الأميركيين عبر برنامج سماه "مشروع تكساس" سوف يكتمل تنفيذه عام 2023.

وعلى الموقع الإلكتروني الخاص بشركة "تيك توك" وصفت الشركة مشروع تكساس بأنه مبادرة غير مسبوقة، وذلك لجعل كل أميركي يستخدم التطبيق يشعر بالأمان، وأن المشروع عبارة عن حزمة شاملة من التدابير مع طبقات من الحوكمة والرقابة المستقلة لضمان عدم وجود أبواب خلفية في التطبيق يمكن استخدامها للتلاعب بالبيانات، وأن الشركة أنفقت ما يقارب 1.5 مليار دولار لمعالجة مخاوف الأمن القومي الأميركي بشكل مباشر من خلال حلول ملموسة وقابلة للقياس.

في المقابل، هاجمت الصحف الصينية قانون حظر "تيك توك"، واعتبرت الصين أن هذه الخطوة تعد مثالا حيا آخر، لكيفية استخدام بعض السياسيين الأميركيين لعصا الحمائية والأمن الشامل لتحقيق أغراضهم السياسية الخاصة في التفاف صريح على الأفكار الغربية المتعلقة بحرية التجارة. كما زعمت صحيفة "جوبل تايمز" الصينية أن ذلك التصرف الأميركي يقوض ثقة المستثمرين الصينيين في ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة، وقد وصفها بعض الخبراء الصينيين بأنها "حفلة سياسية". أما صحيفة "جاينا ديلي" فقد وصفت سياسات واشنطن بأنها "مليئة بالنفاق".

إزعاج الدولة الكبرى

ليس خافيا على أحد نجاح شركات مثل "هواوي" و"تيك توك" في فرض منتجاتهما على العالم، بل أصبحتا شركتين عالميتين رائدتين في مجاليهما، وهذا أزعج الولايات المتحدة الدولة المهيمنة، التي يتعاظم لديها الشعور بالخطر القادم من الشرق، المتمثل في طموحات الصين التقنية وإمكانية تطورها بالمستوى الذي يجعل من التقنيات الأميركية وشركاتها خيارا ثانيا أمام المنتجات الصينية، وهذا يعني ضمن ما يعني، في العقل الأميركي على الأقل، تهديدا استراتيجيا خطيرا لمكانة الولايات المتحدة وقدراتها لا يمكن السكوت عنه أو التهاون معه.

لقد ارتكزت سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين منذ زيارة الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون وتوقيعه بيان شنغهاي مع الرئيس الصيني ماو تسي تونغ، على أن الصين يمكن عزلها عن الكتلة السوفياتية إبان حقبة الحرب الباردة، وبالتالي ضمها تدريجيا إلى المعسكر الغربي، وقد وجدت واشنطن حينها أنه من المناسب دعم الاقتصاد الصيني وتأييد خطوات الانفتاح عليه، في مقابل ابتعاد بكين عن موسكو، واتخاذها خطوات تعزز اندماج الاقتصاد الصيني في الاقتصاد العالمي الذي تتحكم في مفاصله واشنطن. بالفعل تم ضم الصين لمنظمة التجارة العالمية وارتفع حجم التبادل التجاري الصيني الأميركي بشكل صاروخي، إلا أن الصين كبرت أكثر مما يجب، أو لنقل أكثر مما هو مسموح لها أميركيا.

يتعاظم لدى الإدارات الأميركية المتعاقبة الشعور بالخطر الصيني المهدد لهيمنتها

بناء على ما سبق، فإن الولايات المتحدة الأميركية، قائدة القاطرة الغربية، عازمة على وضع الصين في موقع ثانوي في النظام العالمي الذي بنته بعد الحرب العالمية الثانية على قاعدة اتفاق "برايتون ودوز"، ولو كان ذلك عبر إجراءات مخالفة لمبادئ الرأسمالية الغربية والسوق المفتوحة من خلال التضييق على الشركات الصينية المنافسة في محاولة لإجبارها على بيع نفسها لمستثمرين غربيين.  

كان المطلوب من الصين أن تصبح دولة تتبنى اقتصاد السوق، أي دولة يقوم اقتصادها على إنتاج البضائع المتواضعة التقنية، المعتمدة على كثافة العمالة ورخصها وسرعة الإنتاج، بما يسمح للمواطن الغربي بشراء السلع الاستهلاكية بأسعار أقل تعوضه عن تراجع مستواه المعيشي نتيجة للتضخم والانكماش الاقتصادي الحاصل في الغرب اليوم، كما تسمح للغرب الرأسمالي بنقل مصانعه إلى بكين من أجل الحصول على تسهيلات قانونية وأيدٍ عاملة رخيصة تسمح لكبرى الشركات الغربية بتعظيم فائض الربح، وتجنب الإضرار بالبيئة، وأيضا، تفادي دعاوى حقوق العمال في المحاكم.

وكان مطلوبا من حكومة بكين إعادة تدوير فائض رأس المال الصيني في أسواق الأسهم والسندات الأميركية، تماما كما تفعل اليابان، وهي مسألة قامت بها الصين فهي تملك المشتري الأكبر للدين الأميركي وقد وصل حجم السندات الأميركية المملوكة للحكومة الصينية تريليون دولار، إلا أن ذلك لم يكن كافيا في عيون واشنطن التي رأت أن طموحات القادة الصينيين لم تتوافق مع الرؤية الأميركية لموقع الصين في العالم. من هنا تحديدا بدأت سياسات واشنطن تجاه الصين في التبدل والانتقال من سياسة الانفتاح والشراكة إلى الانفصال والاحتواء.

font change

مقالات ذات صلة