أطفال لبنان ضحايا المجرمين والقوانين الطائفية وانهيار القضاء

بعد الكشف عن شبكة اغتصاب القاصرين

AFP
AFP
قوات الأمن تحرس خارج قصر العدل في بيروت

أطفال لبنان ضحايا المجرمين والقوانين الطائفية وانهيار القضاء

بيروت: ملاك، أم لبنانية شابة وعاملة في التربية الحضانية، تواجه صعوبة في السيطرة على خوفها، الذي تحوّل إلى أفكار سوداوية وموجات هلع نفسي، بسبب شعورها بالعجز عن حماية أولادها الثلاثة.

هذا ما تقوله لـ"المجلة"، تعليقا على افتضاح عصابة اغتصاب قاصرين في لبنان من 30 عضوا، في أوائل مايو/أيار الجاري، والمتهمون الأبرز "تيكتوكرز" من بينهم حلاق شهير ومبرمج، وكذلك محامٍ وطبيب أسنان، يتعاونون في استدراج الأطفال إلى الشاليهات والاعتداء عليهم جنسيا، وابتزازهم بالفيديوهات، ثم نشرها على الإنترنت المظلم.

تتابع الأم: "تتردّد في بالي كلمات صديقاتي ’لا تكوني الأم الدجاجة، خففي عن نفسك’. أما معالجتي النفسية، فتنصحني بقطع الحبل السري مع أولادي، لكن كيف؟".

على الرغم من الاحترازات التي تتبعها الأمّ مع أطفالها في ما يخص استخدام الأجهزة الإلكترونية، من حجب مواقع البالغين، ومعرفة كلمات سرّ الحسابات، وتثبيت "وضع الاقتران"، بحيث تتابع ماذا يتصفح الأولاد، وكلمات محرّك البحث، وعلى الرغم من حرصها على الحوار مع أطفالها، ومشاركتهم أوقات التلفزيون واللعب، فهي تشعر أنّ كل نظم الأمان والحماية انهارت أمام هذه اللحظة: "كنت أشارك ابني البالغ 12 سنة لعبة تعلم الشطرنج على تطبيق للصغار، وظهر فجأة إعلان كرتوني، فيه امرأة مع طبيبتها النسائية تتبادلان القبلة الفرنسية، وأمام المرأة المصدومة ثلاثة احتمالات: التظاهر بأنها لم ترَ، المواجهة، أو الهرب، ويجب على الأطفال النقر على أحد الاحتمالات لتحميل الفيديو كاملا".

  34%  من الأطفال في لبنان يعتقدون أنّ حياتهم ستكون بعد عام أسوأ مما هي عليه اليوم

تأكّدت الأم أن عالم الانترنت يقع خارج السيطرة، و"التطبيقات الإلكترونية هي أهم تحديات الأهل في هذا العصر، وهنا لا أتحدث عن الأهالي غير المبالين، وهم أوّل المجرمين في حق أطفالهم".

تشتدّ على ملاك مشاعر الذنب كلّما تذكّرت أنّ أطفالها في لبنان. دفعتها ظروفها للعودة بعدما عاشت سنوات مع أِسرتها في الإمارات: "كانت ابنتي في الليل تعود مشيا إلى البيت بعد عشاء مع صديقاتها، دون أن ينتابني أقل شعور بالقلق. أمّا في لبنان، فأشعر دائما بالخطر، يحاصرني الندم والخوف بسبب عودتي إليه".  

أرقام وأسئلة

بين العالم الافتراضي وعالم الواقع، والمساحات المشتركة بين العالمين، لا يكاد يمرّ يوم في لبنان دون وقوع جريمة فردية أو جماعية في حق الأطفال. وسواء وضعت الانتهاكات في خانة الأخبار المتفرقة، أو قضايا الرأي العام، أو حتى جريمة في حجم انفجار مرفأ بيروت، ورجل الدين المسيحي الذي اغتصب قاصرات مرارا فبرّأه لبنان وحاكمته فرنسا والفاتيكان، دون الحديث عن الجرائم المستمرة في الخفاء، فإنّ الاستجابة العامة لا تتعدى الزوابع الافتراضية في بلد تعوّد على تغييب العدالة.

