نزع سلاح "حزب الله" يحمي الشيعة

نزع سلاح "حزب الله" يحمي الشيعة

استمع إلى المقال دقيقة

لم يعد مقنعا القول إن سلاح "حزب الله" يحمي الطائفة الشيعية في لبنان، كما يدعي قياديوه ويوهمون قواعدهم الشعبية، فالغارات الإسرائيلية وعمليات تصفية كوادر "الحزب"، وكذلك تأجيل عودة أهالي القرى الحدودية إلى أجل غير معلوم، وتأخر ملف إعادة الإعمار، رغم مرور أشهر على سريان وقف إطلاق النار، أكبر دليل على أن هذا الكلام فَقَدَ مصداقيته.

ولعل الشيعة بعد انكشافهم أمنيا، باتوا مدركين؛ وإن كابروا، أن السلاح فقد أسباب وجوده الموجبة، وتسليمه للدولة من شأنه أن يوقف نزيفهم اليومي، ويعيد إلى مناطقهم المنكوبة أمنها واستقرارها، ويعيد إليهم ثقلهم الاجتماعي وحضورهم.

وربما، لو راجعوا شعاراتهم قليلا، لوجدوا أن نزع السلاح لا يعني نزع الكرامة، بل استعادتها، ولا يعني أيضا تهديدا وجوديا لهم، بل تحريرهم من الأسر، لأن أكثر ما يحتاجونه هو سيادتهم على أنفسهم، ذلك أن احتفاظهم بالسلاح هو في الحقيقة بقاؤهم في قبضة مشروع إقليمي، يتغذى على دمهم، ويبني مجده على جماجمهم، هذه هي الاستراتيجية الدفاعية الوحيدة التي يجب أن يتمسكوا بها.

نزع السلاح لا يعني نزع الكرامة، بل استعادتها، ولا يعني أيضا تهديدا وجوديا لهم، بل تحريرهم من الأسر

لقد خُطِفت الطائفة الشيعية تحت عنوان المقاومة، ثم تحولت المقاومة إلى وظيفة إقليمية، تملك سلاحا يُنقل من ساحة إلى أخرى بحسب مصالح طهران، فيما الحدود مع إسرائيل لا تشتعل إلا بحساب، والمفارقة أن الطائفة التي صنعت مجد التشيّع في إيران عبر تصدير العلماء من جبل عامل، ولها أسبقية تاريخية ومذهبية وعلمية وأصالة في تاريخ التشيع، تحولت منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران إلى أسيرة لنموذج مذهبي دخيل، صادر قرارها، وعطّل حركتها الإنسانية في التاريخ والجغرافيا.

الطائفة الشيعية في لبنان، أوسع من القفص الأيديولوجي، الذي حبستها فيه إيران، وحوزات جبل عامل العلمية أقدم من حوزات قم، وحوزة النجف التي خرّجت أعظم علماء الشيعة أعرق الحوزات الدينية في العالم، لذلك ليس عدلا اختزال الشيعة حضورهم، بفكر واحد، ومشروع واحد، وحاكم واحد.

منذ اتفاقية القاهرة في عام 1969 (فتح جبهة الجنوب) حتى "حرب الإسناد"، دفع الشيعة أثمانا تفوق طاقتهم على التسديد، وخاضوا حروبا ليست دفاعا عن وجودهم، لكنها ثمن لموقعهم الحدودي أحيانا، وأحيانا أخرى بسبب تموضعهم السياسي كأداة في مشاريع أكبر منهم، وأوسع من تصورهم لمفهوم السلطة والحكم. وعلى مدى هذه العقود، لم تدافع عنهم جهة، بل تُركوا في العراء السياسي والأمني وحيدين، دمهم للاستثمار حينا، وعواطفهم للإتجار حينا آخر.

وفي هذا الفراغ، نشأ وهم  أن الخلاص لا يمكن أن يكون إلا عبر قوة أكبر من الدولة، فتسللت الأيديولوجيا الدينية إلى عقولهم، عبر خطاب الغيبيات والمظلومية المتوارثة، لترسخ لديهم شعورا بأنهم طائفة مهددة وجوديا، وأن السلاح هو الحامي الوحيد لهم، فرفع هذا الخطاب حاجزا فاصلا بينهم وبين الدولة، وتحوّل عقلهم الجمعي إلى أداة لقمع منطق الدولة، وتمكن إجماعهم حول مسألة السلاح، والقداسة الممنوحة للمقاومة، من جعل كل صوت عقلاني مرتدا، ومن كل رأي مخالف خائنا، بالآلية نفسها التي تعمل بها الأنظمة العقائدية التي تجعل من الطاعة العمياء دينا، ومن السؤال كفرا.

كيف نحمي الشيعة اليوم؟ كيف نساعدهم على التحرر من الابتزاز العاطفي الذي يمارسه "حزب الله"؟

عودة إلى المسألة الأساسية، كيف نحمي الشيعة اليوم؟ كيف نساعدهم على التحرر من الابتزاز العاطفي الذي يمارسه "حزب الله"؟ كيف نقنعهم بجنة الدولة؟ في كل تجربة لبنانية كبرى– منذ تأسيس لبنان الكبير– كلما عزفت طائفة عن الشراكة، أي اعتزلت، دفعت الثمن: تهميشا سياسيا، وإقصاء اقتصاديا، وإلغاء لتمثيلها الحقيقي. وقد دفعت الطائفة الشيعية هذه الأثمان مرتين، مرة بعد مؤتمر وادي الحجير، حين آثرت الذهاب مع "سوريا الكبرى"، ومرة أخرى بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب والبقاع الغربي في عام 2000، حين آثرت الارتماء في الحضن الإيراني، وفي الفترة القصيرة التي انخرطت فيها في مشروع الدولة، في مرحلة ما بعد "الطائف"، ظهر دورها، وتعزز حضورها، وبرزت كفاءاتها، لذلك فإن الخطر الحقيقي على الشيعة اليوم هو تكرار خطأ التقوقع داخل نفق السلاح.

والوضع السياسي في لبنان حاليا، يشبه نوعا ما مرحلة التأسيس الأولى، وينبغي على الشيعة أن يكونوا جزءا منها، وإذا ارتكبوا الخطأ نفسه ورفضوا الانتماء، سوف تتكرر مأساتهم، وبعد عقود ستستيقظ عقدهم، وسيعودون إلى نغمة المظلومية التي تغلبوا عليها بفضل وعي نخبهم: "محرومين، عتالين على البور، حفاة المدن"، فتشتعل حرب أهلية تقودها عصبية طائفية، تتحول إلى ميليشيات، تغذيها دول طامحة بالسلاح.

لهذا، فإن نزع السلاح ليس قرارا عدائيا، بل ضرورة وجودية، من شأنه أن يحمي الطائفة من الاستنزاف، ويحمي لبنان من الانفجار الداخلي، ويعيد فتح المسار السياسي الذي يسمح بإنتاج قيادات شيعية وطنية ناضجة قادرة على المشاركة وعلى البناء، فالطائفة التي أنجبت نخبا من المتعلمين والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، أكبر من أن تُختزل في بندقية.

font change