سودربرغ يرتدي معطف هيتشكوك في شريط جاسوسي محكم

فاسبندر يقود أداءات الممثلين إلى مستوى جديد

imdb
imdb
مشهد من الفيلم

سودربرغ يرتدي معطف هيتشكوك في شريط جاسوسي محكم

أنفقت "نتفليكس" في السنوات الأخيرة أموالا طائلة في محاولات إنتاج أفلام جاسوسية ناجحة على الصعيدين النقدي والجماهيري، ولم تستطع إنجاح تجاربها على الرغم من ترصيعها بكبار النجوم. المحاولة الأولى كانت مع فيلم "نشرة حمراء" Red Notice من بطولة دواين جونسون وراين رينولدز، وإخراج راوسون ثوربر، والمحاولة الثانية مع "الرجل الرمادي" The Grey Man من بطولة راين غوزلينغ وكريس إيفانز، وإخراج الأخوين روسو، في توجه واضح للارتقاء على سلم نجاحات الأخوين في تجربتهما مع أفلام "مارفل". كلف العملان ما يقارب 200 مليون دولار وشهدا حملة إعلامية ضخمة لتدشين مسعى الشبكة لتحقيق نجاح تجاري وجذب مشتركين جدد، لكن المفاجأة لم تكمن في فشل هذه المحاولات نقديا فحسب، بل بإعلان المنصة أنها خسرت مشتركين للمرة الأولى خلال عشر سنوات بعد أشهر من إصدار الفيلم الثاني.

روح كلاسيكية

اليوم، يأتي المخرج ستيفن سودربرغ بربع هذه الميزانية ويقدم في "الحقيبة السوداء" Black Bag عملا جاسوسيا مفعما بالروح الكلاسيكية النابعة من عوالم ألفرد هيتشكوك، تدور قصته حول موظفين في الاستخبارات البريطانية، وتسرب سلاح كفيل بتدمير أي مفاعل نووي مع آلاف الأرواح البريئة والاشتباه بخمسة أشخاص في هذا التسريب. تقع مهمة اكتشاف هذا التسريب على العميل الخبير جورج وودهاوس (مايكل فاسبندر) الذي تجبره هذه المهمة على الارتياب حتى في زوجته كاثرين (كيت بلانشيت). بالإضافة إلى هذين النجمين، يشارك في الفيلم ريجي جان بيج وتوم بورك وماريسا أبيلا وبيرس بروسنون.

يقدم سودربرغ في "الحقيبة السوداء" عملا جاسوسيا مفعما بالروح الكلاسيكية النابعة من عوالم ألفرد هيتشكوك

يبدأ الفيلم بلقطة تتبعية لبطله، في تدشين للثيمة الجاسوسية التي تكتنف أجواء الفيلم بالكامل. نتتبع جورج وودهاوس في هذه البداية حين يقابل مصدره (غوستاف سكارسغارد) الذي لا يتحدث عن المعلومة المسربة فحسب، بل عن خيانته لزوجته وكيف أن طبيعة عمله تجعل هذه الممارسات أسهل بكثير. لا يستغرق سودربرغ طويلا في تقديم أفكاره الرئيسة لنا، فمع أول مشهد نقف أمام شخصيات تعيش حيوات مزدوجة، جواسيس يدركون أنهم يمتلكون في جعبتهم الأدوات اللازمة للتلصص وكشف أسرار الآخرين، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون منع أنفسهم من تحدي هذه الحقيقة التي تخيم على حيواتهم.

imdb
مشهد من الفيلم

وهذا هو المحرك الرئيس للقصة، حيث يصبح وودهاوس أمام سؤال كئيب قد لا يريد اكتشاف جوابه، هل زوجته خائنة؟ والخيانة هنا تحمل معنى مزدوجا، فهي قد تكون خائنة للحكومة البريطانية وتعمل لصالح حكومة مضادة، وقد تكون خائنة لعش الزوجية المقدس، وهو ما يبدو الأولوية بالنسبة إلى بطل الفيلم. عامل الجذب الأول والمثير للاهتمام في شخصية وودهاوس، هو أنه يبدو رجلا آليا في عمله، فهو منهجي للغاية في كل أمور حياته، تقطيعه للخضروات وهو يحضر طعام العشاء يعطيك انطباعا أنه طباخ محترف وليس عميلا للمخابرات. يغير قميصه بسبب بقعة صغيرة في كم قميصه لأنه مهووس بالكمال، رجل فضح أمر خيانة والده الزوجية بسبب كرهه الكذب.

أكثر ما يبهر في أداء فاسبندر أنه حتى في وقت إظهار عاطفته لا يبدو سويا، بل هناك اضطراب واضح في تعبيره عنها

تحت هذا الكم الهائل من الاحترافية التي تجعله يبدو مختلا عقليا، باردا ومفرغا من المشاعر، يظهر جانبه الإنساني والعاطفي غير المتزن، فهو مستعد للتضحية بحريته ومهنته وأمن دولته بسبب حبه لزوجته، ويأتي هذا كأمر مفاجئ لأن كل ما شاهدناه من جورج حتى تلك النقطة يوحي بأنه رجل عملي في المقام الأول ولا يقبل المساومة في هذا الأمر. لكن تقصي أمر زوجته والإبحار في المؤامرة المتداخلة، يساهمان في نزع القناع البارد تدريجيا عنه، فتظهر نزعته الإنسانية لأول مرة على هيئة فزع وقلق واضحين للغاية على ملامح وجهه.

