الاستراتيجية الإسرائيلية واضحة، حتى وإن كنا لا نريد أن نراها. في السابق اعتقدنا في الحركة الوطنية الفلسطينية أن موافقتنا على التعايش بين دولتين، مجرد موافقتنا على الدولة الفلسطينية الصغيرة على حدود 1967 سوف يضمن تنفيذ هذا الحل، لأن إسرائيل تتحرق شوقا للموافقة الفلسطينية والعربية. واختلفنا على ذلك، معسكر مؤيد للموافقة ضم الأغلبية ومعسكر معارض للموافقة ضم جبهة الرفض، وكلا المعسكرين لديه الفرضية نفسها. وللأسف لم يقل أحد إن الفرضية ذاتها خاطئة. استمرت الفرضية وأكاد أقول إنها سارية حتى الآن، وهي يمكن أن تفسر مواقف كثيرة بما في ذلك ذهاب القيادة الوطنية لاتفاقية أوسلو وما تلاها.
في الحقيقة إسرائيل لم توافق أبدا على فكرة التقسيم والتعايش بين دولتين، وأصرت- سواء علنا أو سرا- على أن كل الأرض هي "أرض إسرائيل" وأن من حق الشعب اليهودي الاستيطان في الضفة الغربية بما في ذلك القدس الشرقية وفي قطاع غزة (الأرض الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967) وأن الوجود الفلسطيني هو مجرد وجود أقلية سكانية داخل إسرائيل، وبالتالي البحث عن حلول لهذه الأقلية.
إسرائيل لم توافق قط على وقف الاستعمار الاستيطاني لأرضنا رغم أنها وافقت أحيانا مضطرة على تجميد الاستيطان لفترة ولم توافق قط على المركز القانوني للضفة، بما في ذلك القدس وغزة كأرض محتلة. وإسرائيل لم توافق قط على فكرة التقسيم لدولتين، أي دولتين لشعبين. عندما توصلت إسرائيل مع القيادة الفلسطينية لاتفاقية أوسلو أخلصت لهذه المواقف وبالتالي خلت الاتفاقية من أي إشارة لوقف الاستعمار الاستيطاني أو حتى وجود الاحتلال أو وجود دولة فلسطين وفقا لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
وبالرغم من هذا الإخلاص وسوء نص الاتفاقية، قام اليمين المتطرف الإسرائيلي باغتيال إسحاق رابين، رئيس وزراء إسرائيل حينها، عقابا له على التوصل للاتفاقيات لمجرد أنها قد تفتح الباب أمام تطورات غير محسوبة قد تقود في النهاية لدولة فلسطينية. ولأن هذا اليمين يريد في النهاية الاستيلاء على كل الأرض وطرد الفلسطينيين أو جلّهم منها وليس التخلي عن الأرض الفلسطينية لم يعنِ هذا أن القيادة الوطنية ممثلة حينها في ياسر عرفات توافق على ذلك. وفي الحقيقة فقد قاتلت هذه القيادة من أجل تحقيق الدولة وعندما أدركت أن الجانب الإسرائيلي ليس في وارد الموافقة على ذلك تخلت عمليا عن "أوسلو" وفتحت الباب أمام المواجهة ولكن رد الفعل الإسرائيلي كان عنيفا جدا وقامت بتدمير السلطة وأجهزتها الأمنية وبتصفية ياسر عرفات جسديا.
الأمر الذي بقي غير واضح أن القيادة التي تلت والتي اتهمت عرفات بأشكال مختلفة بأنه سبب فشل عملية السلام، وافقت فعلا على الأمر الواقع البديل الذي خلقته إسرائيل، ووافقت على عدم العودة حتى لاتفاقيات أوسلو وفكرة الحكم الذاتي وهي الموافقة التي نعاني منها حتى الآن.