بعد اعلانه فرض تعريفات جمركية كثيرة ومختلفة، عقابية الطابع، على حلفاء أميركا وخصومها التقليديين، فضلا عن دول أخرى كثيرة ترتبط بأميركا بعلاقات طبيعية، كتب الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، تغريدة لافتة وكاشفة في الوقت نفسه: "العملية الجراحية انتهت! المُصاب عاشَ وهو يتعافى. التشخيص المستقبلي للحالة أن المصاب سيصبح أقوى وأكبر وأفضل بكثير، وبقدرة أعلى بكثير من السابق على التحمل وتحدي الصعاب. لنجعل أميركا عظيمة مرة اخرى".
عبر هذه الاستعارة الطبية المألوفة بخصوص نجاح العملية الجراحية ونجاة المريض من الموت، يقر ترمب ضمنا أن سياساته الجمركية ستقود إلى بعض الألم والعناء المباشرين في المدى القصير، بانتظار التعافي الكامل وبروز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية أكبر وأشد تماسكا.
وتعليقا على التراجع الكبير في البورصة كرد فعل على فرضه التعريفات الجمركية الجديدة، حث ترمب الأميركيين على التحمل: "اصبروا، لن يكون الأمر سهلا، لكن النتيجة النهائية ستكون نصرا تاريخيا".
يكشف هذا الإقرار النادر من ترمب- الذي اعتاد المفاخرة بأن لديه حلولا ناجعة وسريعة المفعول للمشاكل الصعبة، كما في إصراره السابق على أن باستطاعته إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية خلال يوم واحد بأن أياما شاقة تنتظر أميركا والأميركيين- الحجم الهائل للتغيير العميق الذي يحاوله الرجل أميركياً وعالمياً: إعادة تعريف النظام الدولي على أسس جديدة تعود إلى القرن التاسع عشر، حيث التجارة، وعبرها بنية الاقتصاد، بوصفها تنافسا حادا ومتواصلا بين الدول الوطنية بما عناه هذا من ترتيب السياسة والأمن حول متطلبات الفوز الوطني بهذا التنافس التجاري، وذلك بعيدا عن النموذج الحالي العابر للدول الوطنية الذي يقوم على التنافس بين الشركات، وليس الدول، لإنتاج البضائع الأفضل بأرخص الأسعار الذي يحول كل سكان العالم، بغض النظر عن البلدان التي ينتمون إليها، إلى مستهلكين تتنافس هذه الشركات للفوز بهم عبر خدمة مصالحهم الشخصية كزبائن مخلصين.
نظام التعريفات العقابية الذي أدخله ترمب معقد، وباستثناء دول لم تشملها التعريفات الجديدة، مثل روسيا وبيلاروسيا وكوبا وكوريا الشمالية، فإن كل دول العالم الأخرى تقريبا، التي تستورد منها أميركا شيئا ما، شملتها تعريفات أساسية، تبلغ 10 في المئة (تغطي هذه التعريفة معظم الاستيرادات الأميركية مع استثناء المواد النفطية والدوائية). ثم هناك تعريفات إضافية اختلفت باختلاف الدول وحتى البضائع المستوردة، فبضائع كالسيارات وبعض أجزائها الاحتياطية والفولاذ والألومنيوم فرضت عليها تعريفات بحدود 25 في المئة.
أما بخصوص الدول التي فرضت عليها تعريفات إضافية فوق التعريفات الأساسية، فهذه بلغ عددها أكثر من خمسين بلدا، كانت حصة الدول الآسيوية منها هي الأعلى (الصين ما مجموعه الآن 54 في المئة تحولت تاليا إلى 125 في المئة وكمبوديا 49 في المئة وفيتنام 46 في المئة، والهند وكوريا الجنوبية بنسبة 26 في المئة لكل منهما، واليابان 24 في المئة). حتى البلدان العربية شملتها هذه التعريفات رغم قلة صادراتها لأميركا نسبيا، فكانت حصة سوريا منها هي الأعلى 41 في المئة، ثم العراق 39 في المئة، فالجزائر 30 في المئة. أما الاتحاد الأوروبي فشملته ككتلة اقتصادية واحدة تعريفات بنسبة 20 في المئة.
العوائد المالية لفرض التعريفات
تسعى إدارة ترمب لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية مترابطة من نظام الرسوم المعقد هذا. الأول هو حصول الحكومة الفيدرالية على عوائد تبلغ ستة تريليونات دولار على مدى عشر سنوات مقبلة، بحسب بيتر نافارو، مستشار ترامب للتجارة، والقوة الرئيسة الدافعة في البيت الأبيض لتبني فرض التعريفات.
يقول نافارو، ومعه الإدارة الحالية، إن هذه الأموال تأتي من الشركات الأجنبية التي تريد أن تبيع منتجاتها في أميركا، فيما يحاجج معظم الاقتصاديين بأنها ستأتي من جيوب الأميركيين عبر الزيادة المتوقعة في أسعار السلع في أميركا إذ ستضيف شركات الاستيراد الأميركية مقدار التعريفات الجمركية لسعر البضائع التي تبيعها.
لحد الآن لا تبدو حجة الإدارة هذه مقنعة، ففي واقع الأمر المدعوم بتقديرات اقتصاديين كثيرين وتجارب سابقة، التعريفات الجمركية هي عبارة عن ضرائب غير مباشرة على جمهور المستهلكين (الذي سيدفعها على شكل زيادة في أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة). وذلك التفافا على فرض ضرائب مباشرة على الجميع الذي يُعتبر فعلا سياسيا يضر انتخابيا بالقائمين عليه.
وتساعد هذه الأموال الإضافية المتحصلة من التعريفات الجديدة (على فرض صحة رقم التريليونات الستة الذي يشكك فيها كثيرون) على تحقيق أشياء كثيرة بينها تقليص الدين العام المتصاعد كثيرا (أكثر من 36 تريليون دولار) واستمرار الإدارة الحالية في تمويل الاستقطاعات الضريبية التي مررتها إدارة ترمب الأولى في 2017، وينتهي مفعولها نهاية هذا العام، في الوقت الذي يعمل فيه الجمهوريون على تمرير قانون لتجديدها لسنوات مقبلة.