بدأ استخدام مصطلح "محور المقاومة" في عام 2001، ردا على وصف الرئيس الأميركي جورج بوش بعض الدول مثل إيران والعراق، بأنها دول "محور الشر"، لكن جذور الفكرة تعود إلى الأيام الأولى للثورة الإسلامية في إيران، بعدما أعلن النظام الإيراني الجديد مجموعة من القرارات "الثورية"، التي تخدم طموحه الاستراتيجي، وعلى رأسها تبني القضية الفلسطينية، وإزالة إسرائيل من الوجود في دقائق معدودة، وإنهاء النفوذ الأميركي في المنطقة، وتمكن عبر هذه الشعارات من جذب دول وأحزاب وتنظيمات وكيانات إلى دائرة سيطرته.
وكان اقتحام السفارة الأميركية في طهران ونشوب أزمة الرهائن، ثم تأسيس جيش العشرين مليونا، الذي زعم قائد الثورة الإمام الخميني حينذاك، أنه سيضم خليطا من المسلمين والعرب تحت قيادة إيرانية من أجل تحرير القدس، أولى الخطوات التأسيسية لهذا المحور في طهران.
بعدها، جاءت ولادة "حزب الله" اللبناني "الابن المدلل" لهذا المحور، خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان، بدعم ومباركة من طهران، وبعد سقوط نظام صدام حسين بفعل الغزو الأميركي، تمكن النظام الإيراني من تأسيس ميليشيات شيعية موالية له في العراق، وبذريعة حماية المقامات الشيعية، استطاع أن يرسّخ حضوره العسكري في سوريا، بعد اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد، ثم جاء الدور على اليمن، حيث دعم جماعة الحوثي عسكريا، لتسيطر على صنعاء وتحولها إلى قاعدة عسكرية تابعة له.
باتحاد هذه الميليشيات تحت راية طهران، بنى "محور المقاومة" قوته تدريجيا، وشهد العقد الماضي بلوغه أوج نفوذه، وتمكن من السيطرة على خريطة جغرافية تمتد "من شمال أفريقيا إلى شرق آسيا"، كما زعم المرشد علي خامنئي.
وباغتيال قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري الجنرال قاسم سليماني في بغداد، في عام 2020، بدأت رحلة انهيار المحور، وأشرع اغتياله الباب على سلسلة من الاغتيالات استهدفت كبار قادة "الحرس" في سوريا والعراق ولبنان، مما أدى إلى تراجع دور إيران في سوريا، لصالح الدور الروسي، إضافة إلى خسارتها الكثير من الامتيازات الاقتصادية التي كانت تأمل في الحصول عليها من إعادة الإعمار.
موقف خامنئي أثار تساؤلات كثيرة داخل بيئة "حزب الله" في لبنان، حول ما إذا كان النظام الإيراني قد تخلى عن "حزب الله" أو حتى نصب له فخا، وبدا أنه يتجنب أي تصعيد عسكري مباشر مع إسرائيل
أما الضربة الأكثر إيلاما لـ"محور المقاومة"، فكانت الهجوم المفاجئ لـ"حماس" على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، الذي ترتبت عليه إبادة شاملة وكاملة لقطاع غزة وسكانه وربما للوجود الفلسطيني! ورغم أن إيران هي الداعم الرئيس لـ"حماس"، فقد تبرأت من الهجوم وأكدت أنها لم تكن على علم مسبق به.
ومن نافل القول إن هذا الموقف الصادم، أظهر أن المحور يعيش على وهم الشعارات والخطابات الفارغة، خصوصا مع ضعف استجابة القوى الحليفة لدعوة "وحدة الساحات"، التي أطلقتها "حماس" بعد ساعات من الهجوم، والتي لم تتعد كونها "مشاغلة" مدروسة ومحدودة من قبل "حزب الله"، لم تؤذ إسرائيل، بقدر ما قضت على "حزب الله" عسكريا وبشريا، بينما ركز الحوثيون على تهديد الملاحة في البحر الأحمر.
وفي أواخر سبتمبر/أيلول 2024، تلقى "محور المقاومة" ضربة أخرى موجعة باغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله في مقره السري بضاحية بيروت الجنوبية، لكن المفاجأة الكبرى لم تكن في العملية نفسها، بل في رد فعل طهران الباهت، حيث اكتفى خامنئي بإصدار بيان لم يذكر فيه نصرالله بالاسم، مشددا على أن "حزب الله أقوى من أن تهزه إسرائيل". وفي بيان آخر عاد وأعلن الحداد خمسة أيام، لكنه لم يتوعد بالانتقام كما فعل بعد اغتيال سليماني في بغداد وإسماعيل هنية في طهران.
لا شك في أن موقف خامنئي أثار تساؤلات كثيرة داخل بيئة "حزب الله" في لبنان، حول ما إذا كان النظام الإيراني قد تخلى عن "حزب الله" أو حتى نصب له فخا، وبدا أنه يتجنب أي تصعيد عسكري مباشر مع إسرائيل، مقدما مصالحه الاستراتيجية على حماية "الابن المدلل".
ثم أتى الانهيار المفاجئ وغير المتوقع لنظام الأسد في دمشق، في خلال عشرة أيام، وذاب النظام كما لو أنه لوح من الثلج، وذابت معه أحلام المحور كلها، وأعقبه قرار ضرب الحوثيين في اليمن الذي اتخذته الإدارة الأميركية.
ومع استمرار الحرب الإسرائيلية في غزة، والغارات الجوية في سوريا، وحرب الاغتيالات في لبنان، وتصاعد احتمالات ضربة أميركية للمنشآت النووية الإيرانية، تزامنا مع عودة العقوبات الدولية، يبدو أن "محور المقاومة" بالشكل الذي نعرفه، صار في آخر أيامه.
وما يؤكد هذا الاحتمال، انصياع النظام الإيراني للضغوط الأميركية، والإسراع في الطيران نحو عُمان من أجل التفاوض على ما تبقى له من حياة.
مسلسل النهاية الدراماتيكية لـ"محور المقاومة" في حلقاته الأخيرة، كذلك مسلسل الشعارات التحريرية، التي لم تكن سوى أدوات للنظام الإيراني للبحث عن دور غير مستحق في المنطقة، على حساب الشراكة التي كانت متاحة، وانعكاسا لعقلية إمبراطورية متضخمة لم ينتج عنها سوى الخراب، وتعطيل الحلول السياسية، وتعزيز الانقسامات والنزاعات المذهبية، بما يخدم مصالح إسرائيل أكثر مما يهددها.