منذ خريف 2019 الذي أطلق المسار الانحداري للانهيار المتعدد المستويات، تتصاعد الأخطار المحدقة بالأطفال في لبنان. في تقريرها المنشور في ديسمبر/ كانون الأول 2021، بعنوان "بدايات مظاهر العنف: أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان"، حذّرت "يونيسيف" من أنّ "طفلا واحدا من بين كلّ اثنين معرّض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي. وبسبب عوز الأسر، يواجه الأطفل خطر التعرض لانتهاكات جسيمة من بينها الزواج المبكر، عمل الأطفال والعنف الأسري".

وفي ديسمبر/كانون الأول 2023، صدر "تقييم يونيسف السريع الذي يركز على الأطفال"، يفيد بأن "وطأة الأزمة شديدة جدا على صحة الأطفال النفسية". وبسبب الحرب الدائرة مع إسرائيل منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، أفادت 46% من الأسر في الجنوب أن أطفالها يعانون القلق، و38% منهم من الاكتئاب.

Shutterstock

كما يبيّن  الاستطلاع أنّ 34% من الأطفال في لبنان يعتقدون أنّ حياتهم ستكون بعد عام أسوأ مما هي عليه اليوم، مقارنة بنسبة 27% في أبريل/ نيسان 2023. وشمل الاستطلاع 2153 أسرة لديها طفل واحد على الأقل، ومنها 1228 أسرة لبنانية و534 أسرة سورية و391 أسرة فلسطينية.

بعيدا من الفورات، واشتغال النعرات العنصرية بين الجنسيات، بينما عدّاد الجرائم لا يفرق بين ضحاياه من الأطفال، يجدر الانتقال إلى مناقشة علميّة لمسؤوليات القضاء والأمن: هل القوانين اللبنانية صديقة للأطفال؟ ماذا عن إجراءات القضاء في خصوص القاصرين؟ وكيف يتقاطع هذا النمط مع المسار العام للعدالة؟

عنف قانوني

الخبيرة القانونية في قضايا العنف الأسري المحامية ميساء شندر، تقول لـ"المجلة" إن "وجود قوانين عدة تعنى بحقوق الطفل في لبنان يعطي انطباعا بالحماية والتحصين. غير أنّ النصوص تتضمن ثغرا كثيرة، كما أن تطبيقها يشوبه التراخي والاستنساب، وتتقاطع مع هذه النصوص قوانين غير منصفة للأطفال، وأخرى تميز بينهم، وهناك مواد قانونية يتحفّظ لبنان عن تطبيقها، ومسار التعديل القانوني طويل ومتعرّج. وبعد تعديلها، ستدخل هذه القوانين من جديد في حلقة التراخي".

تعدّد شندر أبرز القوانين التي تعنى بحماية الطفل في لبنان، وهي قانون العقوبات اللبناني، وقانون حماية الأحداث، وقانون حماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري، بالإضافة إلى الاتفاقية الدولية الخاصة بحقوق الطفل. وتشير إلى وجود "عنف قانوني" متعدّد تجاه الأطفال اللبنانيين والأطفال عامة في لبنان. ودون الخوض في قراءة قانونية مطولة، تسلط المحامية الضوء على أبرز الانتهاكات:

  • لا يتّبع القضاء اللبناني إجراءات حماية كافية في ما يتعلّق بالعنف الأسري والتي تفرض في التعديلات الأخيرة عام 2020 حماية الأطفال المعرّضين للخطر نتيجة الأوضاع العائلية المستجدة التي يسببها عنف أحد الأبوين أو كلاهما. إذ يحظى بالحماية الأطفال دون سن الثالثة عشرة فقط، بينما القاصرون من عمر الـ13 حتى الـ18 لا يتمتعون بالحماية. وعلى الرغم من توضيح هذا القانون لكافة أنواع العنف "الجسدي واللفظي والجنسي والنفسي والاقتصادي"، وعدم حصره بالعنف الجسدي الأكثر شيوعا والأسهل إثباتا، غير أن مفهومه لا يزال ملتبسا في المجتمع اللبناني وكذلك آليات الإثبات والتطبيق.

