انتهت الجولتان الأولى والثانية من الانتخابات البلدية في لبنان، التي جرت في محافظتي جبل لبنان ولبنان الشمالي، وهما أكبر المحافظات اللبنانية من حيث المساحة الجغرافية، وأكثرها تنوعا حزبيا وسياسيا واختلاطا طائفيا.
أما الجولتان الثالثة والرابعة فستجريان تباعا في محافظات بيروت والبقاع وبعلبك ثم محافظتي لبنان الجنوبي والنبطية، والجولتان الأخيرتان هما بيت القصيد، بغض النظر عن المعارك الانتخابية الحامية التي تجري في كل المناطق اللبنانية، وبعيدا عن التحالفات السياسية المتوقعة أو الطارئة بين الأحزاب التقليدية والعائلات واللوائح المضادة بينهما.
على صعيد عام، حتى اللوائح المضادة التي ظهرت إلى الآن لم تكن مفاجئة، لا من حيث التحالفات التي عقدتها، ولا من حيث البرامج الإنمائية التي طرحتها. لا شيء جديدا سواء من قِبل أحزاب السلطة التي تحتكر التمثيل البلدي كما تحتكر التمثيل النيابي، ولا من قِبل اللوائح المضادة، فالوعود التي تطلقها كل الأطراف هي ذاتها، وكذلك البرامج الانتخابية التنموية والسياسية، ليست سوى تكرار للغة اعتاد الناخب اللبناني على سماعها وتصديقها، علما أنه ومن موقع المعاينة والتجربة، لم يشهد أو يشاهد تنفيذا ولا التزاما بأي وعد أو عهد قطعه أي مرشح من أي طرف.
بعيدا عن هذه التفاصيل، يبقى الحدث الأهم في هذه الدورة الانتخابية هو الجولتان الثالثة والرابعة، لأنهما تجريان في مناطق الثنائي الشيعي (حركة "أمل" و"حزب الله"): البقاع والجنوب، وبعد الحرب الإسرائيلية.
مع العلم أن الجولة الأولى ضمت منطقة الضاحية الجنوبية، لكن الضاحية ليست معيارا انتخابيا للثنائي، فهي لا تشكل ثقلا أهليا بالنسبة إليه، مثل المناطق الشيعية في البقاع والجنوب، ذلك أن منطقة الضاحية عائلياً وسياسياً وديموغرافياً ليست "ثنائية" خالصة، وبالتالي لا تقع انتخابيا تحت سلطة الثنائي المطلقة، اللهم إلا بالتحالفات، فيضطر "الحزب" لأنه الأقوى حضورا فيها من الحركة، إلى نسج تحالفات مع "التيار الوطني الحر" مثلا أو مع الحزب الأرسلاني كي يضمن فوز مرشحيه، أي إنه يخوض معركته فيها بالتحالف مع غيره، وليس بالأصالة عن نفسه.
في البقاع والجنوب، الثنائي- وبخاصة "الحزب"- هو الأصيل واللاعب الأساسي الذي ليس له منافس، ويخوض معاركه بـ"محدلة" تبدأ من أكبر ضيعة حتى أصغرها، تدور صباح الانتخابات وتحدل في طريقها البشر والحجر والأخضر واليابس.
في النبطية، أيام زمان، كان النائب علي بدر الدين، السياسي والطبيب المعروف، يشكّل في الانتخابات البلدية والنيابية لوائح مكتملة بوجه خصومه، وكانت لائحته تفوز بكامل أعضائها، وللمناسبة كان يقتني كلبة مشهورة، جعلت مناصريه يصفون فوزه الساحق المتكرر في كل مرة، بالقول: "فاز مرشحونا وحتى كلبة علي بدر الدين".
في البقاع والجنوب، الثنائي- وبخاصة "الحزب"- هو الأصيل واللاعب الأساسي الذي ليس له منافس
وللأمانة هذا هو حال الثنائي في الجنوب والبقاع، منذ أن عادت الانتخابات البلدية إلى ربوعنا بعد الحرب الأهلية. وحتى آخر انتخابات ما قبل اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري، جرت معارك "كسر عظم" بين طرفي الثنائي في الانتخابات البلدية والنيابية، سالت على جوانبها الدماء. لكن الدنيا تغيّرت بعد فبراير/شباط 2005، وصارا اثنين في واحد. تسقط "الورقة" في صندوق الاقتراع كما هي، بتكليف شرعي من "السيد" (الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله) أو بأمر من "الأستاذ" (رئيس المجلس النيابي وحركة "أمل" نبيه برّي)، حتى باتت الانتخابات البلدية والنيابية في المناطق الشيعية انتخابات شكلية لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، يُعرف الفائز فيها قبل فوزه، وعدد الأصوات التي حصل عليها قبل اقتراع الناخبين.
