في الأسبوع الأول من أبريل/نيسان الماضي، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وفدا من حزب "المساواة الشعبية والديمقراطية"، المعروف في تركيا باسم "ديم"، وبقربه من الكرد. بعد أربعة أشهر، أي في الأسبوع الأول من يوليو/تموز الماضي، جرى لقاء ثانٍ بين الطرفين، ما أكد بدء عملية سلام بين الكرد والدولة التركية، رسميا.
بعد يومين من اللقاء الثاني، ظهر عبد الله أوجلان، الزعيم الكردي المسجون في تركيا ومؤسس "حزب العمال الكردستاني"، في فيديو مدته سبع دقائق، وهو أول ظهور علني له منذ 26 عاما، متوجها إلى شعبه وحزبه بالتحديد، برسالة تاريخية مقتضبة، قائلا: "انتهى زمن السلاح".
أعلن أوجلان في رسالته أن الهدف الرئيس للحزب، وهو الاعتراف بالهوية الكردية، قد تحقق، وأنه آن الأوان لاستبدال المقاومة المسلحة بالمشاركة السياسية. على أعقابه، أكد أردوغان في خطاب له، التزامه بعملية السلام التي تتضمن نزع سلاح الحزب الكردي، وأعلن تشكيل لجنة برلمانية لدراسة إطارها القانوني.
هدفت رسالة أردوغان إلى طمأنة الرأي العام التركي، بخاصة مؤيديه في حزب "العدالة والتنمية"، بأن هذه العملية ستعزز الوحدة الوطنية، وستعود بالنفع على جميع المواطنين في تركيا، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية، في حين هدفت رسالة أوجلان إلى طمأنة شعبه وأنصاره في الحزب، بأن قراره ليس هزيمة، بل تغيير في الاتجاه: التحول من الكفاح المسلح إلى المشاركة السياسية.
على الأرض، يبدو أن رسالة أوجلان شجعت الرأي العام الكردي في تركيا، على إعلان تأييد نزع السلاح والانخراط في عملية السلام، حتى في أوساط الكرد الذين يشككون في نوايا الحكومة التركية وحزب أردوغان، حيث أظهرت استطلاعات الرأي، بحسب متابعين، أن غالبية ناخبي حزب "الشعوب الديمقراطي"، بالإضافة إلى قومية الزازا الذين يعرّفون أنفسهم بأنهم كرد، يؤيدون عملية السلام، كما أظهرت الاستطلاعات أيضا أن نزع سلاح الحزب يحظى بتأييد أعلى من المتوسط على المستوى الوطني التركي عامة.
وفي شهر يوليو أيضا، واستجابة لدعوة أوجلان، أحرقت أول مجموعة من مقاتلي "حزب العمال الكردستاني"، في خطوة رمزية، سلاحها في مدينة السليمانية شمال العراق.
عملية السلام التركية-الكردية، ستكون فرصة لإعادة تعريف تركيا لنفسها ولهويتها الجيوسياسية
على العموم، لا يُنهي إعلان حزب "العمال الكردستاني" تخليه عن السلاح، أكثر من أربعة عقود من الكفاح المسلح الذي أودى بحياة عشرات الآلاف وشرّد الملايين فحسب، بل يفتح أيضا فصلا جديدا في السياسة التركية والكفاح المسلح الكردي، ويحمل في طياته إمكانية تحول جذري في العلاقة بين القوميتين، والعمل على إنصاف القومية الكردية المضطهدة، فضلا عن تجديد الخطاب السياسي التركي المركزي، ومحاولة استيعاب الانقسامات الاجتماعية، وإعادة قراءة السياسات التي أشعلت الصراع.
ومن المتوقع أن يكون لعملية السلام آثار إيجابية في المؤسسات والأحزاب والرأي العام في تركيا، التي تأثرت بالعداء بطبيعة الحال، قد ينتج عنها ظهور أحزاب جديدة كردية بالأخص، وصولا إلى قيام الدولة التركية ببعض الإصلاحات الدستورية الضرورية، وترتيب علاقات الحكومة مع المعارضة بخاصة الكردية من جهة، ومن جهة أخرى قد تغير موازين القوى في السياسة التركية، ويُعدّ حزب "المساواة الشعبية والديمقراطية" القريب من الكرد، محور هذا التحول، ومن المتوقع أن يكتسب شرعية أكبر ومساحة سياسية أوسع للعمل.
أما خارج تركيا، وداخل كردستان الكبرى، فتمثل الخطوة الرمزية التي أقدم عليها مقاتلو "العمال الكردستاني" في السليمانية، جزءا من خارطة طريق شاملة تتطلع إلى تحقيق سلام دائم بين تركيا والمقاومة الكردية المسلحة.
بدأت عملية السلام، بمبادرة سياسية من الائتلاف السياسي التركي المعروف باسم "تحالف الشعب"، الذي يضم ستة أحزاب أساسية على الأقل، حيث أصدر الائتلاف دعوة تاريخية للسلام، ممهدا الطريق لتوافق وطني من أجل إنهاء الصراع المسلح مع الكرد، ثم توجتها رسالة أوجلان.
وتتضمن المرحلة الأولى من العملية، حل حزب "العمال الكردستاني" وتفكيك بنيته العسكرية وتسليم سلاحه، وهي العملية التي بدأت رمزيا من السليمانية. المراحل التالية ستركز على إعادة الإدماج القانوني للمقاتلين الكرد، بما في ذلك وضع آليات لعودتهم مع ضمان العدالة لهم، تليها مرحلة إعادة الإدماج الاجتماعي والنفسي، التي تهدف إلى دعم المصالحة الوطنية وعودة المقاتلين إلى المجتمع مدنيا، قبل البدء بهذه الإجراءات، سوف يُشكل البرلمان التركي لجنة متابعة باسم "لجنة السلام الاجتماعي والانتقال الديمقراطي"، مهمتها صياغة الأطر القانونية لمعالجة هذه المراحل تباعا.
من أكثر المراحل حساسية في العملية، إطلاق سراح السجناء السياسيين، وهناك شخصيات بارزة من حزب "الشعوب الديمقراطي" اليساري الكردي مثل صلاح الدين ديمرتاش، الذي سيكون إطلاق سراحه خطوة سياسية بالغة الأهمية.
عملية السلام التركية-الكردية، ستكون فرصة لإعادة تعريف تركيا لنفسها ولهويتها الجيوسياسية. ومن جهة الكرد ستكون محاولة لإعادة النظر في مفهوم المواطنة وضرورة التكيف والمرونة وتعريف القوة بأشكال جديدة، وقد تكون هذه المرحلة إحدى أهم الفترات في تاريخ تركيا والكرد السياسي الحديث.