 تتضمن النصوص القانونية ثغرا كثيرة، كما أن تطبيقها يشوبه التراخي والاستنساب، وتتقاطع مع هذه النصوص قوانين غير منصفة للأطفال، وأخرى تميز بينهم

ميساء شندر

  • يستبعد المشرّع في لبنان كلّ اقتراحات مشروع قانون موحّد للأحوال الشخصية، لصالح عدم المس بالنص الديني، والأعراف والتقاليد. ولا تزال قوانين الأحوال الشخصية المتبعة في لبنان الأكثر ظلما للأطفال، والأكثر تمييزا بينهم بحسب الطائفة، خصوصا في مسألتي الحضانة والتزويج. تخضع الحضانة ضمن طوائف لبنان الدينيّة الـ18 لـ15 قانونا، بموجب سقف لأعمار الأطفال، ينهي رعايتهم من قبل الأم: 12 سنة للذكر والأنثى عند السنّة، وسنتان للذكر و7 سنوات للأنثى عند الطائفة الشيعية، وسنتان عند الطوائف الكاثوليكيّة، ويعتمد الروم الأرثوذكس سن الحضانة 14 سنة للذكر و15 سنة للأنثى.
  • منذ عام 2010، طُرحت أمام البرلمان اللبناني 8 مشاريع قوانين لمنع تزويج القاصرات، وهي لا تزال تواجه بالرفض، على الرغم من تنامي آفة الزيجات المبكرة خلال السنوات الأربع الماضية في المجتمعات الأكثر حرمانا وأبرز ضحاياها الطفلات السوريات اللاجئات وطفلات في المناطق النائية. وهذا يعني أن الحد الأدنى لسن الزواج تحدده مجتمعات الطوائف المختلفة في لبنان، بإذن ولي الأمر أو إذن قضائي، وتصل سن الزواج إلى 15 للذكور و9 للإناث لدى الطائفة الشيعية وهو الأدنى.
  • على الرغم من إلغاء مجلس النواب في عام 2017 المادة 522 من قانون العقوبات، وهي منحت أسبابا تخفيفيّة للمغتصِب إذا اقترن بالقاصر المغتصَبَة، يعتبر القانونيّون هذا الانتصار منقوصا ومشوبا بالثغر، لأن مفاعيل المادة الملغاة انتقلت إلى المادتين 505 و518 من قانون العقوبات، حيث نستخلص أنّ عقوبة المغتصب لا تزال مخففة بالسجن خمس سنوات كحدّ أقصى وشهرين بالحد الأدنى.
  • تتحفظ السلطة التشريعية في لبنان عن بعض المواد في الاتفاقيات الدولية مثل إتفاقية "سيداو" لناحية منع تزويج الطفلات قبل تطبيق سن الثامنة عشرة، وحق الأمهات المتزوجات من رجل أجنبي في منح الجنسة للأطفال، أو حتى حق الأطفال في الاستحصال على هوية وعدم تحويلهم إلى مكتومي القيد بسبب عدم التصريح عن ولادتهم في دوائر النفوس خلال سنة من ولادتهم. وكلّ هذه الانتهاكات إمّا لا يعاقب عليها القانون اللبناني أو تنتهي بعقوبات مخففة.

وتنتقد المحامية "الإجراءات القاسية التي يعتمدها قضاة الأحداث، حيث يلجأون إلى التوقيف دون محاكمة، بينما يفرض قانون حماية الأحداث البت السريع لملفات الأحداث المعرضين للخطر دون إبطاء أو تأخير. كما يزج القضاء بالقاصرين مع الراشدين في السجون نفسها، لمهل غير محددة، مسقطين حقّ الأطفال في الحماية والرعاية وإعادة التأهيل والخدمة المجتمعية".

تخلّف رقمي

تغيب في لبنان الحماية الواقعية والقانونية للأطفال من جرائم الأمن السيبراني.

Shutterstock

جرت محاولات مجهضة لوضع إطار قانوني-تربوي للتوعية، من خلال اقتراح شبكة التحول والحوكمة الرقمية المنبثقة عن مجلس النواب، الذي يهدف إلى إدراج التربية الرقمية ضمن المنهج الدراسي، "لم يتبنّ البرلمان الخطوة، وكل مشاريع تجديد المناهج الدراسية مجمدة أو غير مرحب بها. وبعض النواب يعتبرون أنّ وجود كتاب "التربية المدنية" كافٍ، ويعلمون أنّ هذا الكتاب الذي يدرسه جيل الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي يعود لمناهج العام 1997"، وفق عضو الشبكة والأستاذة في القانون الرقمي والأمن السيبراني، الدكتورة جيهان فقيه.

