غزة ولبنان في معرضين بباريس: تاريخ يستغيث

الإرث دون إنسان بلا ذاكرة

AFP
AFP
ملصق معرض "كنوز محفوظة من غزة – 5000 عام من التاريخ" في "معهد العالم العربي" بباريس، 31 مارس 2025

غزة ولبنان في معرضين بباريس: تاريخ يستغيث

يبدو تنظيم "معهد العالم العربي" في باريس لمعرضين عن غزة ولبنان انعكاسا لحركة الشارع الفرنسي المحتج على ما يحدث هناك، وإن اتخذ التنظيم مسارا تاريخيا يبرز، من خلال المواد والصور، أهمية الآثار والأماكن التاريخية التي تعود إلى آلاف السنين، وتعرّض بعضها للتدمير والتهشيم جراء القصف الإسرائيلي.

يندهش الزائر وهو يرى تلك الكنوز الأثرية المنقذة من غزة، التي أقرّ الباحثون بأن بعضها يرجع إلى خمسة آلاف عام. فيستذكر، مع هذه اللقى الأثرية، ذلك التاريخ المتشابك مع بلاد ما بين النهرين ومصر، ومع الفرس والرومان واليونان، حيث حاصرها في القرن الرابع قبل الميلاد الإسكندر الأكبر لمدة شهرين، وارتكب الكثير من المذابح والدمار.

آثار دمرت

في المعرض، الذي افتتح الخميس الماضي ويشارك في تنظيمه عدد من المؤسسات إلى جانب "معهد العالم العربي"، من بينها جمعية "لوفر دوريان" و"ألِف"، تُعرض صور لبقايا مساجد، وأرضية فسيفساء تعود الى القرن السابع الميلادي كانت تزين كنيسة بيزنطية، وجرار قديمة نُقل فيها نبيذ غزة إلى أمكنة كثيرة حول العالم، بالإضافة إلى تمثال لأفروديت. هذه القطع المعروضة، وعددها 87 قطعة أثرية، قال منظمو المعرض إنها كانت مخزنة في جنيف ضمن 529 قطعة صارت ملكا للسلطة الفلسطينية. ونوّه أثريون بأن 94 موقعا تراثيا في غزة تعرّضت للأضرار، حسب إحصاء أعلنته منظمة "يونسكو". ومن بين المواقع المتضررة الجامع العمري الكبير، الذي كان في الأصل كنيسة بيزنطية، وقصر الباشا من القرن الثالث عشر، الذي يقال إن نابليون احتمى فيه بعد حملته في مصر، وقد تحول لاحقا إلى متحف لكنه اليوم مدمّر. ويشير المنظمون إلى رجل الأعمال الفلسطيني جودت خضري الذي "أسهم بشكل كبير في اكتشاف وحماية تراث غزة، بما في ذلك وقف تهريب القطع الأثرية إلى إسرائيل"، إلا أن "الكنوز الأثرية التي جمعها خضري لأكثر من ثلاثين عاما باتت مفقودة اليوم. بعد أن احترق متحفه الخاص، أو دُفنت تحت أنقاض قصره في غزة"، كما جاء في كتيب المعرض.

لماذا يُقام اليوم معرض عن تراث غزة، بينما لا يزال الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون هناك يعانون بأجسادهم من أهوال الحرب، ومن التهجير القسري، ومن الحرمان؟

جاك لانغ

تذكِّر محتويات المعرض بالمجمع الديني البيزنطي الذي اكتشف في النصيرات، وفيه دير القديس هيلاريون المهدد بالاندثار، ومقبرة رومانية- بيزنطية تحتوي على توابيت مزينة بزخارف فنية في مخيم جباليا. وهناك أيضا تمثال لزوس محفوظ في متحف الآثار في إسطنبول اكتشفه فلاح فلسطيني عام 1879. ولاحقا كشف عن مجمع مصري كبير من نهاية العصر الكنعاني، القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد، في دير البلح، حيث عُثر على توابيت أنثروبولوجية من الطين.

JULIEN DE ROSA / AFP
تمثال يُعرض ضمن تجهيزات معرض "كنوز محفوظة من غزة" في "معهد العالم العربي"، باريس، 31 مارس 2025

كما يذكِّر المعرض بعملة غزة الفضية في القرن الرابع قبل الميلاد، وبكثير من المعابد الدينية لمختلف الديانات في مراحل تاريخية عرفت الكثير من التغيرات، وبقيت مهدا للتسامح والعيش المشترك.

مصدر أمل

يرى جاك لانغ رئيس "معهد العالم العربي" في باريس أن عرض "الكنوز المنقذة من غزة"، يُعدّ "فعل مقاومة". وتساءل في كلمة افتتاح المعرض: "لماذا يُقام اليوم معرض عن تراث غزة، بينما لا يزال الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون هناك يعانون بأجسادهم من أهوال الحرب، ومن التهجير القسري، ومن الحرمان؟ لماذا نعيد الذاكرة إلى الحضارات القديمة، إلى التاريخ العريق، إلى الجمال الفريد والأثر الصامد، بينما لا يزال الغزيون يكافحون من أجل البقاء؟". وأضاف أنه بدأ التحضير لهذا المعرض منذ أغسطس/ آب 2023، وقال: "أدهشتني القوة الفكرية والفنية لسكان غزة، وكذلك حبهم لتراثهم. رغم كل شيء". وأمل رئيس المعهد ووزير الثقافة الفرنسي السابق أن يكون "هذا المعرض التاريخي مصدر أمل جديد في مستقبل غزة، بعيدا عن مشاريع التهجير والاقتلاع القسري للفلسطينيين".

