"طه" يعود في برشلونة... سيرة شاعر ولد مرات كثيرة ولم يمت

نص عامر حليحل وإعداد وإخراج مسرحي محمد بيطاري

الممثل الإسباني لويس ماركو

"طه" يعود في برشلونة... سيرة شاعر ولد مرات كثيرة ولم يمت

في سيرة القاص والشاعر الفلسطيني طه محمد علي (1931-2011)، كما يسردها الكاتب عامر حليحل في نص مسرحي يعود إلى سنوات خلت، تفاصيل حياة إنسان "عادي"، كان يحلم بأن يشيد بيوتا ومتاجر في قريته صفورية في قضاء الناصرة، وأمضى حياته بعد ذلك، في حنين مسترسل إلى تلك القرية التي هجّر منها مع أهله في 1948 ولم يكمل عامه السابع عشر، عندما استولى عليها الاحتلال الإسرائيلي، ليفر مع عائلته حينذاك إلى جنوب لبنان، وليعود متسللا إليها، بعدما قرر والده أن لا عيش لهم في لبنان.

العمل المسرحي الذي أعده وأخرجه المخرج المسرحي الفلسطيني المقيم في برشلونة محمد بيطاري (مع سوسانا برانكو مساعدة مخرج، ونيوس بالبيه تأليف موسيقي)، ضمن سلسلة عروض مسرحية فلسطينية حملت عنوان "برشلونة تنادي فلسطين"، على خشبة المسرح الوطني الكاتالاني، يظل أمينا لنص حليحل، وما التقشف الذي نراه على الخشبة، مع ممثل وحيد وبضع حقائب سفر، وبضعة كراس، سوى من قبيل إبراز الحكاية، حكاية الشاعر، بوصفها قادرة على النهوض بذاتها، دونما إبهار بصري، ولا إسراف ميلودرامي، وكأن الهدف في نهاية المطاف، ليس تقديم طه محمد علي بوصفه منتميا إلى جيل "شعراء المقاومة الفلسطينية" على ما نجد وصفه أحيانا، إلى جانب محمود درويش وسميح القاسم وعز الدين المناصرة وغيرهم، بل بوصفه إنسانا فلسطينيا، تتشابه حكايته وتتقاطع مع حكاية كل فلسطيني طرد من أرضه وأمضى حياته بعدئذ يعمّر تلك الأرض في مخيلته ولغته.

صوت الشاعر

صوت الشاعر الذي يصلنا عبر الممثل الإسباني السبعيني القدير لويس ماركو مجروحا مكسورا، وفي بعض الأحيان ساخرا بمرارة، وفي أحيان أخرى حانقا غاضبا، لا يبحث عن أسطرة المأساة الفلسطينية، وإن كان لا مفر من ذلك في نهاية المطاف، بقدر ما يسعى إلى تحويل ما لا يصدّق في تلك الحكاية، أصلها وفصلها مع الاحتلال والتهجير والاستيلاء على الأراضي، إلى حكاية سائرة أقرب إلى منطق الحكايات الشعبية، كتلك التي يرويها المسنون الفلسطينيون لأحفادهم في مخيمات اللجوء. وإذ يحمل الممثل أوراقه على الخشبة ويقرأ للجمهور النص الذي كتبه حليحل، فلكأنه يكسر لعبة الإيهام المسرحي. فالممثل هو الممثل، والخشبة خشبة، والشاعر الراحل هو الشاعر الراحل، وليس للرؤية الإخراجية لمحمد بيطاري أن تمضي أبعد من ذلك. فهو يريد منا أن نستمع إلى الحكاية، واعين تماما لتلك المسافة بين ما نسمعه وما نراه، وبين الواقع الفلسطيني المتعدد الطبقات والبالغة تعقيداته غالبا حد الاستحالة التامة.

