شهدت أوروبا بعد نهاية الحرب الثانية نقاشات حادة حول المحرقة النازية، انتهت في معظمها إلى ترسيخ "الهولوكوست" في الوعي الجمعي الألماني خاصة والأوروبي عامة، بوصفه مثال "الشر المطلق" الذي لا يتكرر.
اليوم، يحضر مثل هذا النقاش على مستوى العالم، وقد اصطبغ بلون دم جديد: دم غزة، ويتّسم بالكثير من الحدة على وقع العنف الممنهج والتطهير العرقي العلني والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويطرح الأسئلة التي طالما تجنبتها الذاكرة الغربية: هل يظل الشر "فريدا" لا يتكرر فقط حين يكون ضحاياه أوروبيين؟ هل خصوصية المأساة مشروطة بالانتماء العرقي والثقافي والديني للضحية؟
ففي ظل ما يجري في غزة من فظائع، أثبتت الذاكرة الأخلاقية الغربية أنها انتقائية بشكل صارخ، وبدت وكأنها تقيس المأساة الإنسانية بمسطرة الجغرافيا، فترفع من شأن بعض الضحايا إلى مرتبة الكونية، وتنحدر بآخرين إلى القعر، وهكذا تتحول هذه الذاكرة إلى أداة قمع جديدة، تقوم على تصنيف المأساة وفقا لمعايير القوة والهيمنة.
في أواخر ثمانينات القرن الماضي شهدت الحياة الثقافية في مدينة فرانكفورت الألمانية، واحدة من أكثر المعارك الفكرية احتداما، تناولت حدود خصوصية "الهولوكوست" وفرادتها كحدث مأساوي إنساني لا يتكرر مرتين في تاريخ البشرية.
في قلب النقاشات التي دارت، وقف الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس مدافعا عن "فرادة" المحرقة، ضد محاولات مواطنه الفيلسوف والمؤرخ إرنست نولت وميله إلى إدراج "الهولوكوست" ضمن سلسلة من الفظائع الكبرى، التي مرت في تاريخ البشرية مثل الإبادة الأرمنية والمجازر الستالينية المتنقلة.
بالنسبة إلى هابرماس، لم تكن "الهولوكوست" مجرد فظاعة تاريخية بين فظاعات أخرى، بل كانت نقطة تراجع في مسار الحداثة: جريمة منظمة استُخدمت فيها أدوات الحداثة وآلاتها وعقلها، لارتكاب إبادة جماعية غير مسبوقة، بحق جماعة بشرية صغيرة وضعيفة.
انطلاقا من هذه النقطة، أصر هابرماس على أن "الهولوكوست" جريمة فريدة من نوعها، وأن فرادتها تمثل حجر الزاوية في الذاكرة الأخلاقية والسياسية لألمانيا الحديثة، بل لأوروبا برمتها، وأن المساس بها لا يهدد هذه الذاكرة وحدها، بل يتجاوزها إلى القيم الإنسانية والديمقراطية التي نشأت في ألمانيا وأوروبا، على أنقاض الحرب الثانية.
بكل الأحوال لم يتكبد هابرماس عناء تفسير التناقض بين موقفه الحاد من نولت، والصادم مما يحدث في غزة، ونحن لم نجد تبريرا واحدا لفيلسوف مثله بنى فكره على أساس الخطاب العقلاني والإنساني بأن يبقى صامتا أمام موت الأطفال في غزة، وأنه لم يجد في جريمة يومية ناهزت السنتين حدثا تاريخيا فريدا بعد، وأنه لجأ إلى مواقف تبريرية مخجلة لجرائم الجيش الإسرائيلي المتواصلة في غزة منذ بداية الحرب في أكتوبر 2023!
يحيلنا هذا التناقض إلى نواقيس الخطر التي قرعها مثقفون أوروبيون قبل غزة، ليحذروا أوروبا من أن بنية الحداثة التي أنتجت أوشفيتز لم تختفِ، بل هي كامنة، ومستعدة دوما لإعادة إنتاج مآس جديدة بأقنعة أكثر رعبا، وعليه يبدو الصمت إزاء "هولوكوست غزة"، ليس مجرد سقطة أخلاقية، إنما هو انكفاء القدرة على النقد والنظرة الموضوعية، التي طالما تباهى بها الفكر الأوروبي الحديث.
هل سيظل احتكار "الهولوكوست" لرواية "الشر المطلق" سلاحا لطمس المحارق الأخرى؟ أو لتبرير عنف الناجين منها أو انبطاح مرتكبيها؟ أم آن الأوان لكسر احتكار الألم، وإعادة تعريف الأخلاق بمعيار إنساني شامل
ما يجري في غزة ليس "تفاهة شر"؛ المصطلح الذي استخدمته الفيلسوفة الألمانية هانا آرنت في كتابها "آيخمان في القدس"، بل هو شر سافر، يعبر عن نفسه بلغة واضحة، ويكشف عن مشروعه بوعي كامل، وهو أيضا شر عارٍ لا يتوارى خلف أوامر من فوق، بل يتفاخر بأيديولوجيته معلنا أهدافه بلا مواربة.
ذلك أن الخطابات السياسية لقادة إسرائيل كلهم، لا تفتقر إلى الحد الأدنى من الحس الإنساني، أو الالتزام بقوانين حقوق الإنسان فحسب، بل هي إعلان صريح ويومي ومتكرر عن نية إبادة ومشروع تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي بأدوات الحداثة، معطوفة على مبررات الماضي، لتبدو عبارات مثل التهجير القسري، والوطن البديل، وبناء المستوطنات، وأرض إسرائيل التاريخية، ليست مجرد شعارات، بل تكرار عنيد وإصرار مرعب على ممارسة سياسات عنصرية لطالما ادعى الغرب أنه تخلص منها أو على الأقل تخطاها.
لذلك نحن لسنا أمام مأساة إنسانية فريدة من نوعها فقط، بل أمام فضيحة أخلاقية، هي ازدواجية المعايير، التي لم تعد مجرد سقطة عابرة، بل أصبحت جزءا من بنية معرفية تعمل على إعادة إنتاج المركزية الغربية، وإسكات معاناة الآخر، وتجريده من آلامه، كشرط لحقها في الوجود.
وعليه، هل سيظل احتكار "الهولوكوست" لرواية "الشر المطلق" سلاحا لطمس المحارق الأخرى؟ أو لتبرير عنف الناجين منها أو انبطاح مرتكبيها؟ أم آن الأوان لكسر احتكار الألم، وإعادة تعريف الأخلاق بمعيار إنساني شامل لا يختار ضحاياه بحسب موقعهم الجغرافي أو هويتهم أو لونهم أو دينهم؟