JULIEN DE ROSA / AFP
قطع أثرية ضمن تجهيزات معرض "كنوز محفوظة من غزة" في "معهد العالم العربي"، باريس، 31 مارس 2025

وسألت "المجلة" الشاعر شوقي عبدالأمير، المدير العام لـ"معهد العالم العربي" عما إذا كان هذا المعرض بمثابة تضامن مع غزة، فقال: "قيل الكثير من الآراء المتضاربة والمتناقضة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حول الأحداث الدامية والمأسوية، لكن هناك خطابا غير قابل للدحض والاعتراض وهو خطاب التاريخ، خطاب الزمن، ما تقوله مفردات الماضي الذي يؤكد أن هذا الشعب تاريخي وأن غزة حضارة ألفية، ليست مطروحة للسياحة أو مباحة للاحتلال. هذا الشعب عريق في الحضارة يستحق أن يعيش بسلام ووئام. المعرض ردّ على كل محاولات التهميش والتهجير والاحتلال والقمع لغزة".

© المكتبة الشرقية، جامعة القديس يوسف، بيروت (imarabe)
صيدا، لبنان، منظر جوي للميناء والقلعة البحرية، تصوير أنطوان بويتبارد، 20 أغسطس 1934

صور من لبنان

بالتوازي مع معرض غزة، افتُتح في "معهد العالم العربي" معرض للصور الفوتوغرافية التي تحتفظ بها المكتبة الشرقية في جامعة القديس يوسف في بيروت وتعود إلى فترة تمتد من 1864 إلى 1970. وهي صور لمواقع وآثار لبنانية باتت مهددة بالقصف الإسرائيلي. ويقول جوزيف رستم مدير المكتبة لـ"المجلة" إن "المعرض يكشف عن اهتمامات الآباء اليسوعيين الأولى بآثار لبنان، خاصة مع تأسيس جامعة القديس يوسف (اليسوعية) عام 1875 وتأسيس المكتبة الشرقية عام 1902 ضمنها"، حيث جمع هؤلاء الباحثون "أرشيفا ضخما يتضمن عشرات الآلاف من الصور".

هذا الشعب عريق في الحضارة يستحق أن يعيش بسلام ووئام. المعرض ردّ على كل محاولات التهميش والتهجير والاحتلال

شوقي عبد الأمير

ويقدّم المعرض بعض الأماكن الأثرية المهمة في بعلبك وصور وصيدا وجبيل، وصورا لمناظر طبيعية واجتماعية من مناطق كسروان والهرمل والبقاع والشوف والمتن. وهناك صور التقطت من الجو لأماكن أثرية ومدن، وتعكس اهتمامات الآباء اليسوعيين في مختلف المجالات.

ونوه رستم ببعض الآثار التي تعرّضت للقصف الإسرائيلي مثل قلعة "شمع" الصليبية في جنوب لبنان، وتدمير مبنى "المنشية" في بعلبك، الذي يعود إلى العهد العثماني، معتبرا أن هذا المعرض يكشف عن آثار لبنان التي من المهم الحفاظ عليها. وكانت واجهة المكتبة الشرقية قد تعرّضت للضرر من انفجار المرفأ عام 2020.

© المكتبة الشرقية، جامعة القديس يوسف، بيروت (imarabe)
نهر الكلب، لبنان، الجسر العربي الذي بناه السلطان برقوق عام 1390

استغاثة التاريخ

يكاد زائر المعرضين يسمع صوت التاريخ وهو يستغيث من أجل إنقاذه، إنقاذ زمنه الحضاري، وشواهده التي تدل على أحداث وأناس وتبدلات أمكنة حملت إرثا عظيما، يصبح دون الإنسان بلا ذاكرة.

حياة الإنسان لها الأولوية في حملات القتل التي لم تنته، لكن الاهتمام بماضي هذا الإنسان وتاريخه يعني أيضا الكف عن مواصلة قتله في الحاضر، وقتل حاضره ومستقبله معه.

AFP
فسيفساء من غزة تُعرض في المعرض الأثري في "معهد العالم العربي"، باريس، 31 مارس 2025

الجمهور الفرنسي الذي احتشد لمشاهدة المعرضين، أظهر عمق الأواصر الإنسانية اللاحدودية التي، ربما، وجدوها في المعرض، حيث سيجدون بالتأكيد بعض إرث أجدادهم أيضا، الذين كانوا الشغوفين بارتياد العالم، أو كانت جذورهم هناك، في غزة ولبنان. لكنهم، أولا وأخيرا، لن يغفلوا أن ما يشاهدونه يأتي في وقت دُمّرت فيه معظم القيم الحضارية والجمالية التي يحتويها المعرض، حيث يعيش الإنسان مهددا باجتثاثه من أرضه وتاريخه وثقافته وحياته.

font change