وتتابع في حديث لـ"المجلة"، أنّ "لبنان أقرّ قانونا واحدا في مجال الأمن الرقمي هو "القانون 81/2018 الخاص بـ"المعاملات الإلكترونية والبيانات ذات الطابع الشخصي"، والقانون بدائي منذ إقراره في 2018، بعد مخاض عسير استمر منذ العام 2000. قبل ذلك الوقت كنا نحاول سد الفجوة القانونية من خلال قانون العقوبات وقانون حماية الملكية الفكرية. وبالنظر إلى الثورة الرقمية ودخول تقنيات الذكاء الاصطناعي، تتعاظم الأخطار التي تتربّص بالأطفال في لبنان على التطبيقات الالكترونية، دون نهج أمن استباقي أو توعية".

في الوقت الراهن، تتّخذ محاولات تعديل القانون 81/2018 اتجاه التخلي عن البيروقراطية والمعاملات الورقية، فيركّز المهتمون على تظهير الأهمية الاقتصادية والسياسية والتجارية لهذه الخطوة. في المقابل، يغيب أو يُغيّب الدفع في اتجاه تطوير المادتين 535 و536 اللتين تحميان القاصرين من الاستغلال في المواد الاباحية، أو الضغط لاستحداث مواد عصرية.

منذ عام 2010، طُرحت أمام البرلمان اللبناني 8 مشاريع قوانين لمنع تزويج القاصرات، وهي لا تزال تواجه بالرفض

في النتيجة، يبقى التشريع اللبناني عاجزا عن مواكبة التطور الرقمي وحماية الأطفال من جرائمه المختلفة. وهذا ما يفسّر حقيقة أن الخيط الأوّل في قضية عصابة "تيك توك" كشفته إيطاليا في كتاب عبر الإنتربول إلى لبنان، لطلب توضيح حول فيديوهات القاصرين اللبنانيين المغتصبين التي انتشرت في مواقع سوداء.

مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية

تجسّد الجريمة المذكورة حالة نموذجية في المجتمع اللبناني، انطلقت على إثرها أصوات ومدوّنات تنتقد جهاز مكافحة جرائم المعلوماتية في لبنان، حيث يعتبر نشطاء أنّ هذا المكتب يصب أولوياته في قمع حرية التعبير والاختلاف، عوضا عن تعقب الجنايات التي تبدأ من القنوات السيبرانية وتتمادى في حق الأطفال.

نقلت "المجلة" هذه المفارقات إلى مدير مركز "سكايز" أيمن مهنّا، الذي شدّد على "الانطلاق من دور النيابة العامة، لأنها الجهة التي تتلقى الشكاوى عند وقوع الجرم، كما هي الجهة التي تتولى تكليف الضابطة العدلية بما فيها مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية للقيام بالمقتضى قبل مباشرة الاجراء القضائي".

ويحيط مهنّا دور مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية بعاملين: "أولا، هل تعالج النيابة العامة الإخبارات للتحقيق في الجرائم الحاصلة كافة؟ إن كان الجواب بالنفي، فالمسؤولية تقع على كاهل النيابة العامة. من جهة ثانية، يلعب مكتب مكافحة الجرائم الإلكترونية مسؤولية في الأمن الاستباقي بغطاء من النيابة العامة، فهو يمتلك صلاحيات إجراء التحقيق الأولي قبل إحالة المتهمين إلى الجهات المختصة. فهل يقوم المكتب بدوره في الأمن الاستباقي؟".

في ضوء السؤالين، يتناول مهنّا "ممارسات "الدولة القمعية"، حيثُ تتخذ الأجهزة الأمنية مسارا قمعيّا بهدف استبعاد النقاش العام عن مختلف الأزمات التي يعانيها المجتمع اللبناني، لصالح السلطة السياسة والأحزاب النافذة".

ويضيف: "في الفضاء الإلكتروني، يعتمد القمع أسلوبا مباشرا من خلال اختلاق الجيوش الإلكترونية حملات هجومية تعتمد اللغة البذيئة والتشهير الشخصي، فتدفع اللبنانيين للارتداد إلى غرائزهم الطائفية، ويتحوّل تركيزهم عن متابعة قضايا العدالة. وبطريقة غير مباشرة، يجري تطفيش الصوت المعتدل من دوائر النقاش العام، فيُلغى التعقل أو يمارس أصحابه الرقابة الذاتية، في مقابل صعود التجييش على 'ترند' الصفحات اللبنانية".