لكن هذه المرة، الوضع مختلف جدا وكثيرا. إنها أول انتخابات بعد الحرب الإسرائيلية، وبعد مقتل الأمين العام حسن نصرالله وقادة الصف الأول والثاني وآلاف المقاتلين في "الحزب"، وبعد النكبة التي ألمت بالمناطق الشيعية بخاصة المنطقة الجنوبية الحدودية، بسبب "حرب الإسناد".
هذه المرة المعركة ليست "كسر عظم"، بل "كسر قلوب"، أنت تصوّت لصالح اللائحة المضادة، إذن أنت تختار الوقوف ضد عوائل الشهداء الذين قدموا أبناءهم لتعيش أنت وأبناؤك بكرامة، هكذا يروج "الحزب" منذ انطلاق الاستحقاق.
على الصعيد السياسي، يعتبر "الحزب" أن هذه الدورة الانتخابية استفتاء حول السلاح، وحول شعبيته، في وجه من يقول إن شعبيته في تراجع، وأن الشيعة ملّوا من الحرب وأنهم مع تسليم السلاح والعودة إلى حضن الدولة، بعدما شهدت المناطق الشيعية خلال الفترة الماضية انتفاضات صغيرة ضد مغامرات "الحزب" وقراراته المتهورة التي قصمت ظهر الطائفة، لذلك يبدو في قمة التوتر حيال اللوائح المضادة، ويخاف من احتمال الخرق.
ورغم هذه الأجواء الحساسة، هناك مناطق شيعية سوف تشهد معارك ساخنة، مثل مدينة بعلبك، التي تشكّلت فيها لائحة كاملة باسم "بعلبك مدينتي" بوجه الثنائي، وهناك لوائح غير مكتملة في أكثر من قرية ومدينة، ما زال أعضاؤها مستمرين في ترشحهم رغم الضغوط التي يواجهونها.
هذه اللوائح شكلها المعارضون التاريخيون للثنائي، أو "البدلاء المدنيون"، كما يُطلق عليهم كونهم رفضوا عسكرة الحياة العامة، الذين يقودون منذ عقود مواجهات ثقافية ويخوضون معارك سياسية، لصون الهوية الثقافية للطائفة الشيعية، وانتمائها الوطني، وحماية التشيع العاملي الأصيل من تفشي الأصولية المذهبية الإيرانية.
اللوائح المضادة أو المستقلون يستندون في مغامرتهم الانتخابية على تصويت الفئة الممتعضة من سياسات الإقصاء التي أتقن "الحزب" ممارستها لعزل معارضيه، ومن الفساد الذي رافق مسيرة الحركة في الدولة، وهي الفئة التي تتمسك براية الانتماء الوطني والعربي، والتي رفعت الصوت ضد السلاح خارج الدولة، وضد تفرد "الحزب" بقرار الحرب والسلم، وقُمعت، واتُّهمت بالتخاذل والوقوف في صف أعداء المقاومة، وإضافة إلى خساراتها المعنوية، خسرت كل ما تملك في الحرب الأخيرة، وكان حجم خساراتها المادية كبيرا، لدرجة أن "الحزب" لا يملك أن يعوّض لها، ولو أغدقت عليه إيران أموال خزائنها كلها.
أما بالنسبة إلى حركة "أمل"، فالوضع أقل توترا، وأكثر هدوءا. فالحركة لديها القدرة على التحالف مع أي مكون، ذلك أن غايتها البقاء في السلطة، لذلك لا تبالي بالسلّم الذي يتيح لها الصعود، المهم أن تبقى فوق.
كما أن الرئيس نبيه برّي، اكتسب شعبية مجانية بعد مقتل نصرالله، حيث لم يعد لدى الشيعة قائد غيره، ولولا قدراته الدبلوماسية وحنكته السياسية، لما توقفت الحرب، ولا وُلد اتفاق وقف إطلاق النار، كما يُحدث الجمهوران ("الحزب" و"الحركة") وبصفته "المنقذ من الضلال"، سوف يمشي خلفه جمهور "الحزب" قبل "الحركة"، بعد أن يتم تقسيم الكعكة الانتخابية بين الثنائي بالتساوي، من أجل القضاء على أعداء الداخل أولا، أي المعارضين، على قاعدة "يا دار ما دخلك شر"، والتفرغ للمعركة الاستراتيجية الكبرى!