ما التقشف الذي نراه على الخشبة، مع ممثل وحيد وبضع حقائب سفر، وبضعة كراس، سوى من قبيل إبراز الحكاية، حكاية الشاعر، بوصفها قادرة على النهوض بذاتها

يتحدث الممثل بصوت محمد علي طه خلال سني مراهقته، حين بدأت مخاوف والده تتعاظم حول إمكان تمدد الاحتلال إلى صفورية في الناصرة، بعد وصولها إلى عكا وحيفا، معبّرا عن براءة اللاتصديق، فكيف يمكن أن تُسلب الأرض؟ كيف يمكن أن يصحو ولا يجد تلك الأرض تحته؟ الأمر لا يستقيم منطقا وعقلا، ووعي الشاب اليافع لا يصل إلى حد تخيّل أن الأرض ستبقى، لكن صفورية سيصبح اسمها تسيبوري وأهلها سيصبحون مشردين في الأرض قبل أن يعود بعضهم إلى الناصرة ويسكنون حيا سيصبح اسمه – للمفارقة – "حي الصفافرة". بهذه الكلمات البسيطة، وغيرها، نرى نكبة الفلسطيني الحقيقية، فهو لم يدرك – وكثير من أبنائه ما زالوا لا يدركون أو ينكرون - أن عالما جديدا تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وأنه سيدفع ثمن المقتلة النازية بحق اليهود في أوروبا، من أرضه ومن حياة أبنائه ومستقبلهم.

الشخصية والأصل

محمد علي طه، الشخصية المسرحية، يظل أمينا لمحمد علي طه الحقيقي. ذلك الرجل الذي لم يكن يجيد الكلمات الكبيرة، ولا يسعى إلى رمزية أسطورية سيزيفية، في حكاية المنفى والعودة المستحيلة، وفي المشهد الشعري الفلسطيني، يمكن القول إنه لم يكن يسعى إلى حفر مكانة خاصة بوصفه أحد رواة الحكاية الفلسطينية، ولذلك ربما ظل طويلا في خلفية ذلك المشهد، بل إن حضوره في كثير من الأحيان ظل مرتبطا بطرافة الشخصي، وبعلاقة الصداقة التي جمعته بشعراء وكتاب جيله، ومنهم درويش والقاسم، أكثر مما بشمولية مشروع ثقافي ما. وبذلك، ظل الشاعر غريبا، لم يبلغ جماهيرية "شعراء المقاومة" ولا تحوّل ناطقا في أي وقت باسم "القضية الفلسطينية". حتى الحكاية التي ترد حول الأمسية الشعرية اللندنية، في حضور "أهم الشعراء العرب" في ذلك الحين، درويش ونزار قباني وأنسي الحاج، وغيرهم، يكسوها حليحل بحس الطرافة، وبارتباك الشاعر أمام مجرد الحضور في محفل كهذا، والوقوف وإلقاء شعره البسيط أمام كل هؤلاء الشعراء "النجوم". 

ذلك الرجل لم يكن يجيد الكلمات الكبيرة، ولا يسعى إلى رمزية أسطورية سيزيفية، في حكاية المنفى والعودة المستحيلة، وفي المشهد الشعري الفلسطيني

القصيدة التي سيلقيها الشاعر في ذلك الحين ليست قصيدة "مقاومة" بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، فلا تحدٍّ فيها ولا عنفوان ولا دعوة إلى القتال، بل إن الشاعر يجد نفسه عاجزا عن قتل عدوه إذ سنح بخاطره أن لهذا العدو أما وحبيبة وأبناء، وبالتالي فإن "الانتقام" الوحيد المنطقي بالنسبة إلى الضحية، هو تجاهل مغتصب الأرض، وكأنه لم يكن. عدالة شعرية، يمكن القول، إذ يصعب على الشاعر البسيط، الذي كل حلمه أن يجتمع يوما بحبيبته، وأن ينال قبول والده، وأن يعود إلى قريته، أن يرى نفسه في مرآة جلاده، قاتلا مغتصبا لا يملك لغة سوى العنف والإقصاء.