الإفلات من العقاب

تحلّ  سرقة أموال المودعين في المصارف اللبنانية وانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020 بمثابة القضيتين المرجعيتين في منهج التخلي الحاصل، حيث يستبعد المواطنون الاقتصاص من أيّ مجرم أو معتدٍ، وهم يستصغرون في عين القضاء حقوقهم الشخصية وحقوق الأطفال في مقابل كوارث جماعية لم تحرّك لها السلطات ساكنا، وحين تتدخل فالهدف يكون لإعاقة مسار العدالة.

بالنسبة إلى رئيس "المركز اللبناني لحقوق الإنسان" وديع الأسمر، تسيطر في الذهنية اللبنانية ثقافة الافلات من العقاب، ويتضرر منها الأطفال اليوم بشكل أليم ومباشر، لكنها ثقافة معممة ومتجذرة منذ زمن بعيد بسبب تراكمات حاصلة قبل الملفات الكبرى الجديدة.

 الخيط الأوّل في قضية عصابة "تيك توك" كشفته إيطاليا في كتاب عبر الإنتربول إلى لبنان

ويفصّل تحليله عبر "المجلة"، مستندا إلى "إسقاط الحق الشخصي الممكن قانونا، والذي يتمّ غالبا بعد تعرض الضحايا أو أهاليهم لتهديدات وضغوط أو لقاء بدل مادي تُغرى به الأسر الفقيرة. والنتيجة أنّ القاتل في لبنان قد يطلق سراحه بعد 6 أشهر من السجن فقط. كما يحظى متهمون بجرائم قتل بتخليات سبيل، فتجري محاكمتهم وهم خارج السجن، بينما يقبع في السجون موقوفون دون محاكمات إن لم يتمتعوا بدعم سياسي، وهذا ما يرسّخ الشعور الجماعي اليوم بأنّ 'الشاطر ينجو'، وبتنا نسمع دعوات الأمن الذاتي، ونشاهد مسيرات المجموعات المسلحة التي تجوب الشوارع، مثل 'جنود الرب' وغيرهم من الجماعات التي تسوّغ مظاهر السلاح تحت شعارات اجتماعية وسياسية مختلفة".

ويضيف الأسمر "استسهال المشرع اللبناني إقرار قوانين العفو العام عموما، ومنها إقراره بعد انتهاء الحرب، فلم يحاسب مرتكبو آلاف جرائم القتل والاغتصاب و17000 مخفيّ قسرا. ويضاف قانون عفو عام شمل المحكومين بقضايا المخدرات في تسويات تستهدف فئات محددة من الشعب اللبناني. كما يلاحظ تجهيل القاتل أو اختفاؤه في مختلف أنواع الجرائم السياسية منذ العام 1990".

ويشير الناشط الحقوقي إلى أنّ اللاجئين السوريين الذين لا يتمتعون بالاقامات بسبب تقاعس الأمن العام عن إصدارها، لا يبلغون عن مختلف الاعتداءات التي يتعرضون لها. وتضاف إلى الفئات الأكثر تضررا العاملات الأجنبيات اللواتي يتعرضن للعنف، فيرفع عليهن الكفلاء دعاوى سرقة ويجري ترحيلهن من لبنان.

ونتيجة هذه الممارسات، يلاحِظ غياب المثابرة على تطبيق القوانين، "وأبسط مثال هو فرض وضع حزام الأمان في السيارات بقرار من وزير الداخليات الأسبق زياد بارود، تحت طائلة الغرامة المالية. بعد انتهاء ولاية بارود لم يعد اللبنانيون يضعون أحزمة الأمان".

الانهيار والعدالة المؤجلة

إلى جانب اختلال منظومة القوانين، يلفت وديع الأسمر إلى انهيار المؤسسات القضائية، "وهو مواز للانهيار الاقتصادي الذي انهارت بسببه معاشات القضاة وإن تمّ تحسينها ولكن ليس بصورة كافية، إلى جانب انهيار موارد كل الجسم البشري العامل في القضاء والذي كان عاجزا لسنوات عن تأمين وصوله إلى المكاتب، وعدم وجود الحد الأدنى من متطلبات بيئة العمل من كهرباء وأوراق وغيرها في قصر العدل. كل هذه العوامل ساهمت في تأخّر المحاكمات القضائية".

