مهرجان "أفلام السعودية"... قصص تُرى وتُروى

"سينما الهوية" محور جاد للنظر إلى السينما باعتبارها وسيلة لابتكار المستقبل

مهرجان "أفلام السعودية"... قصص تُرى وتُروى

في قلب التحولات الكبرى يسطع مهرجان "أفلام السعودية" في دورة متمايزة كمنصة فنية تُجسد روح التغيير، وتعكس النبض الجديد الذي يسري في عروق السينما، ليؤكد حراكا فنيا جماليا ينمو بثقة، ويعبّر عن جيل سينمائي طامح لإعادة صياغة شاشته برؤية محلية تستوعب العالمية متمسكة بجذورها.

المهرجان الذي احتضنه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي "إثراء" تجاوز دور عرض الأفلام إلى جلسات حوارية وبرامج متنوعة شكلت الوعي البصري لدى الجمهور والمبدعين، وغدت جسرا يربط الماضي بالحاضر، والتقليدي بالمعاصر، تلاقت فيه الأصوات المختلفة لتشكل ملامح هوية سينمائية حديثة مصدرها القصص اليومية، والروايات المشحونة بصدق التجربة وثراء المعارف المتنوعة.

اليوم أتذكر حكاية المهرجان الذي انطلق في عام 2008 كمبادرة، ليشهد بعدها قفزات نوعية، فتجارب لأفلام قصيرة بجهود فردية، فشراكات استراتيجية بين جمعية السينما السعودية، ومركز "إثراء"، فإنشاء هيئة الأفلام، فعناية من قبل هيئة الترفيه، فمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، فجوائز قيّمة... وكل هذه الأحداث المتلاحقة بلا شك هيأت منصة احترافية لصنّاع الفيلم السعودي، ليغدو المهرجان مختبرهم السينمائي الخاص.

في دورته الحالية اختار المنظمون شعار "قصص تُرى وتُروى" وهو بحق هوية عميقة تعكس جوهر السينما بوصفها لغة الشعوب البصرية؛ وإلى جوارها يعكس قصصا سعودية معظمها في طي الكتمان وآن لها أن تُروى بلغة تخاطب أبصار العالم وتوثق ذاكرة الإنسان... وهذا لا شك سيتطلب مزيدا من العطاء والشراكات والرقابة الدائمة على كل ما سيُعرض مستقبلا.

إضافة للشعار جاء محور المهرجان "سينما الهوية" ليترجم فلسفة فنية طالما احتاجها المشهد الفني السعودي لتكون له جسرا بصريا يعيد ربط الحاضر بالماضي، ويُقدم التراث بأسلوب حديث دون أن يفقده ملامحه الأصلية.

"سينما الهوية" أراه محورا جادا للنظر إلى السينما باعتبارها وسيلة لابتكار المستقبل، ولغة تعبيرية عن كل ما تعنيه الهوية في زمن التشكل الرقمي والذكاءات وإنترنت الأشياء الذي تواجهه الهوية.

سيرة الفيلم السعودي، وخلال سنوات قليلة توقفنا احتراما لتلك الجهات التي اعتنت به وقدمت له ما يمكّنه من الوجود على سجاد المهرجانات والجوائز الدولية

في دورته الحالية فتح المهرجان نوافذه للمشهد السينمائي العالمي من خلال استضافة شخصيات دولية وعربية بارزة، ما أضفى بُعدا عالميا على تجربة ومكانة الفيلم السعودي كلاعب فني يسعى لأخذ موقعه على خارطة المهرجانات السينمائية في المنطقة. كما استقبل أفلاما من العراق واليمن وغيرها ما يؤكد التزامه ببناء جسور ثقافية تتجاوز الجغرافيا وتوسع شراكاته.
    يمثل المهرجان اليوم كما رأيت خطوة مهمة في صناعة "سوليوود" تؤمن بالفن كقيمة، وترى في السينما وسيلة للتعبير والتغيير. مع هذا يتحرك داخلي سؤال مشروع: هل ستتحول هذه الطاقة الإبداعية إلى صناعة حقيقية؟ بمعنى آخر، هل هناك استراتيجيات واضحة لربط الإنتاج السينمائي السعودي المتزايد بمنصات أوسع للتوزيع، وشركات الإنتاج، والسوق الإقليمية والعالمية؟ وهل سنشهد قريبا ظهور شبكة إنتاج وطنية موحدة ومهرجانات دولية إضافية بتمويل مؤسسي واسع؟ هذه التساؤلات وغيرها يجب أن تُطرح الآن أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع الدعم الكبير الذي تتلقاه السينما من قبل وزارة الثقافة ممثلة بهيئة الأفلام.
إن سيرة الفيلم السعودي، وخلال سنوات قليلة توقفنا احتراما لتلك الجهات التي اعتنت به وقدمت له ما يمكّنه من الوجود على سجاد المهرجانات والجوائز الدولية فمركز "إثراء" وحده وبوقت قياسي ساهم وموّل إنتاج 23 فيلما سعوديا، وأعلن عن 15 فيلما سيتم إنتاجها. كما قدم 55 ورشة عمل حول السينما وإنتاج الأفلام. 
ومن "إثراء" إلى المهرجان الذي استقبل في مسابقة الأفلام 285 فيلما، وفي مسابقة سوق الإنتاج 116 فيلما، وفي مسابقة السيناريو غير المنفذ 313 سيناريو. كما تضمن المهرجان 8 أفلام روائية سعودية وخليجية طويلة، و7 أفلام وثائقية، و21 فيلمًا قصيرًا بين سعودي وخليجي. وقد بلغ عدد الأفلام الموازية 12 فيلمًا سعوديًا، يصاحبها 7 ندوات و4 برامج تدريبية مع عقد 3 جلسات يتخللها توقيع كتب الموسوعة السعودية للسينما، إضافة إلى سوق الإنتاج الذي ضم 22 مشروعا. ومن لغة الأرقام الضخمة نتوقف أمام المشاركات التي سجلت في مسابقات الأفلام والسيناريو غير المنفذ البالغة حتى دورة المهرجان العاشرة 1444 فيلماً، إضافة إلى 2162 سيناريو غير منفذ. 

يعني ذلك أن لدينا بنكا سينمائيا سعوديا يجب الاهتمام به وتطويره. يعني أيضا أن مستقبل الفيلم السعودي مطمئن إلى حد، وليس مطمئنا بالكامل، إذ ما تزال بعض الجهات ذات العلاقة وحتى اليوم لم تنصهر ضمن منظومة الدعم الفني والمؤسسي الواجب عليها بذله من أجل اكتمال سيرة تليق بالسينما السعودية.
أمام لغة الأرقام الهائلة الآنفة الذكر يمكننا التفاؤل بأن القائمين والمنتمين إلى عوالم السينما السعودية يجتهدون في جمع أكبر تكتل فني محلي وعربي يوحدهم بإيمان جمعي أن المهرجانات تحولت اليوم إلى رافد مهم لأجيال تعيد اكتشاف ذاتها، وحكاياتها، وأحلامها، بالصوت والصورة، صانعة بذلك مساحة للبوح، ومختبرا للهوية، وسجادة سعودية حمراء الوقوف أو المرور عليها يجب أن يكون مجرد خطوة نحو السجادة العالمية؛ من خلال تقديم فيلم سعودي يكتبه الحالمون، ويخرجه الوطن، ويستمتع بمشاهدته العالم...

font change