رغم كل ما ظهر مؤخرا، من جبروت وطغيان وتوحش إسرائيل، المستمد من الولايات المتحدة، فإن ذلك لا يحجب أن تلك الدولة تواجه لحظة انعطافية، عصيبة وحاسمة ونوعية، في تاريخها، يمكن أن يتحدد بناء عليها مستقبلها، ورؤيتها لذاتها، ولشكل علاقتها بمجتمعها، ومحيطها، للعقود المقبلة.
وبشكل أكثر تحديدا فإن تلك اللحظة تظهر في حالتين، الأولى سعي حكومة بنيامين نتنياهو إلى إنجاز "الانقلاب النظامي"، بتهميش السلطة القضائية ("المحكمة العليا"، والرقابة القانونية على الحكومة)، ووضعها تحت هيمنة السلطة التنفيذية، بما يقوض الفصل بين السلطات، كمبدأ أساسي في النظم الديمقراطية، بخاصة أن السلطة التنفيذية في إسرائيل تنبثق من السلطة التشريعية (المتشكلة من تكتل أغلبية في الكنيست)، أي إن تلك الخطوة، في حال نجاحها، ستفضي إلى تركيز السلطات الثلاث بيد رئيس الحكومة، ما يفسر أن إسرائيليين باتوا يرون نتنياهو كدكتاتور.
الثانية، تتمثل في تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية دينية على طابعها كدولة علمانية وليبرالية، في نظام ديمقراطي (لمواطنيها اليهود)، علما أن هذا هو التحول الثالث في إسرائيل، إذا احتسبنا التحول الثاني، الذي أدى إلى إزاحة حزب "العمل" (وريث حزب "الماباي"-1968)، و"الاشتراكي الديمقراطي"، المؤسس لإسرائيل، وصعود حزب "الليكود"، كحزب يمين قومي، إلى سدة السلطة (1977). وهذا ما دفع المحلل الإسرائيلي تسفي كاسا لاعتبار أن "كل الصعوبات التي تواجهها إسرائيل منذ اليوم التالي لحرب "الأيام الستة"، بما في ذلك فضيحة محاولة الانقلاب النظامي، هي نتيجة صعود الصهيونية المسيحانية، التي هي نقيض الصهيونية الأصلية... الاستعمار الملعون أمام الفلسطينيين والعالم المتنور هو الخطر الوجودي الذي ينشأ في الداخل" ("هآرتس"- 19/11/2024)
أيضا، يفترض ملاحظة أن التحول في الاتجاهين المذكورين يجري بالتوازي، وبالتكامل، مع مسارين آخرين، مترابطين، يمسان بطبيعة علاقة إسرائيل مع الفلسطينيين ودول الجوار. الأول، يتمثل في انتهاج إسرائيل، في ظل الحكومة الحالية، خيارا يفضي إلى شطب الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، من المعادلات السياسية، على طريقة لا "فتحستان" ولا "حماسستان"، لا في الضفة ولا في غزة، مع الأخذ في الاعتبار أن حكومة نتنياهو قامت بسن قانون-أساس، يعتبر إسرائيل دولة قومية لليهود، ما وضع مواطنيها من فلسطينيي 48 في منزلة دونية (2018)، رغم أنه ما زال من المبكر التكهن بأبعاد أو حيثيات أو مصير هكذا خيار.
أما المسار الثاني، فيتمثل بسعي إسرائيل فرض ذاتها كقوة إقليمية عظمى في المشرق العربي، وعموم الشرق الأوسط، على أن تتشكل تلك المنطقة وفقا للخاصية الإسرائيلية، أي بتعميم خاصية إسرائيل، كدولة يهودية، على دول المنطقة، بحيث تصبح دولا ما قبل وطنية تحتوي على جماعات طائفية وإثنية؛ ما أسميه "التطبيع معكوسا"، أي بدل أن تطبع المنطقة مع إسرائيل، تعمل هذه على تطبيع المنطقة معها، بحيث تصبح على شاكلتها.
في هذا الصدد يقول المؤرخ الإسرائيلي إيلي بارنافي: "ليس من المصادفة أن حلفاء نتنياهو هم مستوطنون من الضفة: حزب المستوطنين، حزب ضم المناطق المحتلة عام 1967، الأغلبية في الحكومة... لا يمكن لنظامين قانونيين مختلفين أن يتعايشا لفترة طويلة... حيث سينتهي الأمر بأحدهما إلى إفساد الآخر... من هنا هذه الضرورة المزدوجة المرتبطة جوهريا، وهي ضرورة الدستور وضرورة إنهاء الاحتلال". (هآرتس- 30/3/2023).