AFP
قاعة محكمة فارغة في قصر العدل اللبناني في بيروت في 30 أغسطس 2022

ويأسف الأسمر لـ "انهيار التوازن والممارسات العادلة بين التوقيف والمحاكمات. في العام 2018-2019، تعادل عدد الموقوفين والمحكومين في السجون اللبنانية تقريبا، وهي نسبة مقبولة دوليا. في حين تظهر أرقام مديرية السجون في وزارة العدل الأخيرة في عام 2024 أن السجون تضم 6528 سجينا، والرقم في المناسبة ليس مخيفا نسبة إلى عدد السكان في لبنان البالغ نحو 6 ملايين. المشكلة هي أن 80% من هؤلاء السجناء ينتظرون المحاكمات، والعدالة المؤجلة ليست عدالة".

 يتابع: "الإدارة العامة في لبنان ليست محايدة ولم تكن يوما حريصة على العدالة من مبدأ الفصل بين السلطات. للتدخلات السياسية والطائفية اليد الأبرز في معاملة اللبنانيين كتابعين سياسيين، عوضا عن معاملتهم كأفراد يتمتعون بحقوقهم الإنسانية، وهذا تأطير للدولة المفككة التي يجسدها لبنان منذ الاستقلال، والانهيار الأخير سرّع هذا التفكك. علينا ألا ننسى أن الأحزاب السياسيّة تلجأ اليوم إلى التعويض عن قلة المال السياسي من خلال تكثيف تدخّلاتها في الملفات القضائية لكسب مؤيدين والحفاظ على رصيدها الشعبي".

أهمية التبليغ: قصة روان

لا تزال مسارات العدالة في لبنان تضيق وتذوي، ويتشاطر اللبنانيون اليأس في الوصول إلى حقوقهم، لا سيما في قضايا الأطفال التي لا تنطوي على مصالح سياسيّة، في بلد تفصل قوانينه الطوائف، وتحدد معايير المواطنة والمسموح والممنوع في مختلف جوانب المجتمع.

تقرّ المحامية ميساء شندر باستعصاء الواقع، لكن الأهالي يجب ألا يتخلّوا عن دورهم في متابعة شؤون أطفالهم وتصديقهم وحمايتهم والتبليغ عن الاعتداءات التي يتعرضون لها دون الخوف من تعيير المجتمع أو الشعور بالعجز بسبب الأداء القضائي.

وتستند ملاحظتها إلى أنّها تسدي يوميا استشارات قانونية حول اعتداءات تطاول الأطفال، غير أن الملفات التي رفعتها رسميا للمتابعة لا تتعدى 7 ملفات خلال العامين الماضيين، ومن بين هذه القضايا تستعرض قصة نجاح ملف الطفلة روان.

   يستبعد المواطنون الاقتصاص من أيّ مجرم أو معتدٍ، وهم يستصغرون في عين القضاء حقوقهم الشخصية وحقوق الأطفال في مقابل كوارث جماعية لم تحرّك لها السلطات ساكنا

تعرضت الطفلة للتحرش الجنسي بعمر 8 سنوات، واستمر الجرم في حقها طيلة سنتين، وهي تحاول جاهدة إخبار والدها وزوجته اللذين تأخرا في فهم محاولاتها كف أذى المتحرش، وهو أستاذ تعليم خصوصي وجار في السكن. وعلى الرغم من مرور 15 يوما على آخر تحرش جنسي تعرضت له الطفلة، عند تقديم والدها الشكوى في مخفر المنطقة، وضياع إمكان إثبات التحرش من خلال تقرير الطب الشرعي، إلا أن تقريري مندوبة الأحداث والاختصاصية النفسية اللتين رافقتا الطفلة في الاستجواب والمتابعة أمام القضاء، أكّدا تعرّض الطفلة للتحرش الجنسي. نجح التقريران في إثبات ارتكاب المعتدي لجرم التحرش الجنسي في حق الطفلة، وإنزال عقوبة المادة 509 من قانون العقوبات في حقه، وإلزامه دفع تعويض للطفلة عن الأضرار الجسدية والنفسية، وذلك في قرار صادر عن محكمة التمييز الجزائية في بيروت، بعد أن منعت عنه المحاكمة محكمة جنايات طرابلس لعدم كفاية الأدلة.

وتستنتج المحامية أنّه تمّ القصاص من المعتدي بالشكل العادل وإن كانت العقوبة لا تتعدى الأربع سنوات سجنا في حدها الأقصى، إلا أن المثابرة في تأكيد الجرم الشائن وقصاص المعتدي ساهما في ترميم ثقة الطفلة بنفسها، وانتصارها على مفهوم موت العدالة والخوف من جلب الفضيحة.

font change

مقالات ذات صلة