شخصيات باردة

الشخصيات الباردة والنص المكتوب بطريقة جافة بسبب اعتناق الثيمة الجاسوسية بالكامل، تضع على عاتق الممثلين مسؤولية إظهار الجانب العاطفي في الفيلم، الذين يركز سودربرغ على وجوههم ورصد ردود أفعالهم، وفي أحيان أخرى يركز على أعينهم تحديدا. فاسبندر يقوم بالحمل الأكبر من هذه الناحية، فليس لديه الكثير من الحوارات العاطفية ويتحتم عليه إظهار هذه العواطف من خلال حوارات باردة عملية إلا في ما ندر. أكثر ما يبهر في أداء فاسبندر أنه حتى في وقت إظهار عاطفته لا يبدو سويا، بل هناك اضطراب واضح في تعبيره عنها. يبدو وحشا اكتشف مشاعره للمرة الأولى ولا يريد التفريط بها، نستشعر غضبه الكامن لأن هناك من يقوم بخداعه ويهدد حرية زوجته.

imdb
مشهد من الفيلم

ليس مستغربا إصرار سودربرغ على إغراق الفيلم بهذه اللغة الجاسوسية وجعل التصوير مسخرا بالكامل لصبغة الفيلم الكلاسيكية، ولا يتنازل الفيلم إطلاقا عن هذه الصبغة المكتسبة بغرض أنسنة شخصياته أو إلقاء نكات من شأنها تخفيف نبرة الفيلم وكسب الجمهور. هذه الصبغة وحدت الحوار بين الشخصيات حتى بينما يسخر بعضها من بعض، إذ تُشعرك بأن الفيلم خارج من حقبة كلاسيكية على الرغم من أن أحداث القصة تجري في الزمن الراهن. البرود المتبادل والمخيم على كل حوار، يعطي الانطباع بأن جميع الشخصيات لديها ما تخفيه وتحاول إبقاء الأسوار حولها عالية حتى لا تُكتشف أسرارها.

استطاع سودربرغ إخراج ممثلين من قوالبهم المعتادة إلى قوالب أكثر جاذبية تتحدى نمط توظيفهم المعتاد

مدة الفيلم ليست بطويلة، استطاع فريق الإنتاج احتواء مؤامراته في قالب مكثف وسهل الاستهلاك. هذا جزء من جاذبية "الحقيبة السوداء" لأنه يطرح أسئلة الحبكة بطريقة مثيرة للاهتمام، ثم يصحب المشاهد في رحلة للإجابة عنها، وكأنه يطلب منه بطريقة غير مباشرة أن يسترخي ويستمتع لأنه يمتلك الإجابات وسوف يقدمها في النهاية. هذه خاصية بالغة الأهمية، بالنسبة إلى فيلم بهذه القصة وفي عصر يتشتت فيه انتباه الناس بسهولة ويعانون خلال متابعة مقطع فيديو قصير دون محفز بصري إضافي.

imdb
مشهد من الفيلم

حبكة متماسكة

لكن الجانب السلبي في الموضوع، هو أن قصر مدة العرض يمكن أن يؤثر سلبا على تقبل المشاهد علاقات الشخصيات والآثار المترتبة عليها. فهو عمل يتحرك بالكامل بسبب الدوافع الشخصية النابعة عن عمق ما تشعر به من عواطف تقودها إلى ارتكاب سلوكيات غير عملية أو منطقية. لذلك حينما نشاهد وودهاوس يتحدى الاستخبارات البريطانية بالكامل، رغبة منه في حماية زوجته مدفوعا بحبه العميق لها، فنحن نعلم ذلك لأنه يصرح بهذا الأمر، لكن الفيلم لا يقدم لنا ما يكفي من أساس عاطفي يجمع هاتين الشخصيتين ليجعلنا نصدق أنه قادر على اتخاذ مثل هذه الخطوات الجريئة.

إلا أن ذلك لا يؤثر على المنتج النهائي الذي يرغب سودربرغ في تقديمه، لأننا نقف في النهاية أمام عمل محكم الصنع بحبكة متماسكة وأداءات جيدة يقفز بها مايكل فاسبندر إلى مستوى جديد كليا، والشخصيات التي تبدو كاريكاتورية جافة، تكتسب صبغة واقعية محسوسة بمجرد تفاعلها معه.

imdb
مشهد من الفيلم

قد ننسى أحيانا مقدار التنوع الذي يقدمه سودربرغ في أعماله، فهو قبل أشهر فقط استطاع تقديم فيلم رعب ناجح نقديا في "حضور" Presence مع الكاتب الذي شاركه في هذا الفيلم كذلك ديفد كوب. وهو يقدم أعمالا تلفزيونية باستمرار (على غرار The Knick)، وفي العقد الماضي قدم أعمالا لم تتميز بحكبتها المثيرة والمحكمة فحسب، بل استطاع إخراج ممثلين من قوالبهم المعتادة إلى قوالب أكثر جاذبية تتحدى نمط توظيفهم المعتاد (تحديدا في فيلمي Logan Lucky وSideEffects). إنها مسيرة حافلة ومفعمة لمخرج يبدو أن أعماله دائما مصيرها البقاء في الظل إلا لمن يبحث عنها.

font change