محمد علي طه

حكاية محمد علي طه، مع ذلك، مفعمة بالأسى. وإذا كانت المسرحية كتبت قبل سنوات من 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وحرب الإبادة التي تلت ذلك، فإنه يصعب مشاهدتها اليوم بعيدا من وقائع المجزرة اليومية. وكأن هذه الأحداث الأخيرة، هي الفصل غير المروي من حكاية محمد علي طه، بل هي استكمال طبيعي لما بدأ في 1948 وما عايش محمد علي طه وأهله وجيله نتائجه الفادحة. لعل الجمهور فهم ذلك أو أراد أن يفهمه كذلك. فصفق طويلا في نهاية العمل، وكان الشعور المهيمن، إلى جانب التعاطف، هو ذلك الشعور البسيط بتأكيد الحقيقة التي باتت معروفة للجميع، لا بمحاولة خلق مسارات أخرى لتلك الحقيقة.

السؤال المؤرق

سر ذلك التفاعل، وهو سر قوة العمل على بساطة أدواته، في أنه يجيب بطريقة غير مباشرة عن السؤال المؤرق "لماذا حدث 7 أكتوبر؟ وهل ما شهدناه ونشهده منذ ذلك الوقت، هو وليد ذلك الحدث، ويمكن فصله عن كل السياق التاريخي السابق له؟ الجواب بكل بساطة: لا. الحكاية لها جذور لا يمكن إنكارها، وكل ما جاء بعد النكبة، وصولا إلى يومنا هذا، ما هو سوى فصل من فصولها المتتابعة، وصولا إلى ما نراه اليوم من نكبة جديدة تتحقق أمام عيون العالم بأسره، وكأن الاحتلال يقول إن ما لم نستكمله في الضفة وغزة وكل فلسطين، في 1948 و1967، نستكمله اليوم، بصورة أوضح وأوقح وأكثر دموية بكثير. ليس من ذكر لغزة في هذا العمل، لكن غزة ماثلة في استقباله، ودون قصد، ماثلة في صلب حكايته.

في النهاية ولد الشاعر وحمل اسمه وعاش حياته وأحب وكتب الشعر، ولعل هذا هو الانتقام الأكبر، بل الرد الأكبر، على الاحتلال

ذلك أن مثال محمد علي طه، بوصفه لاجئا عن أرضه في أرضه، ليس استثناء، فهو كل فلسطيني في وقتنا هذا، بصرف النظر عن مكان عيشه، داخل فلسطين أو خارجها، وهذا المثال ليس بالضرورة أن يستدعى الفجيعة والأسى، إذ أنه في المقلب الآخر تماما، ومن حيث لا يتوقع الاحتلال، يشكل حجة دامغة على حقيقة أخرى بسيطة، وهي استحالة الاحتلال، وأنه مهما طال به الزمن يظل مؤقتا، على ما يدرك ذلك والد محمد علي طه. يقول لنا الشاعر إن والده خلال احتضاره أوصى أبناءه، كل بوصية مرتبطة بحياة البشر العاديين، إلا أنه امتنع عن أن يوصي طه بشيء، وحين سأله طه مستغربا عن السبب، قال له إن أحلامه أكبر من تقال في وصية. ما لا يقوله نص عامر حليحل، هو أن حلم طه محمد علي هو حلم الشعراء وحلم من يمتلكون لغة وذاكرة، ويحرسونها على مر الأجيال، وهو أن تعود الأرض يوما، أن ينتهي الاحتلال، وأن يعود اسم صفورية لها.

مسرحية "طه" لعامر حليحل

فلسطين في نهاية المطاف تشبه طه محمد علي. ذلك الشاعر الذي ولد بعد موت عدة أشقاء له وقت الولادة، ولادة مستحيلة، وكأن الحياة لم تكن تريده وقاومت ولادته، لكنه في النهاية ولد وحمل اسمه وعاش حياته وأحب وكتب الشعر، ولعل هذا هو الانتقام الأكبر، بل الرد الأكبر، على الاحتلال.

font change

مقالات ذات صلة